شعار قسم ميدان

"شاوشنك" والسجن كبعد دنيوي للجحيم

cover

 

يبقينا الأمل أحياءً نترقب شروق الشمس التالي بجبين مرفوع عوض انتظاره بأسى. ينعش مشاريعنا المؤجلة ويبقي على تركيزنا متّقدًا. وما يبقي على هذا الأمل حيًا ثقتنا بأننا على أتمّ المعرفة بوضعنا الحالي، على الرغم من أنّ إمكانية تعرضنا للغش والخداع، سواء من قبل أشخاص آخرين أو من قبل أنفسنا، قد تتهدد هذه الثقة. وبرغم ذلك، فالأمل يعدنا بزمان أو مكان حيث تؤول الأمور للأفضل، وإن بدى أننا عالقون في جحيم أزلي. لقد صورت الأدبيات على مدى الألفية الجحيم كمكان يعج بالشياطين المروعة والغريبة، وحيث الشيطان يحكم قبضته على جهنّم،حيث التعذيب الأزلي، و الأمل محال. هذه الأدبيات الجامحة تبدو وكأنها تنتمي إلى عالم آخر. لكنّ فيلم "الخلاص من شاوشانك Shawshank Redemption‘ يصوّر بُعدًا دنيويًا لهذا الجحيم، ألا وهو السجن.

 

وفقًا للرواية التي ألفها ستيفن كينغ، فإن الفيلم يبدأ في ولاية مايني سنة 1947. حيث محاسب شهير وناجح يدعى آندي دورفينس والذي يلعب دور شخصيته الممثل تيم روبنز Tim Robins مدان بتهمة قتل زوجته وعشيقها لاعب الجولف. وبالرغم من عدم وجود حجة غياب مقنعة، وتوافر الدافع، والفرصة، إلا أنّ آندي يصر على براءته حتى النهاية. وحينما يدخل سجن شاوشانك – والذي تحاكي واجهته الخارجية قصرًا أو كاثدرائية قديمة –  لا تلقى ادعاءاته البراءة آذانًا صاغية. فكلّ حكم نُفِّذ هنالك يقول إنه قد تعرض للخيانة على يد هيئة محلفين منحازة، قاضٍ فاسد أو محامٍ غير كفؤ – والاستثناء الوحيد في هذه السلسلة هو الممثل مورجان فريمان Morgan Freeman عن دوره في شخصية السجين ريد، وهو مدان قديم في السجن يعترف، ويسر بندمه، عن جريمة قتل ارتكبها حينما كان شابا طائشا. ريد هو من يقوم على السرد في الفيلم، ومن خلال ناظريه يطّلع الجمهور على عبارة سارتر الشهيرة "الآخرون هم الجحيم". في ذات الوقت، فإن ثمة لحظات في حكاية ريد حول شاوشانك وآندي تتجلى فيها عيوب رؤية سارتر للجحيم.

 

دائمًا وأبدًا
undefined

إنَّ فكرة سارتر حول كون الجحيم أشخاصًا آخرين لربّما تبدأ في تحليله ‘النظرة’ في كتابه الكينونة والعدم [ترجمة المنظمة العربية للترجمة – بيروت] الصادر سنة 1943، حيث يناضل الأفراد من أجل الإبقاء على حريّتهم من نظرات الغير.  في مسرحية سارتر لا مخرج No Exit (1944) ، يسبق قول هذه العبارة فكرة أن عيون الآخرين ونظراتهم تلتهم ما تقع عليه [شرهة]. في المسرحية، يبدأ جارسين وإستيل بالوقوع في حب بعضهما بعضا، لكن إنيز، العالقة معهما في ذات الغرفة، تحدق فيهما بعنادٍ. وبرغم سعادة جارسين، إلا أن إنيز تصر على النظر إليهما لأن الظلمة لن تغمر أبدًا هذين الحبيبين المحتملين ولذلك فإنها ستنظر إليهما بلا ملل. إنها نظرة إنيز وهذا الإحساس بالأزلية ما يُدين الحبيبين.

 

‘دائمًا’ و’أبدًا’ يشكّلان عناصر لا تتجزأ من الجحيم. في دراسته التي تتناول كل العصور، الرعب من الجحيم (1987)، يقول بييرو كامبيروسي  piero camporesiأنّه وفقًا لنصوص العصور الوسطى، "إنّ الباب الذي تقبع خلفه كل الشرور المميتة موصد بمفتاحين من حديد:  هما دائمًا وأبدًا…ومن ذا الذي يستطيع أن يتصوّر أي معاناة يمكن لمقطعين قصيرين من اللغة، دائمًا وأبدًا، عناصر الرعب الأزلي، أن تبعث عليه؟"  (ص36).

 

يلحظ كامبروسي أيضًا أنه عوض فصل الكون إلى نصفين (نعيم وجحيم)، فإنّ العديد من المفكّرين قد ذهبوا إلى أن للكون طبقات ثلاث: فالأعلى للنعيم، والقاع للجحيم، أمّا الذي في المنتصف – ألا وهو، العالم البشري – فإنه يحوي عناصر من العالمين. وههنا يتملك البشر إحساس باللعن إثر معاناتهم المستمرة لتهاونهم في بعض الأمور.      

 

عالم سجن شاوشانك يقع في الطبقتين الوسطى والمتدنية من هذا الكون. حينما يصل آندي دوفرينس، يتراهن السجناء القدامى على أن السمكة الجديدة (الموقوف الجديد) سيبكي مستنجدا بأمه حال سماعه أبواب السجن تصفق بقوة في الليلة الأولى لمكوثه. فالرجل الذي بكى سابقًا مات بعدما تلقى الضرب المبرح على يد قائد السجن.

 

بوصفه رجلا يخاف الله، فإنّ الآمر يعلم المعتقل بقاعدة واحدة: احترام الرب وتقديس اسمه. وبعد ذلك، يتابع قائلا، "إن الرب يعتني بروحك، لكن جسدك يخصني أنا" ثمة أيضا جماعات من المعتقلين تدعى "الأخوات" أو "ثيران شاذة" – وهم معتدون جنسيا يروقهم استخدام العنف لإشباع رغباتهم – بمن فيهم جماعة "أخوات" يعتدون على آندي.

 

يقرر الحارس أي المعتقلين يمكن أن يتلقى معاملة جيدة، أو مهامّ شاقة، أو عقوبات قاسية. وعلى الرغم من استشهاده بالكثير من عبارات الكتاب المقدس، إلا أن الحارس لا يتبع قانونًا عاما. يصبح وحده مصدر التشريع ليعكس بذلك صورة الشيطان – حيث القسوة، والضيم، والعقاب الذي لا ينتهي. حينما يعلم آندي أن ثمة شاهدًا في وسعه تأكيد براءته من جريمة القتل المزدوجة، يتخلص حارس السجن من الشاهد، ويعاقب آندي بالمكوث لشهر في الزنزانة الانفرادية. وحينما يهدده آندي بأنه سيتوقف عن استخدام مهاراته المصرفية لمساعدته في غسل أموال ميزانية السجن إلى حسابه المصرفي، يضيف الحارس على عقوبته في الانفرادي شهرا إضافيا.

 

ما بعد الصمت والظلمات
(صورة من الفيلم)
(صورة من الفيلم)

هل البشر هم الكائنات الوحيدة التي تعاقب أحد أبنائها بالعزل الانفرادي؟ العزل هو أحد أقسى أنواع العقاب المستخدمة اليوم، وبالنظر إلى آثاره الجانبية على الضحية، فلعلّ المسمى الأدقّ له هو "التعذيب". إنه يعطّل ويشوّش على إحساس المُعتقل بالزمن والمكان، حيث لا يرى المعتقل ولا يسمع شيئًا عدى تنفسه ونبضات قلبه. وإطلاق سراحه من العزل لينضمّ إلى المعتقلين الآخرين مرة أخرى ينطوي على إحساس شاذ بالحرية.

 

لا تنطلي هذه المسخرة على ريد. ويشير إلى أنه بعد مرور سنوات على مكوث المرء في السجن، فإن جدرانه سرعان ما تعرّف السجين: "هذه الجدران مضحكة. في البداية تكرهها، ومن ثمّ تعتاد عليها. وبعد مرور ما يكفي من الزمن، تجد نفسك مشروطًا بها". هذه الحرية لدى ريد تجد صداها لدى مواضيع سارتر المركزية في محاضرته، الوجودية والإنسانوية Existentialism and Humanism  (1946)، حيث يصف الحرية على أنها مشروع يطالب بالتيقظ المستمرّ والمرن. دون هكذا تيقظ، فإن الإنسان سرعان ما سيترك مسألة تعريف ذاته رهينة أشخاص أو مؤسسات أخرى.

 

أحد الأمثلة على هذه المرونة يكون حينما يذيع آندي، الذي يضمن أخيرًا الدخول إلى المكاتب الإدارية، لحن مقطوعة موزارت على جهاز الإذاعة الداخلية للسجن. ريد، والمعتقلون الآخرون، يحسّ فجأةٍ بوخزِ الأصوات الملائكية التي تصول في أنحاء السجن: "لقد بدى الأمر كما لو أن عصفورًا بديعًا قد انسلّ إلى قفصنا الصغير الرتيب، لتضمحلّ بصوته كل تلك الأسوار والجدران. وللحظات قليلة، شعر كل سجين في شاوشانك بالحرية".

 

يقضي آندي أسبوعين في العزل الانفرادي عقابا على فعلته. بعد خروجه من العزل الأخير تعتري رفاقه الدهشة بسبب معالم الارتياح التي تبدو عليه، بما أنهم يعرفون أي يرعب يبعث المكوث في الانفرادي لأيام. يذكرهم آندي بموسيقى موزارات، وكيف يبقي الجمال على إحساسنا الداخلي بالأمل. والأكثر من هذا كله، تذكيره لهم، بألا يسمحوا للحراس، والآمر، ومجلس الإفراج المشروط، وحتى سجناء آخرين، بأن يدمروا هذا الإحساس الداخلي بالأمل. وههنا نرى أن الجمال والأمل متداخلان.

 

الأمل هو.. شخص آخر
(صورة من الفيلم)
(صورة من الفيلم)

على الرغم من الاستطلاعات الوجودية العديدة في فيلم شاوشانك ريدمبشن، إلا أن عددا من المشاهد يسلط الضوء على عيوب مفهوم سارتر في كون الجحيم أشخاصا آخرين.

 

في البداية يكون آندي شخصا منعزلًا. ويتعرف إلى ريد كزبون، بما أن ريد يشتري ويبيع بضائع مهربة للسجناء الآخرين. من خلال ريد، يتعلم آندي أن السجن مجتمع مصغّر: تتوافر الحياة في شاوشانك على تحالفات ممكنة، وتعاونات وارتباطات ذات فائدة متبادلة، حتى فيما يتصل بعلاقة السجناء بسجّانيهم – بمن فيهم الحارس والقائد يده اليمنى.

 

يتعرف آندي إلى الحاجة لنوع من الصداقة الجماعية. ويعتريه الإحساس بلحظةٍ عاطفية جارفة حينما في أيام الربيع الأولى يحتاج آمر السجن إلى عدد من المساجين لترميم السطح. يقوم ريد برشوة الحراس لتعديل عملية اختيار العمال بحيث يتسنى له ولأصدقائه، الاستمتاع بالهواء الطلق.  ويتناهى إلى سمعه كلام القائد – الذي أوسع المعتقل الجديد ضربًا حتى مات – وهو يشكو إمكانية خسارته حصة هائلة من ثروته لصالح الضرائب، ويجازف بحياته حينما يسأله إن كان يثق بزوجته. وقبل أن يقوم القائد المهان بدفع آندي عن السطح، يشرح آندي على الفور أن ثمة قانونًا يبيح للقائد منح ثروته لزوجته دون أن تتمكن الضرائب من الظفر بفلس واحد.

 

يعرض آندي خدماته على القائد ليحقق له التالي؛ أن يسمح آمر السجن لآندي وزملائه العاملين بشرب البيرة الباردة لقاء عملهم الشاق. وبالنظر إلى الزمن الذي قضوه دون شرب البيرة المثلجة، يقول ريد، إن ذلك جعلهم يشعرون وكأنهم رجال أحرار. يدرك كل من ريد وآندي أن صداقة حقيقية بدأت بالظهور.  ويفكّر كلاهما مليا في الخيارات المتاحة: "إمّا أن ينشغل المرء في موته أو ينشغل في العيش". بعد ذلك، يستخدم آندي مهاراته المميزة لتوسيع مكتبة السجن وتحسينها، ويعيد أموال الضرائب للحراس، ويتدخل حينما يهدد بروكس وهو سجين قديم بطعن سجين جديد، ويعلّم حتى مُدانًا يافعًا لكي يتحصل على شهادة المدرسة الثانوية. وأخيرًا يعترف لريد كيف قام بتحويل بعض الأموال التي نهبها آمر السجن من الضرائب إلى حسب خاص تحت اسم مزيف، وجواز سفر ورقم ضمان اجتماعي مزيفين أيضًا، لا يعرفهم سواه. كان في وسع ريد الحصول على إطلاق سراح مشروط فوري فيما لو مرر هذه المعلومة لآمر السجن. لكن ردّه الوحيد كان إطلاق ضحكة مرحة على سخف الحال واستراتيجية صديقه الذكية.

 

ومع ذلك، لا يخبر آندي ريد عن النفق الذي كان يحفره طيلة عشرين عامًا مضت. ولعله يسدي معروفًا لصديقه بكتم هذا السر إلى حين تحسين فرصه بالهروب. في المحصلة، فقد تطلب الأمر الحفر خلال خمسمائة ياردة من القاذورات ومياه الصرف الصحي حتى صار خارج جدران السجن، وريد ربّما لم يكن ليحتمل كل هذا الكدّ جسديا. وعوض ذلك، بعد هروب آندي، يحصل ريد أخيرًا على إطلاق سراح مشروط. ويتجه فور خروجه صوب شجرة في نيو إنجلاند حيث أخبره آندي أنه دفن طردًا. يجده ريد، عند كلمته، فقد ترك آندي بالفعل ظرفًا فيه مبلغ من المال ورسالة تحث ريد على الانضمام إليه في المكسيك، وهو الأمر الذي يلبيه بكل سرور.

 

نهايات متباينة
تنتهي رواية ستيفن كينغ ببساطة بتلاوة ريد صلاة 'إنني آمُل'' كتعبير عن الحرية والاجتماع النهائي بصديقه.
تنتهي رواية ستيفن كينغ ببساطة بتلاوة ريد صلاة ‘إنني آمُل" كتعبير عن الحرية والاجتماع النهائي بصديقه.
 
أثارت خاتمة الفيلم جدالات متباينة. حيث تنتهي رواية ستيفن كينغ ببساطة بتلاوة ريد صلاة ‘إنني آمُل" كتعبير عن الحرية والاجتماع النهائي بصديقه. على الرغم من أن الفيلم ينتهي بركوب ريد حافلة إلى المكسيك، إلا أنّ اللقطة النهائية تكون لقطة واسعة لشاطئ مكسيكي، بينما آندي وريد يتعانقان. قبل عرض الفيلم على الجمهور، تضمن مشهد المعانقة استجابات أكثر اتقادًّا عن تلك التي كانت في نسخة الحافلة من أعلى التل.

 

ناقد الفيلم مارك كيرمود يثير جدالا رائعًا في كتابه Shawshank Redemption (2003) ، حول كون نسخة الفيلم النهائية غير مبررة سواء من الناحية الجمالية أو الموضوعية:  إنها تسترضي عاطفة الجمهور، وتستخفّ بقدرته على فهم الأمل المتكشف بركوب حافلة إلى المكسيك. وعمومًا، فإنّ كلا من الرواية والفيلم يقدمان نقيضًا حادًّا للنهاية في مسرحية لا مخرج. التي يرويها سارتر.  بالسيناريو الخاص به حول ثلاثة أفراد يسلمون انفسهم لحقيقة أنهم لن يهربوا أبدًا يلازمون بعضهم بعضا دائمًا وأبدًا.  على النقيض، فإن ريد وآندي يستمتعان أو يتصوران لحظة حيث معاينات الآخرين ونظراتهم الفاحصة يحل محلها الأمل والحرية في الدفء والسعادة والفكاهة مع بعضهم بعضا. وهذه الحرية هي الصداقة.
 

المادة مترجمة: رابط المادة الأصلي 

المصدر : الجزيرة