شعار قسم ميدان

كيف تحدى أصغر فرهادي القيود؟

ميدان - فرهادي

كان فيلم المخرج الإيراني أصغر فرهادي "البائع المتجول" (The Salesman) أحد الأفلام الخمسة المرشحة لجائزة الأوسكار في موسمها الأخير عن فئة الأفلام الأجنبية، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب استبق فعاليات المهرجان بإصدار أمر تنفيذي مؤقتا يمنع مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة -بما فيها إيران- من دخول الولايات المتحدة؛ فقرر فرهادي مقاطعة الاحتفالية السنوية لكنه وجه خطاب للمشاركين في المهرجان جاء فيه:
 

"إن إذلال أمة واحدة بحجة حفظ الأمن ليست ظاهرة جديدة في التاريخ، فقد وضعت على الدوام أسس الانقسام والعداوة، وأنا هنا أعبر عن إدانة الشروط المجحفة التي تُفرض على المواطنين من أبناء بلدي ومن ست بلدان أخرى، ونأمل أن الوضع الحالي لن يؤدي إلى مزيد الانقسام بين الدول"،

 

وبالنظر إلى الاهتمام الذي لقيه أسلوب احتجاج فرهادي؛ فإنه من الجدير النظر إلى الطريقة التي تطور فيها الفيلم الإيراني تحت نظام يسعى إلى إخماد الانتقادات -وكيف يجتاز أمثاله من صنّاع الأفلام تلك التضييقات المفروضة؛ ليقدّموا فنا قويا ومفحما سياسيا.
 

ثقافة أفلام ثنائية القطب
المخرج الإيراني عباس كياروستامي في إحدى حفلات مهرجان كان السينمائي (غيتي)
المخرج الإيراني عباس كياروستامي في إحدى حفلات مهرجان كان السينمائي (غيتي)

قبل الثورة الإسلامية عام 1979 كان قطاع الأفلام المستقلة موجودا إلى جانب الإنتاج السينمائي الذي تموله الحكومة، لكنّ الثوار وجدوا بأن صناعة الأفلام كانت رمزا للانحلال الثقافي، وخلال الثورة أُضرمت النار بالعديد من قاعات السينما.
 

وفي مطلع عام 1982 بدأت السينما الإيرانية بالانتظام مجددا، فقد أرادت الحكومة إعادة تشييد ثقافة سينمائية وطنية يمكنها التعبير عن أخلاقيات الإسلام والتاريخ العريق للدولة الإيرانية، لكن هذا الهدف كان يصطدم عادة بالمخرجين الذين ربطتهم أواصر عميقة بالثقافة الأدبية، وأرادوا أن يتمكنوا من تصوير إيران الحديثة، وكنتيجة كانت ثقافة الأفلام الإيرانية ثنائية القطب، بميلودراميات داخلية سياسية بنسب تتخطى الأفلام الفنية التي تنتقد الحياة اليومية.

 

وتكشف السينما الإيرانية اليوم عن بعض التناقضات الناجمة عن العيش تحت الحكم الثيوقراطي، فصناع الأفلام مطالبون بـالامتثال لقواعد صارمة، حيث تمنع وزارة الثقافة التصوير المسيء للإسلام والمرأة والبلد وتاريخه، لكن هذه القواعد ضبابية فالتقييد على الأفلام الإيرانية متناقض، وغالبا ما يكون مبنيا على أذواق المسئولين الأفراد.
 

لربّما وافقت السلطات على فيلم "البائع المتجول"؛ لأن تصويره للحقائق الاجتماعية في إيران مُضمَر عوض أن يكون صارخا.

فضلا عن أنّ الفن السينمائي لدى صناع أفلام مثل عباس كياروستامي، وجعفر بناهي، ومحسن أمير يوسفي  قد نال إشادة عالمية، فمنذ بواكير الألفية الثالثة، والأفلام الإيرانية تحصد الجوائز في المهرجانات البارزة، كمهرجانات كان السينمائي وفينيسيا وسان سيباستيان.

 

إن النجاح المذهل الذي حققته السينما الإيرانية في الخارج قد عقّد بشكل أكبر صورة الرقابة، فقد كانت الحكومة الإيرانية على سبيل المثال، من منحت الموافقة على سيناريو فيلم "البائع المتجول"، وهي التي قررت أن يكون الفيلم مرشّح البلاد الرسمي عن فئة أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار.

 

ولربّما وافقت السلطات على فيلم "البائع المتجول"؛ لأن تصويره للحقائق الاجتماعية في إيران مُضمَر، عوض أن يكون صارخا، فقد عجز المسئولون ذوو العقلية المغلقة -غالبا- عن إيجاد أمثلة واضحة على الكفر أو انتقاد النظام الحاكم.

 

نقد ناعم لكن قوي

undefined

في "البائع المتجوّل" على سبيل المثال لدينا زوجان هما رنا وعماد، ممثلان يحاولان التدرب على إعادة إنتاج مسرحية آرثر ميلر "موت البائع المتجول"، لكن منزلهما ينهار نتيجة بناء خاطئ، ما يرغمهما على استئجار شقة يكتشفان لاحقا، أن قاطنتها السابقة كانت بائعة هوى، ويستمر زبناؤها بالظهور خالقين مشاكل جديدة لرنا وعماد.
 

ضمن هذه المعالجة الموجزة للمجتمع المدني الإيراني بوصفه "مبنى متهالكا" -وفي تصويره للأدوار الدينية والاجتماعية المتعارضة التي يجب أن تكابدها المرأة الإيرانية- يتمكن الفيلم من أن يكون نقدًا مضمَرا للحياة الحديثة في إيران.
 

وفي "البائع المتجول" ليس الإسلام هو المشكلة وعوضا عن ذلك، نجد أن الفيلم يصرّ على أن المشكلة تكمن في قمع المؤسسات -الثقافية، أو الاقتصادية أو الدينية- التي تضيّق إمكانات التواصل الإنساني و تحد من المساواة، وهذه كما يبدو في رأي فرهادي هي الأخطار الحقّة التي قد تحدق بأي مجتمع.
 

في هذه الأثناء تضفي صانعات الأفلام مثل سميرة مخملباف -بالإضافة إلى ممثلات وكاتبات ومخرجات أخريات عنصرا من النسوية الصامتة إلى صناعة توجد في كنف المعاناة من حكومة بطريركية [الوصاية الأبوية]، إنها ما يسميه الباحث حميد ناصيفي "سينما النظرة المُتفادية"؛ حيث يواجه كلا المخرجين ذكورا وإناثا إخضاعا غير مباشر للنساء، بالإضافة إلى إخفاء المصادر الدالة على قوة ثقافة للنساء في هذا المجتمع.

 

تحدي القيود
في هذه الأثناء تضفي صانعات الأفلام مثل سميرة مخملباف بالإضافة إلى ممثلات وكاتبات ومخرجات أخريات عنصرا من النسوية الصامتة (مواقع التواصل)
في هذه الأثناء تضفي صانعات الأفلام مثل سميرة مخملباف بالإضافة إلى ممثلات وكاتبات ومخرجات أخريات عنصرا من النسوية الصامتة (مواقع التواصل)

وعلى الرغم من أن تحدي السلطة الثيوقراطية [حكم رجال الدين] عادة ما يكون ناعما بحيث بالكاد يُلحظ، إلا أنّ ذلك لم يثنِ الحكومة عن منع بعض الأفلام الإيرانية عن الجماهير الداخلية، ففيلم "الدائرة" (Circle) الذي أنتج عام 2000 منع من العرض لتصويره عارضات أزياء، وهو فيلم يتناول مسألة اجتماعية في جزء منها  نتيجة قوانين المؤسسة الدينية.
 

لطالما رأى منظمو الثقافة الرسميين أنفسهم مناهضين للحداثة والعولمة، وهما ما تم ربطهما بشكل نمطي بغرب عدواني ومنحط؛ وهي ذات الطريقة التي يتعامل فيها ترامب لسوء الحظّ مع الإسلام.
 

لقد قوضت السينما الإيرانية أيضا السردية الموحدة القائلة بأن الدولة الثيوقراطية تسعى لمد جسور التواصل

وعلى الرغم من أن إيران لم تتمكن كليا من ردع قوى العولمة التي تمقتها، إلا أن الأفلام الفنية كانت قادرة على تفحص الطريقة التي يؤثر فيها رأس المال العالمي والصراع في حياة الإيرانيين.
 

ففيلم "النجاة من الفردوس" (Surviving Paradise) الصادر عام 2000، يحكي قصة لاجئين إيرانيين يافعين تائهين في شوارع لوس أنجلوس، وكان أول فيلم إيراني-أمريكي ناطق بالإنجليزية يوزّع في أميركا، وقد استمرت عدة مهرجانات سينمائية إيرانية بالانعقاد حول العالم، كجزء من شبكة تبادل ثقافي سابقة على الثورة الإسلامية.
 

لقد قوضت السينما الإيرانية أيضا السردية الموحدة القائلة بأن الدولة الثيوقراطية تسعى لمد جسور التواصل، فعلى سبيل المثال يترفّع الفيلم الحربي الإيراني "مبارزة" (Duel) الذي صدر عام 2004 عن بث رواية السلطة، وخلافا لذلك فقد أصدر تصريحا قويا حيال صدمة الحرب العراقية الإيرانية، باستخدام ذكرى الصراع كعدسة لفهم إيران الحديثة.
 

وأيضا فيلم الرسوم المتحركة لمرجان ساترابي المقتبس عن روايتها المصورة "بيرسيبوليس" الصادر عام 2007 هو أحد أشد المراجعات السينمائية مباشرة ووضوحا لنسخة الحكومة من ثورة 1979، مع أن هذا الفيلم قد صوّر في فرنسا.

 

التطلع إلى جوائز الأوسكار

undefined


تكمن أهمية مقاطعة فرهادي الشخصية للأوسكار في أنها تظهر بأن سياسات أميركا العقابية والطائشة يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، وتقصي أشدّ الأصوات ليبرالية وكونية في العالم الإسلامي، 
لقد فاز فرهادي سابقا بجائزة أوسكار لإخراجه فيلم "انفصال" (Separation) عام 2001، وهو فيلم يدور حول زواج يضمحلّ إثر سؤال البقاء في إيران أم مغادرتها.

 

لقد اعتبر فرهادي نجما مضيئا في عالم السينما، عقب كتابته وإخراجه وإنتاجه فيلم "البائع المتجول"، لينضم إلى كوكبة من خيرة المخرجين الأحياء في زمننا هذا، أمثال مارتن سكورسيزي وبيدرو المودوفار ووونغ كار واي وألفونسو كوران، بوصفهم مؤلفين يقدّمون إسهامات خالدة للفن.

 

وإن كانت التصريحات المستمرة في محافل المهرجانات السينمائية الدولية لتشير إلى أي شيء؛ فهو أن الأوسكار ستنتج موسما ما بعد انتخابات فريد لسياسات الثقافة؛ فضلا عن أنها تمثل رفضا للافتراضات الثقافية الكامنة في  سياسات ترمب.

 

undefined

 

لقد أشار فرهادي إلى حفل الأوسكار باسم "هذا الحدث الثقافي الضخم"، ولكن بغيابه وحضور فيلمه؛ فإنه سيكون قادرا على الإسهام في النغمات الخفيفة لأوسكار هذه السنة بطريقة عجز عنها النجوم الأميركيون الذين حضروا على خشبة المسرح، وفي هذا التصريح كتب فرهادي أيضا إن "المتشددين برغم جنسياتهم برغم الجدالات السياسية والحروب، ينظرون إلى العالم ويفهمونه بطريقة هم.. نحن"، وبهذا المعنى يبدو وأنه يساوي إدارة ترمب بالنظام الإيراني.

 وفي نهاية المطاف، كما يشير فرهادي بذكاء، فإن أمره التنفيذي يتقاطع مع التطرف الإيراني الذي يزعم أن إدارته تحاول احتواءه. 

______________________________________

المقال مترجم عن: الرابط التالي
المصدر : الجزيرة