شعار قسم ميدان

إرباك ورعب.. ما الذي يريده أرونوفسكي في فيلم "أم"؟

ميدان - Mothrer
 

مقدمة المقال

لعل فيلم "أم!" للمخرج دارين أرونوفسكي هو أكثر الأعمال الفنية إثارة للجدل هذا العام، خاصة فيما يتعلق بالمعنى والرسالة التي يحملها. نقرأ في المقالة هذه مراجعة تساعدنا على إعادة ترتيب أفكارنا، ورسم خريطة بسيطة لأحداث الفيلم، وفك الرموز المضمنة في أحداثه، وستساعد كذلك من لم يشاهدونه في اتخاذ القرار المناسب.

نص المقال

منذ الإعلان عن بدء تصوير "أم!"، فيلم دارين أرونوفسكي الجديد، واعتماد الحملة الترويجية للفيلم منصب على ركيزتين رئيستين: مشاركة جينيفر لورنس، أشهر نجمات هوليوود اليوم، والفضول الذي تثيره السرية المفروضة على قصة الفيلم. لكن الآن، بعد أشهر من السرية، يجري عرض الفيلم على نطاق واسع، لتحظى الجماهير أخيرا بفرصة للاطلاع على هذا العمل الغريب والمربك والمرعب في آن واحد.

undefined

يقدم أرونوفسكي قصة جافة، وخيالية، ورمزية بصورة واضحة، لكن السبب الرئيس لسعادتي بالفيلم هو الاختلاف الكبير بين المشاهدين فيما يخص رؤيتهم لرسالة الفيلم. ناقش زميلي كريستوفر أور قابلية الفيلم للعديد من التأويلات في مقالته، مشيرا إلى كل من التأثر الواضح للقصة بالكتاب المقدس، وإلى الإحالات الواضحة إلى الذات فيما يخص صعوبة حياة الفنان وكم الوحشية التي قد يتلبس بها. والآن، بعد وصول "أم!" إلى دور العرض، يستحق الأمر بذل مزيد من الجهد كمشاركة في الجدل الكبير القائم حول معنى الفيلم.

لفيلم "أم!" حبكة شديدة البساطة، على الأقل قبل خروج الأمور عن السيطرة واختلال منطقه. يبدأ الفيلم بلقطة لوجه أنثوي يبكي وسط الجحيم المترامي الأطراف، يضع بعدها رجل (خافيير باردم) كريستالة في قاعدة تمثال فيبعث المنزل المحترق من حوله ويستعيد رونقه بصورة سحرية. لننتقل فجأة إلى امرأة مجهولة الاسم (جينيفر لورنس) تعيش في هذا البيت الرائع في بقعة مجهولة نائية مع زوجها (باردم).

إنه شاعر على قدر من الشهرة، يعكف على إنتاجه الأدبي العظيم التالي (رغم ما يبدو عليه من افتقار إلى الإلهام). تنشغل المرأة بإصلاح المنزل، ودهان الجدران، وما شابه، ويبدو أن لديها نوعا من القدرة الروحانية على "الشعور" بنبض المنزل، عن طريق لمس الجدران وتصور قلب عملاق نابض.

سرعان ما يظهر رجل آخر (إد هاريس)، يقول إنه طبيب يبحث عن مكان يمكث فيه. يدعوه باردم (ليس للشخصيات أسماء، لذا من الأسهل الإشارة إليهم بأسماء الممثلين) إلى الدخول وتتشكل بينهما رابطة قوية في وقت قصير، مما يزعج لورنس. يصاب هاريس بمرض غير محدد، ينتج عنه كدمة على جانبه. ثم تظهر زوجته (ميشيل فايفر)، التي لا تخجل من الحديث مع لورنس عن التفاوت الكبير في السن بينها وبين زوجها. يتسبب هاريس دون قصد في كسر كريستالة باردم، بتشجيع من فايفر، مما يثير غضبه. ثم يظهر ابنا الضيفين الراشدان (دومنال وبريان غليسون)، وتنشب بينهما معركة، يقتل فيها الأكبر أخيه الأصغر ويصاب بندبة على جبينه خلال العراك. ومع إقامة الأسرة للمأتم داخل المنزل (بينما يزداد غضب لورنس)، ينفجر فيضان من المياه نتيجة لكسر أحد الضيوف حوضا فاخرا، يجرف الجميع خارج المنزل.

هذا هو النصف الأول من الفيلم، الذي يمكن اعتباره -مثلما ذكر أور- "العهد القديم": يمثل فيه باردم الإله، وهاريس وفايفر هما آدم (بضلعه المصاب) وحواء (في أكثر حالاتها إغواء)، وأطفالهما قابيل وهابيل، يقتل الأول صاحبه ويوصم بسبب هذه الخطيئة البكر. أما كريستالة باردم السحرية فهي الفاكهة المحرمة، وأنابيب الصرف المنفجرة هي الفيضان، يعاقب أتباع الرب الأوائل ويطهر العالم.

undefined

مع بداية الفصل الثاني من الفيلم، نجد الإنتاج الشعري الجديد لباردم مكتملا والشخصية التي تؤدي دورها لورنس حبلى. في النهاية، يؤكل طفلها (من المحتمل أنه يرمز إلى جسد المسيح) حيا من قبل جماعة غوغائية من أتباع باردم. لقد اقتحموا المنزل في البداية كمعجبين بأشعاره، ولكنهم يحيلون المشهد إلى ساحة قتال سريالية، ويدمرون المنزل قبل وصول لورنس المفجوعة لفقدان طفلها. وبينما هي تحتضر لاعنة زوجها، يسألها باردم حبها، فتؤكد له ذلك. تثبت لورنس ذلك بمنحه قلبها -حرفيا- الذي تخرجه من صدرها فيتحول إلى كريستالة يستخدمها باردم لإعادة بناء المنزل مرة أخرى، وخلق عروس جديدة، تلعب دورها ممثلة جديدة.

إنه عمل جامح، لكن رمزية الكتاب المقدس لا تسري هنا، حتى إن ألمح أرونوفسكي نفسه إليها خلال عرض "أم!" في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي (أشار إلى شخصية هاريس باسم "الإنسان"، مضيفا "هذا مفتاح لفك الشفرة"). لا نجد لشخصية لورنس نظيرا واضحا في أي من العهدين. بل إنها مقابل ما للأرض، أو غايا، إنها تجسيد للطبيعة والخلق، بينما المنزل (الذي يدمر ببطء على يد الضيوف القساة) هو مقابل للكوكب نفسه. أو يمكن اعتبار لورنس الجانب الحنون من الإله، في حين يمثل باردم الجانب المتحفظ غير المكتشف. كما تظهر مع نهاية الفيلم مفاهيم غامضة عن التناسخ والتجدد أكثر ارتباطا بالهندوسية أو البوذية منها بأي مفهوم يهودي أو مسيحي.

تتجاوز متعة الفيلم عندي الرموز الدينية من إله وآدم وحواء وما شابه. جرب الحكم عليه من هذا المنطلق فحسب، وستجد ذلك ظلما له من منظور القص. هناك مساحات كثيرة تستحق التأمل، صدرت بعضها عن وعي من أرونوفسكي، وصدرت أخرى عن اللاوعي. يتحدث أرونوفسكي في المقابلات عن الرسالة البيئية التي يحاول إيصالها، مثل قوله لأحد مراسلي هوليوود: "أعتقد أن الكوكب يجري هدمه على يد البشر. ولا أحمل جنسا واحدا المسؤولية عن ذلك. أعتقد أن للأمر صلة بنهم البشر الذي لا يمكن إشباعه، وبالاستهلاك الذي لا نهاية له".

لكن من الواضح أيضا أنه فيلم عن الفن والعملية الإبداعية، فيلم يتبنى وجهة نظر سلبية عن المبدع العظيم الذي يشغل مركز الأحداث. لا يستطيع باردم المكتئب فعل شيء سوى الإمساك بلورنس التي تبعد عنه بمقدار ذراع، أو الهرولة أحيانا للكتابة، أو التهوين من شأن مخاوفها حول الضيوف الغزاة (الذين يستمد منهم الإلهام). ورغم حبها له، لا تستطيع لورنس منع نفسها من التفكير بالفارق العمري الكبير بينهما، وبعد انهيار علاقتهما في النهاية، يستخدم باردم قلبها -يمكن اعتباره الإلهام- لتشييد عمل عظيم آخر، ومعه شريكة جديدة.

سواء أحب المشاهدون فيلم
سواء أحب المشاهدون فيلم "أم" أم كرهوه، فمن الواضح أنهم يغادرون القاعة برأي مكتمل النضج، وهو ما لا يسري على معظم أفلام هوليوود
 

يخوض أرونوفسكي الآن علاقة عاطفية مع لورنس، رغم أنهما التقيا خلال تصوير "الأم!"، بعد فترة من كتابته للقصة. لكن لا شك أن مثل هذه العلاقة الرومانسية ليست بأمر جديد على الوسط الفني، ولا فكرة كتابة الفنانين عن علاقاتهم الخاصة. لكن المبهر في الأمر هو الكيفية التي حول بها أرونوفسكي هذا الجو إلى شيء كبير، ومدمر، ومرعب. تبدو شخصية لورنس -أحيانا- كأنها محاكاة ساخرة للصورة النمطية عن الحبلى حافية القدم، التي تتجول في المنزل دائما دون حذاء. صرحت الممثلة بأن ذلك كان خيارا واعيا منها، قائلة: "لا يمكن للشخصية ارتداء أحذية، فالطبيعة من صنعها".

سواء أعجبك الفيلم أم لا (لم يسمح لي ذهني المشوش بإصدار حكم عام)، فإنه ليس من أفلام هوليوود التي تعرض على نطاق جماهيري واسع، هو عنيف، وغريب، كما أنه محاولة حقيقية لإرباك المشاهدين وإثارة الجدل. من المثير رؤية نجمة كبيرة مثل لورنس تستخدم نفوذها لتنفيذه، والأكثر إثارة هو قيام استوديو كبير بتوزيعه في جميع أنحاء البلاد. ورغم الضعف الشديد في إيرادات العطلة الأسبوعية التي شهدت عرضه -قدرت بـ7.5 مليون دولار، مع تقييم "F" على موقع سينما سكور (الذي يقيس رضا الجمهور)- فقد تمسكت بارامونت بالفيلم، قائلة في بيان لها "إنه فيلم شديد الجرأة والشجاعة.. نحن لا نريد تجنب الأخطار في كل أعمالنا. ولا بأس إذا لم يحز رضا الجميع".

يستحق الاستوديو تحية لإنتاج فيلم كهذا، فيلم قلما يجتمع عليه اثنان. وسواءً أحبه المشاهدون أم كرهوه، فمن الواضح أنهم يغادرون القاعة برأي مكتمل النضج، وهو ما لا يسري على معظم أفلام هوليوود. في النهاية، يظل فيلم "أم!" -حاله كحال الكريستالة المستطيلة غريبة الشكل التي يخلق منها باردم فردوسه- له من كل زاوية هيئة مختلفة.
______________________________________________________

مترجمٌ عن: (ذا أتلانتيك) 
المصدر : الجزيرة