"السينما المقاومة".. عمر أميرالاي والقفز فوق حدود الأفلام الصارمة
"مسعاي الأوّل في أفلامي هو محاولة اكتشاف سرّ ذلك الكائن الرائع والمريع، بالوقوف إلى جانبه مقهورًا مغلوبًا على أمره من ظلم «أخيه» الإنسان، ومنتقدًا إيّاه جاهلًا متخلّفًا مستسلمًا لقدره"
(عمر أميرالاي)
في مشهد يبدو سينيمائيًا أكثر منه واقعيًا، يقف مبنى "سينما الأندلس" بمدينة القنيطرة بين حُطام المنازل والمباني التي خلفتها الحرب، فبعد سبع سنوات من الاحتلال، وخروج الجيش الإسرائيلي من المدينة السورية -الواقعة على هضبة الجولان- أتى فيه الجنود بعالِ المدينة أسفلها، يبقى المبنى وحيدًا في مشهد تُلخصه كلمات المخرج السينمائي السوري محمد ملص: "الواقع لا يحمي الأشياء، لكن يُخيل إليّ أن السينما تحميها".
حين انطلقت الثورة السورية في الخامس عشر من مايو /أيار لعام 2011، وجدت السينما في سوريا، التسجيلية خاصة، نفسها أمام انفراجة جديدة تخطّت معها قيود النظام المفروضة على كل ما تقول، وتجددت معها التساؤلات حول "أخلاقية" المهنة، تساؤلات صاغها الناقد السينمائي نديم جرجورة في صورة حاولت الوصول لما يمكن أن تذهب إليه السينما في سوريا مع قيام الثورة في سبيل إيصال رسالتها (1)، وفي حين تدور إجابة التساؤلات حول واقع السينما السورية الحالي في ظل نظام يجود على هذا الواقع بالعنف والموت، ويُمنع معه سينمائيين ومخرجين عدة من التواجد في الداخل السوري، أو نقل الصورة الحاضرة فيه عبر سينيماهم، فإنها أيضًا طرحت لمحة عن نموذج استطاع التحايل على القيود المفروضة لإيصال رسالته، يحمل هذا النموذج اسمًا فريدًا في تاريخ السينما التسجيلية السورية خاصة والعربية عامة، إنه عمر أميرالاي.
لم يدخر أميرالاي جهده، فبمجرد العودة إلى سوريا بدأ تجربته الأولى التي يصفها المخرج السوري محمد ملص بالمفاجأة (6)؛ بما تثيره من سينمائية قوية ومجددة، وبنظرة عقلانية للواقع الذي تعرضه. حملت التجربة عنوان "محاولة عن سد الفرات"؛ عشر دقائق تقريبًا حاول فيها أميرالاي توثيق بدايات التحول نحو التغيير الإيجابي المزعوم في سوريا، ووضع نصب عينيه أول نبتة هذا التغيير المتمثلة في مجموعة سدود أعلن حزب البعث عزمه بنائها بطول سوريا وعرضها، وعلى رأسها كان سدّ الفرات، مصدر فخر حزب البعث بما يحمله من فكرة محتملة عن الانتعاش الاقتصادي والزراعي المرتقب، والذي أعلن أميرالاي نفسه ندمه فيما بعد على ما دفعه "حماسه الشاب" للتصديق به (7).
لم يكن عمر ليخرج من الملعب، كما يصفه ملص (8)، فالحياة بالنسبة له هي هذا الملعب، والسينما هي المباراة، لذا عندما دفعته التجربة الأولى عن سد الفرات لرؤية قرى الريف السوري المحيطة بالسد، اتخذها أميرالاي فرصة لنقل واقع الحياة، واقع تمثلت فيه جوانب حياة النسبة الأكبر من سكان سوريا. البداية من قرية المويلح-دير الزور بمدينة صور السورية. في "الحياة اليومية في قرية سورية" كانت تتمثل مرحلة جديدة من إبداعات السينما الوثائقية العربية كما يصف المخرج السينمائي فجر يعقوب (9)، وفيها يتتبع أميرالاي كيف يحيا الناس مع نقص المياه والموارد الغذائية، وفي ظل نظام يتحول إلى القمع شيئًا فشيئًا.
يدع أميرالاي كاميراه تتجول في أرجاء قرية المويلح، بهدوء تستمع فيه لصوت الرياح في خلفية الكاميرا، وترى أهالي القرية يتجاذبهم "ملل" الحياة في الريف السوري، "النمط الإخراجي البطيء"(10) كما يصفه زكريا جابر يتكرر في أفلامه منذ البداية، وفي حين اتخذه بعض أنصار النظام السوري فيما بعد منفذًا لنقد سينما أميرالاي، كانت التجربة تشي بتفاصيل مختلفة، بداية من وجبات الطعام المتشابه والرحلات المتكررة للمدينة وصولًا لمركز طبي تنقصه هو الآخر الموارد الطبية اللازمة للعناية بحياة الناس، بينما مسؤولي النظام على الجانب الآخر يسعون لنقل صورة تخالف واقع الحياة وتفاصيلها الحية التي تنقلها الكاميرا.
لم يختلف الحال كثيرًا ما بين الحياة في قرية المويلح عام 1974، وبين التجربة التالية لها في قرية صدد -بالجنوب الغربي من سوريا- التي خرج منها إلى النور فيلم "الدجاج" عام 1977. كانت القرية فيما مضى إحدى الضيع السورية التي اُشتهرت بصناعة البُسط، صناعة هجرها أهلها لتربية الدواجن نتيجة تدهور الأحوال الاقتصادية بالبلاد، لكن الأمور ما لبثت أن ازدادت سوءًا لغلاء الأسعار الذي حال دون شراء الأعلاف والدواء للدواجن، ثم طال الأمر أسعار الدواجن نفسها ليبدأ الناس في التحول عن هذه التجارة أيضًا إلى صناعات وحرف جديدة أو قديمة، فيما يتجه آخرون للرحيل من قرية لأخرى، أو إلى خارج الدولة كلها.
تُصاحب السخرية والتهكم أعمال أميرالاي، وعنهما يحكي هو نفسه، فيقول عن فيلم "الدجاج": "اخترت أن أحكي عن البشر بلغة الحيوان، فذلك نوع من التعبير عن قهر المثقف، وعجزه عن إنطاق الناس". كانت رغبته في إيصال رسالة واضحة عن تدهور أوضاع الناس في سوريا تنعكس في تجربتيه السابقتين، ليس فقط في نقله لواقع الحياة ذاتها، ولكن في التناقضات التي يموج بها هذا الواقع بينما تُعيد الحياة إنتاج نفسها في كل قرى سوريا، وعن هذا يقول الناقد ناصر ونوس إن أفلام أميرالاي تواجه الواقع الذي أوجده المفسدون، وتفضحه وتفضحهم، (11) لذا لم يكن لأميرالاي أن يستقر في سوريا طويلًا خاصة بعد أن بدأت أفلامه في إثارة غضب النظام، فتوجه إلى لبنان، ومنها كانت بداية جديدة.
لم يدع أميرالاي الفرصة -حتى للحرب في لبنان- كي تطغ على سخريته، فهي مرض مُعد كما يصفها ويراها ضرورة كي تُزيح جانبًا "التحفظ والتهيب" بينه وبين أشخاص أفلامه الواقعيين، (12) وانتقل بها ما بين لبنان وفرنسا ومصر لأكثر من عقد من الزمان، مُخرجًا وموثقًا لواقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسة في الوطن العربي والعالم، فما بين "الحب المؤود – 1983" في مصر حيث يتناول واقع المرأة في مجتمع عربي تحكمه العادات والتقاليد، إلى "السيدة رئيسة الوزراء بنازير بوتو – 1990" حيث أراد توثيق حياة سيدة كانت جزءًا من عالم السياسة في باكستان بفيلم انتهى به الأمر يوثق محاولاته الوصول إليها دون جدوى، ثم يموت صديقه الصحافي ميشال سورا "في يوم من أيام العنف العادي – 1996" فيخرج فيلمًا يوثق حياته ومماته على أيدي الجماعات الإرهابية في لبنان.
ضمت قائمة أميرالاي حوالي 20 فيلمًا سجل بعضها علامة بارزة في تاريخ السينما الوثائقية العربية، "هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء- 1997" هو أحدها. ترى ندى الأزهري أنه يمكن اعتباره وثيقة هامة تعبر عن علاقة جيل بأكمله بالقضية الفلسطينية، (13) وفيه يُعبر عن إحباط وفشل السياسات العربية من وجهة نظر مثقف وكاتب عاش سنوات الاحتلال والهزيمة والتحرير، وبينما آمن -هذا الجيل- بقدرته على تغيير العالم من حوله بقوة الأفكار والخيال، كما يرى أميرالاي، فقد تبين له فيما بعد أنها كانت جملة توهمات لا أكثر.
بمزاج جنائزي، حاول المسرحي سعد الله ونوس أن يتجاوز آلام المرض والهزيمة ليوثق لسان حال جيله في هذا الصراع، وبمزاج مشابه كان محمد ملص يحكي عن مدينة القنيطرة السورية في فيلم يحكي فيه أميرالاي عن المرة الأولى التي سمع فيها بإسرائيل. أخرج أميرالاي فيلمه "طبق السردين" عام 1997 كذلك قبل أن يعود من جديد إلى الصراع في لبنان، لكنه هذه المرة صراع يدور حول شخصية "الرجل ذو النعل الذهبي" والذي لم يكن سوى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق "رفيق الحريري" في فيلم يحكي فيه أميرالاي كيف تُثير شخصية الحريري حيرته الشخصية وإن كان -في نهاية الأمر- صعبًا على من يُجالس الحريري ألا يُغير نظرته إليه (14).
يرى محمد ملص أن موت أميرالاي كان "خيارًا سينمائيًا" لنهاية فيلم طويل، فهو قد رحل قبل قيام الثورة السورية بأيام قليلة دون أن يرى الموت والدمار الذي لحق بوطنه سوريا، لكنه كذلك رحل بعد أن قدم فيلمه "الطوفان" الذي استكمل به ثلاثيته عن سد الفرات، والذي اعترف فيه بخطئه الأول في تجربته عن سد الفرات.
عمر أميرالاي
"قررت أن أغني موالي الخاص" (15)، هكذا يتحدث أميرالاي عن فيلمه الأخير "الطوفان"، فحين قرر أميرالاي العودة أخيرًا إلى سوريا وفاجأته الأخبار عن انهيار سدّ "زيزون" في سوريا وتصدع عدة سدود أخرى مع احتمالية انهيارها، قرر أميرالاي أن يعود من جديد إلى حيث أخرج فيلمه الأول، ومن المكان ذاته، وعن سد الفرات أيضًا، سيكون فيلمه الأخير.
يرصد الفيلم، بأسلوب مسرحي أراد به أميرالاي أن يعرض كيف تتم عملية "غسيل أدمغة الأطفال والناس" في سوريا على يد نظام يُلقنهم شعاراته وكلامه، فشخصيات الفيلم كما يروي أميرالاي، تتحدث بلسان غير لسانها، وأفكار غير أفكارها، فالسوريون -كما يقول أميرالاي- فاقدون لملكة النطق والتعبير الحر منذ أن صادرها منهم الناطقون باسمهم، لذا أراد أميرالاي أن يدفع المشاهد لقراءة ما وراء الأحداث، وأن يستنتج بنفسه كيف هي الحياة في قرية الماشي السورية كنموذج يقدم صورة مصغرة للواقع السوري في ظل حكم البعث. وتتجلى سخرية أميرالاي من جديد في عرضه لآراء الشخصيات "الموالية جدًا للنظام" كما يرى المخرج هيثم حقي، والتي من خلالها استطاع أميرالاي طرح الكيفية التي يتربى بها الأجيال في سوريا البعث، وفي حين يختزل الفيلم قصة سوريا منذ أن تولى البعث الحكم فيها مطلع السبعينيات، وحتى 2003 حين أخرج الفيلم، إلا أنه يختزل أيضًا حال أميرالاي الذي بدأ مشواره مع السينما متشجعًا وأنهاها مُحبطًا كما يصف يامن محمد (16).
يرى المخرج الفرنسي "جان لوك غودار" أن كل الأفلام الروائية الكبيرة تميل إلى التسجيلي، وكل الأفلام التسجيلية الكبيرة تميل إلى الروائي، وينطبق المعنى ذاته على كلمات المخرج محمد ملص إذ يرى أن السينما السورية تنطلق من مفهوم أن "السينما هي سينما أولًا وآخرًا" أيًا ما كان المصطلح الذي نحاول تصنيفها من خلاله سواء روائية أو تسجيلية، فإن أفلام أميرالاي تبدو أقرب لهذا النطاق الذي يغوص فيه الخط الفاصل بين النوعين، بينما تتجلى رسالة السينما واضحة في تفاصيل أفلامه وشخوصها.