شعار قسم ميدان

داميان شازيل.. سيرة المجد لمخرج فيلم "لا لا لاند"

MIDAN - OSCAR

دخلت مرآب منزلنا خلسة، نصبت فيه معداتي التي احتلت مكاناً كان مخصصاً قبل لحظات لسيارة والدي، وبدأت بالعزف. اسمي داميان شازيل، وأنا أحب عزف الطبول جداً، ولا يحق لأبواي أن يعترضا، ففي نهاية المطاف هما من أرسلاني إلى تلك المدرسة العبرية. (1)

 

كنّا ندرس التوراة ونتحدث العبرية، حتى اعتقد الجميع أنني يهودي، ذات مرة قامت المدرسة برحلة إلى مدينة القدس، لم يشك أحد بهويتي بل ظنوا بأنني واحد منهم، كان هذا غريباً. لكن المميز بتلك المدرسة هو احتوائها على حصّة تدريب موسيقيّ. فيها تعلمت الطبول، لذا، مجدداً، لا يحق لأبواي الكاثوليكيان الاستغراب مما فعلت في مرآب منزلهم، فهذا ما صنعته أيديهم.

 

يخبرني أبي أن من أوائل الكلمات التي قلتها بعد تعلّمي النطق في صغري كانت "أريد أن أكون صانع أفلام"، والمضحك أنه صدّق هذا وبدأ تعريفي بعوالم شارلي شابلن وجون فورد وهيتشكوك، (2) كنتُ مولعاً بهيتشكوك لدرجة لا توصف. قبل هذا كنت أحب الرسم، تأثرت بأفلام ديزني مثل سندريلا وبينوكيو وبيتر بان، كانت أفلام ديزني هي أول أفلام أراها عبر شاشة السينما وفي حياتي بالمجمل. بعد أن تركت هواية الرسم بدأت بالكتابة، أحببت أن أكتب القصص التي أتمنى رؤيتها على الشاشة الكبيرة.
 

تفوقي الدراسي سمح لي بدخول جامعة هارفارد، فيها حصل أهم حدث في حياتي؛ ذات يوم تلقيت اتصالاً من رقم غريب، (3) على الطرف الآخر كان هناك شاب يدل صوته على أنه في مثل عمري، قال بهدوء "أنت داميان شازيل عازف الطبول؟" قلت "نعم هذا أنا"، عرض عليّ أن أكون عازف الطبول في فرقته التي يعتزم إنشاءها. حضرت في الموعد المتفق عليه فوجدت عازفاً آخراً، قال "نريد أن نرى من منكم سيكون العازف الرئيسي للفرقة"، فعقد منافسة بيني وبين العازف الآخر الذي تفوقت عليه وحصلت على لقب العازف الرئيسي، لكن الشاب الآخر صار بعدها المغني الرئيسي للفرقة.

كنت أعتقد حتى وقت قريب أن المسافة بيني وبين صناعة الأفلام سوف تزداد كلما زاد حبي للموسيقى، وعندما اتصل بي جاستن هورويتز لأكون عازفاً في فرقته تأكدت من هذا الأمر. صرنا أصدقاء يجمعنا حب الموسيقى والأفلام، سكن في نفس غرفتي، قمنا بأداء العروض المجانية وتعرفنا على النساء معاً. لكن ما حصل بعد ذلك لم يتوقعه أحد منا. فمنذ عام 2009 قمتُ بكتابة وإخراج ثلاثة أفلام طويلة  قام بصنع الموسيقى الخاصة بكل منها صديقي ورفيقي جاستن هورويتز.

ثلاث محطات

شعر شازيل المولود في 19 يناير 1985، أن اعتماده على أفلام موسيقية لن يحقق له الدعم الذي يحتاجه، فهي أفلام من الصعب بيعها. كان يبذل دمه وعرقه في كتابة سيناريوهات لأفلام لن يشتريها أحد، كما يقول في إحدى مقابلاته. (4) أخبره الجميع بأن ما يكتبه ليس كافياً، شعر بالإحباط ولكنه أيضاً كان غاضباً فقرر كتابة شيء صغير ومُركز، أنهى كتابة سيناريو فيلمه القصير "ويبلاش" في 10 أيام فقط، كان وقوده فيها كل الاحباطات التي هاجمته والآن تدفعه نحو طريقة واحد اسمه المجد.

 

عرف العالم المخرج الأمريكي الشاب داميان شازيل من فيلم "ويبلاش" الذي قدمه عام 2014  كنسخة مطوّلة عن فيلمه القصير. وهو فيلم عن موسيقى الجاز تم تصويره وكأنه فيلم حربي، أو فيلم حربي تم تصويره داخل مدرسة لتعليم الجاز. (5) اعتمد شازيل على تجربته الشخصية في تعلّم العزف على الطبول لكتابة سيناريو فيلم ويبلاش، حيث عاش بالخوف لمدة سنوات بسبب أستاذ الموسيقى الذي يصرخ ويشتم ويهين الآخرين طوال الوقت، بل ويطرد العازفين من الفرقة متى يحلو له. (6)

 undefined

كان وكأنه يتعمد البحث عمن يخطئ، فيعيش أمثال شازيل برعب حقيقي وهاجس الوقوع في الخطأ. شازيل الذي كان يخشى أصلاً من العزف أمام جمهور أو على مسرح(7) يقول بأنه عندما شاهد فيلم "فل ميتال جاكيت"، ستانلي كوبريك 1987، قال لنفسه بأن أحدهم قام بوضع تجربته مع الموسيقى في فيلم حربي. وهذا ما قام بفعله لاحقاً. (8)

 

حصل ويبلاش على جائزة الحكام في مهرجان صندانس، وشق طريقه نحو خمسة ترشيحات لجوائز الأوسكار حصل على ثلاثة منها، كما صنفه معهد الفيلم الأمريكي على أنه "فيلم السنة" لعام 2015، وحصد ثلاث جوائز بافتا وجائزة غولدن غلوب. (9)

 

بعمر 29 سنة فقط كان شازيل يعدنا بصعود موهبة إخراجية فريدة من نوعها في عالم السينما، كان وعده صادقاً حيث يُعتبر اليوم أصغر مخرج في تاريخ السينما يحصل على جائزة الغولدن غلوب عن فيلم "لا لا لاند"، إنتاج 2016، بعمر 31 سنة.(10) وهو فيلم غنائي راقص عن عازف بيانو شاب مولع بالجاز يحب فتاة مولعة بالتمثيل، تتقاطع قصة الحب بينهما مع أحلامهم الشخصيّة، طارحاً تساؤلاً حول امكانية أن يحقق الفرد طموحه المهني إذا قرر في يوم من الأيام أن يربط حياته بحياة شخص آخر.
 

 undefined

رغم أن شازيل كان قد كتب سيناريو فيلم لا لا لاند قبل أن يخرج فيلمه السابق ويبلاش إلى النور، لكنه استغرق ست سنوات حتى استطاع الحصول على الدعم الكافي لتنفيذه. مرة أخرى يعتمد شازيل على تجربته الشخصية في صنع هذا الفيلم، فعشقه للأفلام الموسيقية الكلاسيكية أثار لديه تساؤلاً حول إمكانية صنع فيلم غنائي حديث ولكن دون اللمسة الخيالية التي تتحلى بها هذه النوعية من الأفلام، بل أراد فيلماً غنائياً مع قاعدة ثابتة من الواقعية يستند إليها، فيلماً تقتحمه واقعية الحياة فيدخل عبرها إلى معانيها الحقيقية، فصنع فيلماً عن الأحلام، لكنه لم يتوقف هنا، فجعله فيلماً عن الأحلام والتخلّي عنها في الوقت ذاته. (11)

 

يبالغ شازيل في تحويل واقعه إلى صور متحركة مبهرة. جلوسه في سيارته وسط شوارع لوس أنجلوس المزدحمة كان يُشعره بالضيق، وفي أحد المرات وجد نفسه مُلهماً بالمشهد الأول من فيلم السقوط  التسعيني حيث يخرج مايكل دوغلاس من سيارته المتوقفة إلى جانب عشرات السيارات الأخرى في المشهد الافتتاحي من ذلك الفيلم. في تلك اللحظة كان شازيل قد حدد مشهده الأول في فيلم لا لا لاند أيضاً.

 

عند حلول موعد توزيع جوائز الأوسكار سيكون شازيل قد قضى الشهر الأول من عامه الثاني والثلاثين، ورغم ذلك فإن حصوله على جائزة أفضل مخرج سوف يعني أيضاً أنه أصغر مخرج يحصل عليها في تاريخ جوائز الأكاديمية، بهذا قد يستطيع شازيل أن يحفر اسمه في ذاكرتنا كموهبة وقصة نجاح في آن واحد، لكن ماذا عن فيلمه الأول؟

 undefined

أثناء دراسته في جامعة هارفارد، وبعمر 24 سنة، كتب وأخرج شازيل فيلماً بعنوان "غاي ومادلين على مقعد في حديقة" فيلم بسيط بالأبيض والأسود ولكنّه يخبر الكثير عن شازيل كفنان حقيقي بدا عليه منذ عمله الأوّل التعلّق بالماضي الجميل للسينما، فيقدم هذه المرة عملاً يبدو وكأنه ينتمي لأعمال الموجة الفرنسية الجديدة لكن مع تركيز على تنويع الأعراق،(12) إذ كان الأبطال في فيلمه شابٌ أسود وفتاة آسيوية وأخرى من أصول إسبانية.

 

وكما في فيلميه اللاحقين، ويبلاش ولا لا لاند، يكون بطل فيلمه الأول "غاي" عازفاً مهووساً بموسيقى الجاز ويحاول إيجاد التوازن بين علاقته العاطفية وبين مهنته الموسيقية. فالفيلم يبدأ مع بدء علاقة غاي بحبيبته مادلين لكن هذه العلاقة لا تستمر لأكثر من مشهدين فينتهي كل شيء بينهما دون أسباب واضحة. ويستمر الفيلم مع قصة كل منهما وتقاطعاتها البعيدة مع قصّة الطرف الآخر.

 

يعمل شازيل الآن على مشروع جديد لفيلم روائي طويل سيكون الأول الذي يخرجه دون أن يكتبه بنفسه، وبهذا وصل شازيل إلى ما أراد في فترة قياسية وعمر صغير. سيكون فيلمه القادم بعنوان "الرجل الأول" ويتناول فيه حياة رائد الفضاء الأمريكي نيل ارمسترونغ الذي يعتبر الإنسان الأول الذي وطأت قدماه أرض القمر. يتحدث شازيل عن مشروعه هذا في وقت تغمره فيها السعادة بعد أن حصل فيلمه لا لا لاند على عدد كبير من الترشيحات لجوائز الأوسكار وصل إلى 14 ترشيحاً، لكنه يخشى في الوقت ذاته أن يكون صعوده السريع هذا يقابله هبوطاً بنفس السرعة. (13)

 

علاقات حب كلاسيكية

انعكست كلاسيكية شازيل وطرازه القديم في صناعة الأفلام على رؤيته للعلاقة الجسدية بين أبطاله. ففي أفلامه الثلاثة لا نستطيع رؤية علاقة جسدية واحدة تجمع بين شخصياته الرئيسية، رغم ما يكونون عليه من علاقة حب معلنة. بهذا تكمن الروح الحقيقية الكلاسيكية لدى شازيل، حيث أُعتبر الجنس في أربعينيات القرن الماضي أمراً مقتصراً على علاقات الزواج الرسمي، (14) وفي الأفلام لم يكن مستغرباً أن يقتصر الحب على القبلات فقط.

 

يحمل فيلمه الأول مثلاً اسم مادلين رغم أنها لا تستمر في علاقتها مع غاي سوى مشهدين فقط، يتعرّف بعدها غاي على إيلينا التي يستمر معها بقية الفيلم. كان إصرار شازيل لترك اسم مادلين على عنوان الفيلم إشارة حول كلاسيكية الرجل، بل وحول التزامه بالرومانسية الحالمة منذ العمل الأول له فيقدم فيلماً بسيطاً غير مبالغ في زخرفته. ورغم ما تحمله شخصياته الثلاث الرئيسية في داخلها من أرواح مثقلة بالأسئلة، فهي لا تعلم وجهتها. لم يهتم شازيل بإدراج أي شيء حول علاقة جنسية مفتوحة بين أي منهم رغم وجود الأساس الذي يسمح له بذلك.

تتحول أنظار العالم اليوم نحو الشاب الذي كسر أرقاماً قياسية كبرى في عمر قياسي وفي عالم أصبح تحقيق ذلك فيه من أكبر الصعاب.
تتحول أنظار العالم اليوم نحو الشاب الذي كسر أرقاماً قياسية كبرى في عمر قياسي وفي عالم أصبح تحقيق ذلك فيه من أكبر الصعاب.

في فيلم لا لا لاند كانت القصة الرومانسية التي تجمع سباستيان مع ميا ناضجة إلى حد كبير، لكننا مع ذلك لا نجد أي مشهد جنسي يجمعهما، فالفيلم يمكن أيضاً وصفه بالعفة، فهو لم يعتمد على الجنس أو الحميمية الجسدية بين العاشقين لإبراز الاندماج الروحي بينهما أو توضيح مدى ملائمة كل منهما للآخر أو التعبير عن مشاعر أي منهما. بل اعتمد على حوار ذكي وتعابير الوجه والأغاني في نقل المتفرج بين حالة إلى أخرى فيما يتعلق بتقلّب العلاقة بين الطرفين.

 

تتحول أنظار العالم اليوم نحو الشاب الذي كسر أرقاماً قياسية كبرى في عمر قياسي وفي عالم أصبح تحقيق ذلك فيه من أكبر الصعاب، بحيث يشكل صعود نجم داميان شازيل أمراً إعجازياً ولكننا نشهد عليه منذ بدأ بتحقيق شهرته الواسعة هذه قبل سنتين، وعلى خشبة الأوسكار سيتحدد مصير الحلم الخاص بداميان شازيل؛ حلمه المهني الذي لا يختلف كثيراً عن أحلام أبطاله ومحبي أفلامه في آن واحد.

المصدر : الجزيرة