شعار قسم ميدان

وهج البدايات.. نماذج فريدة لأفلام صعدت بمخرجيها للعالمية

ميدان - مخرج

في كتابه "فن الإخراج السينمائي" يقول سيدني لوميت إنه حين وقف في موقع تصوير لأول مرة ليخرج باكورة أعماله "12 رجلا غاضبا" (12 Angry Men) شعر بأن "دقات قلبه تتسارع، وصوته لا يكاد يخرج من فمه"، ويفسر ذلك بأن ما حدث كان خليطا من الحماسة والخوف والشعور بأنه "لو كان فيلمي الأول هذا هو فيلمي الأخير فأنا أريد له أن يخرج بأفضل صورة".
 
جملة لوميت هي اختصار لماهية أي فيلم أول بالنسبة لصانعه، تلك الحماسة المفرطة والرغبة في اختصار رؤيتك للعالم داخل ساعتي زمن خوفا من أن تكون آخر فرصة متاحة، وإذا كان "أي فيلم هو بالتحديد خَلق فني مصنوع بواسطة أناس تجمعوا لاكتشاف قصة"(1) فإنه في الكثير من الأحيان يكون العمل الأول بمنزلة محاولة اكتشاف "أي قصة تريد أن تحكيها من أجل أن تعيد سردها مرارا بعد ذلك"(2). وفي هذا التقرير استعراض لتجارب أولى لصنّاعها، لم تتميز فقط بقيمتها الفنية الرفيعة، ولكن بأنها حملت الهوية والبصمة لصنّاعها، وصارت أفلامهم اللاحقة -بشكل أو بآخر- هي استخدام لنفس الأدوات والثيمات السردية التي ذهبوا إليها أول مرة.
 

"12 رجلا غاضبا" – سيدني لوميت (1957)

دقات القلب المتسارعة والصوت الذي لا يكاد يخرج من الفم آتت ثمارها هنا بواحد من أفضل السيناريوهات التي كُتبت في تاريخ السينما، والفيلم الذي ازدادت قيمته مع الزمن، من عمل بسيط ذي موقع تصوير واحد ومخرج كان يُنظر إليه باعتباره مخرجا تلفزيونيا في الأساس، وأنه لن يغامر المنتجون بمنحه الكثير من الأموال، إلى واحد من رموز هوليوود طوال تاريخها، وعمل سينمائي رفيع وشديد الشعبية على المستوى النقدي والجماهيري.
 

 المخرج السينمائي
 المخرج السينمائي "سيدني لوميت" (آي إم دي بي)

 
لوميت هنا كان قادرا (كمخرج) على أن يصنع موازيا بصريا قويا لواحد من أكثر نصوص السينما مسرحية، الطريقة التي يغير بها العدسات مع تقدم الفيلم للأمام من أجل رفع وتيرة التوتر، "إشعار المشاهدين أن المكان صار أكثر ضيقا" كما يقول في كتابه، بالإضافة إلى استخدامه اللقطات المقربة المستمرة بقطعات سريعة لوجوه الشخصيات (في عقد الخمسينيات لم يكن هذا الأسلوب معتادا)، مع خلق عناصر بصرية بسيطة بشكل مستمر للتأكيد على تفصيلة أو أكثر بالنسبة لكل شخصية من الرجال الاثني عشر، لتكون النتيجة هي عمل بهذه الديمومة.

ولكن الملاحظة الأبرز -بالنسبة لموضوع التقرير- هي أن الكثير من عناصر "12 رجلا غاضبا" (12 Angry Men) استخدمها لوميت بعد ذلك في أفلامه، على رأسها الاستخدام المكثف للحوار بين الشخصيات، والقدرة على رفع وتيرة التوتر بناء على قيادة ممثليه إلى أداءات وصراعات ثنائية رفيعة كما يفعل في "شبكة" (Network 1976)، كما أنه مغرم بأفلام المكان الواحد كما في "عصر يوم قائظ" (Dog Day Afternoon 1975) و"جريمة في قطار الشرق السريع" (Murder on the Orient Express 1974)، وحكاية عن فرد في مواجهة الجماعة "سيربيكو" (Serpico 1973)، كما أنه يحب قطعا أفلام المحاكم من منظور بطل يتحد معه المشاهد "الحكم" (The Verdict 1982)، وأخيرا فهو الرجل الذي كان آخر أفلامه -كأولها- فيلم جريمة مُلغز على خلفية علاقة معقدة مع الأب (Before the Devil Knows You’re Dead 2007).
 

 فيلم 12 رجلا غاضبا (آي إم دي بي)
 فيلم 12 رجلا غاضبا (آي إم دي بي)

 

"نفَس لاهث" (Breathless) – جان لوك جودار (1960)

بعد عام واحد من فوز فرانسوا تروفو بجائزة أفضل مخرج في "كان" عن (The 400 Blows) وعرض فيلم آلان رينيه (Hiroshima Mon Amour) في المسابقة الرسمية لنفس المهرجان، في باكورة أعمالهم ضمن عام يعتبره أغلب النقاد لحظة الميلاد الحقيقية لـ "الموجة الفرنسية الجديدة"(3)، كان الضلع الثالث في ذلك الميلاد جان لوك جودار ينتظر عاما آخر من أجل عرض فيلمه الأول "نفَس لاهث" (Breathless) في مهرجان "برلين" السينمائي، وينال جائزة أفضل مخرج عن عمله الثوري جدا هنا، ويتغير -بفعل الأفلام الثلاثة وعشرات غيرها- خلال عقد الستينيات شكل السينما إلى الأبد.

في ذلك العقد تحديدا كان جودار يلهو بكل القواعد السينمائية المتعارف عليها، حيث إنه كان يتعامل مع السينما تماما كما يجب: فن وليد يحتمل مساحات ضخمة من الابتكار والألاعيب، ويصنع أفلاما لا يشابه أي منها فيلما آخر تم صنعه من قبل، وفي "نفَس لاهث" (Breathless) يحمل الكثير من السمات التي ستتكرر بعد ذلك: صورة بطل مهزوم كأغلب أفلامه اللاحقة، التصوير المكثف في الشارع والأماكن الحقيقية، الـ "Jump Cut" في الكثير من اللحظات المحورية (كأسلوب قام به جودار بالمصادفة لمحاولة تقصير مدة الفيلم وصار بعد ذلك طريقة في المونتاج)، الحوارات الطويلة المتداخلة المعقدة التي لا تطور في الحبكة بقدر ما تعمق في تفاصيل الشخصيات، التأثر والاستلهام الخفي بثيمات كلاسيكية تجارية في السينما الهوليوودية وإعادة إنتاجها بصورة مختلفة، بل وتقديم التحية لرمز من قبيل هامفري بوجارت أكثر من مرة، وأشهرها وقوف البطل جان بول بلموند أمام صورته في دار سينما وتحيته بإحدى لزماته في فيلم "النوم الكبير" (The Big Sleep).
 

 
لتكون النتيجة هي فيلم أول يُشبه كل الأفلام التالية من ناحية التجريب وعدم الالتزام بالقواعد وصورة البطل الذي يريد المخرج أن يحكي عنه، وفي نفس الوقت لا يُشبه بالضرورة أي فيلم آخر له لأنه أراد -طوال الوقت- الذهاب إلى نقطة أخرى مختلفة لم يذهب لها من قبل.
 

"مستودع الكلاب" – كوينتن تارنتينو (1992)

هناك جملة مشهورة لكوينتن تارنتينو تختصر شيئا من مسيرته، وهي قوله، عند فوزه بالسعفة الذهبية عام 1994 عن فيلم "خيال رخيص" (Pulp Fiction)، أنه "حينما يسألني الناس هل ذهبت إلى مدرسة سينما؟ أرد عليهم بأنني ذهبت إلى السينما". وهي جملة دقيقة للتعبير عن نوع الأفلام التي قدمها طوال 25 عاما حتى الآن، وكانت إحدى مميزاتها الأساسية هي الخليط المتكرر بين صنوف وأشكال سينمائية متعددة اطلع عليها تارنتينو أثناء عمله في إحدى محال الفيديو خلال الثمانينيات، وصنع من خلالها ذوقه الذي يتداخل فيه كل شيء، كلاسيكيات هوليوود، سينما الدرجة الثانية (الـ B-Movies)، أفلام القتال الآسيوي، العصابات والويسترن والسيارات، وحتى التأثر بفنون بصرية أخرى (على رأسها المانجا اليابانية) لتخرج الأفلام خليطا من كل هذا.
 
البعض يعتبر أن طريقة تارنتينو في الأخذ من أفلام أخرى هي مجرد سرقة، حيث إنه في عام 2008 قام مايك وايت (صانع أفلام هاوٍ) بوضع فيديو على يوتيوب للمقارنة بين فيلم تارنتينو الأول "مستودع الكلاب" (Reservoir Dogs 1992) وفيلم الحركة الآسيوي "مدينة النار" (City of Fire) الذي أنتج عام 1987 وكان من بطولة النجم الصيني الأهم في تلك الفترة تشاو ين فات، إذ قام بوضع المَشاهد بجانب بعضها، ليوضح -تبعا لـ وايت- أن هناك سرقة فنية واضحة، القصة وتطورات الحبكة وبعض الحوارات واللحظات المحورية كما هي تقريبا، ومع ذلك لم يؤثر ذلك شيئا في قيمة الفيلم، ولم يدفع "مدينة النار" ليكون أكثر قيمة من فيلم تارنتينو، لأن هناك سحرا مختلفا -في شكل التنفيذ والأداءات واختيار الجمل والحوار- يجعل "مستودع الكلاب" هو "مستودع الكلاب"، ويتجاوز بـ تارنتينو مرحلة أنه مُقلد إلى أنه صانع أفلام أصيل جدا عن طريق دَمج كل ما سبق إنتاجه، لتكون النتيجة مختلفة، وما حدث هنا تكرر مرارا في كل أفلامه التالية، لأن المهم ليس القصة بالضرورة ولكن كيفية سردها.
 

و"مستودع الكلاب"  لا يحمل فقط طريقة تارنتينو في التعامل مع المُنجز الفني لآخرين سبقوه واستعماله داخل أفلامه، وهو ما سيحدث لاحقا طوال الوقت، ولكن إلى جانب ذلك هناك أيضا محركات درامية مثل الانتقام والخيانة والعصابات التي تنقلب على بعضها، والشخصيات العنيفة التي تتدرج لنقاط عاطفية جدا في علاقتها بالآخرين، ثم العنصر الأبرز الحوارات الممتدة الطويلة، وتحديدا حين تكون على تفاصيل صغيرة وتبدو تافهة، ففي أول تعارف بين العالم وبينه كان هناك مشهد من أربع دقائق في افتتاحية "مستودع الكلاب"، يجلس فيه ثمانية رجال عصابات (ستة منهم ببِذَل سوداء كاملة) ويتحدثون عن أغنية "Like a Virgin" لمادونّا، كانت صورة غرائبية جدا وغير معتادة، تبدو هزلية للحظة الأولى، قبل أن نضطر لاتخاذها بتمام الجدية لأن هؤلاء الرجال دمويون جدا ولا يمزحون! هذا الخليط من مزج الحوارات المعتمدة على الثقافة الشعبية (أو عنصر آخر يبدو هزليا بشكل عام) مع رجال خطيرين للغاية (مهما اختلفت عصور والأسلحة والأشكال) تبدو البصمة الأهم في أفلام تارنتينو السبعة اللاحقة على "مستودع الكلاب".
 

  

"قتلت أمي" – إكزافيه دولان (2009)

في عام 2009، وحين كان في التاسعة عشر فقط من عمره، أخرج الكندي إكزافيه دولان فيلمه الأول "قتلت أمي" (I Killed My Mother) الذي كان حدثا مهما حينها، عُرض في "كان" و"تورنتو" و"روتردام"، وفاز بـ 27 جائزة(4)، وجعل من مخرجه أحد الأسماء المنتظرة بشدة خلال السنين التالية، فإما أن يكون صانع أفلام مهم وثوري جدا، وإما أن يكون فرصة ضائعة مع الكثير من الأسف. وفي السنوات الخمسة التالية أخرج دولان أربعة أفلام، وصولا إلى عام 2014 حين أخرج فيلم "مومي" (Mommy) الذي فاز عنه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان "كان" مناصفة مع جان لوك جودار شخصيا، في رمزية مباشرة عن أن هذا هو جودار القادم وأننا نراهن عليه حتى النهاية، وهو ما تأكد مع فيلمه التالي "إنها فقط نهاية العالم" (It’s Only the End of the World) الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى من نفس المهرجان (ثاني أرفع جائزة بعد "السعفة الذهبية") ليؤكد على مكانته المنتظرة.
   
وبين الفيلم الأول، والفيلم الأخير، وأربعة أفلام في المنتصف، هناك خيط جامع من الذاتية، دولان يتحدث عن نفسه في كل فيلم، ويحاول حل عقده المستعصية من خلال خيوط درامية متكررة، وتحديدا: العلاقة مع الأم، والهوية الجنسية. صورة الأب الغائب في كل الأفلام لأن هذا هو الوضع في الحقيقة، والتنازع العنيف بين "الحب/الكراهية" مع كل الشخصيات الأمومية.

حالة النضج الإنساني التي تفرق بين دولان حين صنع "قتلت أمي" وهو ما زال في التاسعة عشر من عمره، ثم الشخص نفسه حين أصبح في السادسة والعشرين وصنع "إنها فقط نهاية العالم" بوعي ورؤية مختلفة لنفس المشكلة والعلاقة والاضطرابات، ليعكس دولان محاولة تصالح مستمرة مع "المكان الذي جاء منه" ومع هويته الجنسية ومع العالم من حوله، كأنه يفكك كل شيء مع المتفرج، في واحد من أكبر مشاريع "السير الذاتية الممتدة"، عبر مخرج يكبر وتتغير رؤيته أمامنا على شاشة السينما. حيث يبدأ كل شيء من الفيلم الأول ويتشعَّب بصور ورؤى مختلفة في باقي الأفلام.

المصدر : الجزيرة