شعار قسم ميدان

السينما مدونة تاريخية وذاكرة إنسانية

midan - cinema

"إنّ الفنَّ بكافة أشكالِه يعكسُ تاريخ الإنسانِ أكثر صدقًا مِن الوثائِق ذاتها". 1

 

منذ انطلاق السينما في بداياتها اعتمدت على كتابة السير الذاتية والأحداث التاريخية المؤثرة باعتبارها -أي الأحداث نفسها- تلقى رواجا شعبيا ورغبة نهمة في التعرف على سير تلك الشخصيات البارزة وحياتهم المؤثرة داخل التاريخ، وهي في الوقت نفسه تخليد لأشخاص يستحقون -وفق رأي صناع الفيلم- أن يبقوا في الذاكرة وتروى سيرهم للأبد.
 

اعتمد ذلك النوع السينمائي في البداية على الشخصيات والأحداث البارزة في التاريخ؛ إلا أنه -ومع الوقت- تطور الأمر ليشمل حكايات واقعية لأشخاص مجهولين نجحوا في كسب تحدياتهم الاجتماعية واليومية. تغيرت كذلك ـ مع الوقت ـ طريقة تناول تلك السير والأحداث؛ من السرد الخطي للأحداث المتتابعة زمنيا؛ لتناولٍ مكثف للأحداث الدرامية المتعلقة بالقصة.

undefined
 

الأفلام التاريخية وأفلام السير الذاتية هي أفلام تروي حكاية أحد الأشخاص ليس من الضروري أن تكون حياته مليئة بالأضواء أو الشهرة؛ لكنها -وعلى الرغم من ذلك- تنطوي على الإثارة أو الغرابة الكافية التي جعلتها تستحق أن تروى للآخرين، فتمنحنا السينما فرصة الاقتراب من عوالم وحيوات ربما لم نكن ندري أنها وجدت يوما؛ فتنفض التراب عن وقائع تاريخية قديمة مرة، وتحكي لنا كيف تغلب شخص ما -خاض حروبه وحيدا في الظل- على معاناته.
 

تقترب هذه النوعية من الأفلام بكثير من الأحيان من تفاصيل شديدة الإنسانية لم نكن لنلتفت إليها، ودائما ما ترتبط هذه النوعية من الأفلام بجدل حول ما هو واقعي وما هو خيالي في القصة؛ هل حقا نالت اسكتلندا حريتها بفضل مقتل فلاحة قروية، وانتقام لقصة حب تم وأدها ؟[2] هل هو تزييف لوقائع تاريخية، أم مجرد ضرورة درامية؟! جون ناش لم يشكر زوجته إليسيا لوبيز أثناء خطاب تلقيه جائزة نوبل، أحد لن يهتم طالما كان المخرج بارعا في إخراج المشهد ونجح في النهاية من انتزاع التصفيق الحار (3).


أهمية التدوين السينمائي في الزمن الحديث

تعتبر تلك النوعية من الأفلام على درجة عالية من الأهمية؛ لما أضافته من توثيق مرئي للتاريخ الإنساني، ترتبط تلك الأهمية بعدم إقبال الإنسان الحديث على القراءة، واعتماده أكثر على المواد البصرية؛ فأصبحت السينما وسيلة ذات فاعلية كبيرة في توثيق أحداث هامة في التاريخ الإنساني.
 

أحد الأفلام السينمائية التي تناولت الحرب العالمية الثانية (مواقع التواصل الإجتماعي)
أحد الأفلام السينمائية التي تناولت الحرب العالمية الثانية (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

إذا ما قارنا مثلا بين معرفة الناس -والحديث هنا عن الجمهور العادي غير المهتم بالتاريخ كدراسة-  بالحرب العالمية الأولى والثانية؛ سنجد أن أغلب الناس على دراية أكثر بالأخيرة ومقدماتها السياسية والاجتماعية، وأحداثها التاريخية؛ وحتى بعض وقائعها الحربية، والفضل بالتأكيد يعود لاهتمام السينما وتناولها للحرب العالمية الثانية على عكس الأولى التي لم تكن السينما قد حققت الرواج نفسه، أو أصبحت بنفس المقومات الفنية والتقنية، وبالتأكيد لأهمية الحرب العالمية الثانية في تشكيل الحياة المعاصرة، أو عالم ما بعد الحرب، وقدرة السينما على تقديم تلك الوقائع التاريخية بشكل سلس وممتع.
 

"نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد الإنسان" (4):

في شهر فبراير من عام 1948 وقف الزعيم الشيوعي "كليمان غوتوالد" في مدينة براغ ليخطب في مئات الآلاف من المواطنين وإلى جانبه وقف رفيقه "كليمانتس"، ولأن الجو كان باردا، والثلج بدأ في التساقط؛ قام "كليمانتس" بنزع قبعته من الفرو ووضعها على رأس "غوتوالد" قامت شعبة الدعاية والإعلام بالحزب بإنتاج آلاف النسخ وتوزيعها كتوثيق لتلك اللحظة التاريخية الهامة في تاريخ المدينة. بعد ذلك بأربع سنوات فقط اتُّهم "كليمانتس" بالخيانة وشُنق؛ فقامت شعبة الدعاية ذاتها بإزالته من كل الصور الفوتوغرافية التي تم طبعها في السابق، لقد مُحي أثره من التاريخ؛ ولم يتبق من "كليمانتس" سوى قبعته على رأس "غوتوالد".
 

تسارع وتيرة التاريخ وأحداثة المتلاحقة جعلته عرضة للنسيان بشكل أكبر؛ فسرعان ما حجب ميدان التحرير فى الـ25 من يناير، الثورة التونسية التى سبقته بقليل، ونجح جنون القذافي في نقل الكاميرات من مصر إلى ليبيا،  وغطت مجازر بشار الطائفية فى سوريا على جرائم القذافي؛  ثم أعاد اعتصام رابعة مصر إلى الواجهة مرة أخرى، وأنست محاولة الانقلاب الفاشل فى تركيا تأوهات وجراح الأطفال السوريين فى حلب، وهكذا دواليك إلى أن يُنسى كل شئ تماما.

هنا تأتي أهمية ذلك النوع من الأفلام تحديدا أنه يعطي تلك الأحداث التاريخية عمرا مديدا وقدرة أكبر على البقاء في الذاكرة الإنسانية؛ لهذا تحديدا يمكن تفسير بقاء ذكرى "الهولوكوست" حيا فى الذاكرة الإنسانية وملتصقا بالوعي الجمعي، الأمر لا يعود لمدى فظاعة الجرائم فقط؛ لأن الهولوكوست سبقته جرائم أكثر، ولحقته جرائم أبشع، الأمر يتعلق أكثر بمدى كثافة التناول السينمائي للجريمة وتوقفه طويلا حول أسبابها وتداعياتها ووقائعها، الأمر الذي يلفت الانتباه لقدرة السينما على التعاطي مع التاريخ والتأثير في الحياة المعاصرة.

رواية تاريخية أم رؤى ذاتية للتاريخ؟

undefined

أي رواية للتاريخ مهما حاول صاحبها الالتزام بالموضوعية لن يوفّق تماما، وسينطوي الأمر بالتأكيد على تحيزات إنسانية لا مفر منها وحتى اعتبارات سياسية، وهو أمر قد لا يخل بالرواية التاريخية ذاتها؛ لكنه لا يجعلها تاريخية تماما، كذلك الحال بالنسبة للسينما باعتبارها أحد المدونات التاريخية فى الزمن الحديث، فإذا ما قارنا مثلا بين تناول السينما الأمريكية ونظيرتها الألمانية لهتلر والنازية؛ سنجد فرقا واضحا؛ فالأفلام الأمريكية -في معظمها- تناولت هتلر وحقبته النازية بالنقد والإدانة، وأبرزت في ذلك أفعاله الوحشية وبشاعة أيديولوجيته وإبادته لليهود ومعسكرات الهولوكوست كأوشيفتز وغيرها.

تناول هوليود للنازية كان أقرب للهجائية الأيديولوجية والتوظيف السياسي؛ في حين أن السينما الألمانية قدمت مقاربات سوسيولوجية في محاولة لفهم أعمق للظاهرة، وكيف تشكلت داخل المجتمع الألماني، وكيف صعدت! وتساءلت حول إمكانية خروج المجتمع من تلك الحقبة البائدة ومعالجة آثارها؛ أي أن السينما الأمريكية ركزت على إدانة هتلر والدولة النازية؛ إلا أن نظيرتها الألمانية اهتمت أكثر بكيف تمت الهولوكوست، وكيف تواطأ مجتمع بأكمله على الإبادة واشترك فيها! وحاولت تقديم معالجات لكيف ينجو هذا المجتمع! اختلاف التناول ينبع بالأساس من اختلاف موقع كل منهما من الحدث.

 كذلك لا يخلو الأمر من التناول الموجّه، والذي يخدم أغراضا سياسية بعينها؛ فالسينما ليست بريئة تماما؛ فاذا ما تتبعنا طريقة تناول السينما الأمريكية لأحداث أخرى كالحرب العالمية الثانية؛ يمكن اعتبار ذلك التناول تجاوز الانحيازات الطبيعية لدرجة يرتقي معها إلى التوظيف السياسي؛ حيث ركزت السينما على بشاعة الحلفاء وجرائمهم التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، وجرائم هتلر وموسوليني؛ وحتى قصف اليابان لميناء بيرل هاربور الأمريكي؛ في حين أن الذاكرة السينمائية -الهوليودية- لا تحتوي على أي عمل يوثق لجريمة هي الأبشع في العصر الحديث عندما قامت بإلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في الفترة التي كانت فيها الإمبراطورية اليابانية قد خسرت الحرب بالفعل.

المصدر : الجزيرة