شعار قسم ميدان

فيلم "محبّة فنسنت".. لا تستعجل صناعة الحب

midan - film

في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو استخدام التكنولوجيا والأنظمة الرقمية، اختصارا للوقت والأموال، وفي ظل قيم تحتقر التأني والبطء، وتقدس السرعة والإنجازات، اختار فريق فيلم "محبة فنسنت" قضاء خمس سنوات أو أكثر في التدقيق الشديد والمثابرة والعمل على عشرات الآلاف من اللوحات المرسومة على القماش، لإنتاج أول فيلم مرسوم بالكامل بالأيدي البشرية وبالألوان الزيتية.

هذا الخيار لا يدل -فقط- على أصالة وإبداعية هذا العمل؛ وإنما يعكس الحب، إنه فيلم مصنوع من المحبة الخالصة للرسام الهولندي "فنسنت فان جوخ"، الذي تحولت قصة حياته ولغز موته لأسطورة ما زال وهجها مشتعلا حتى الآن!

يقول "فان جوخ" في إحدى رسائله لأخيه: "نحن لا يمكننا أن نتواصل إلا من خلال الفن". وتقول مخرجة الفيلم "دوروتا كوبيلا" إن عبارة فان جوخ هذه كانت شديدة الأهمية بالنسبة لها، وهي السبب الذي أوجد فكرة صناعة الفيلم بالاعتماد على 125 لوحة من أهم لوحات الفنان وبنفس تقنية الرسم التي تميز بها، تقول: "نحن نحكي قصة هذا الفنان من خلال فنه".

في مديح البطء.. كل ثانية تستغرق شهرا
يعمل على الفيلم أكثر من 100 رسام من جميع أنحاء العالم، منهم من ابتعد عن موطنه وعائلته طوال فترة الإعداد للفيلم؛ تعبيرا عن محبته لفنسنت وإيمانا منه بأن هذا الفيلم من نوعية الأفلام التى تصنع تاريخ السينما، يقول المنتج "شون بوبيت" إنهم لم يوفروا ضمانات للعاملين، ممن جاؤوا من بعض الدول مثل كندا، على سبيل المثال، بأنهم سيبقون هنا، لقد كانوا على علم بأنه لن يسدد لهم أحد ثمن التذاكر أو الإقامة في الفنادق.

تقول تيفاني مانغ (24 عاما)، وهي فنانة أمريكية، إنه لم يخطر ببالها النجاح في الامتحان، عندما قطعت رحلة استغرقت 15 ساعة للوصول إلى غدانسك ببولندا، وقالت في اليوم العاشر من تدريبها "لم أعش أو أسافر وحدي أبدا؛ ولكن كان عليَّ أن أغتنم هذه الفرصة الجنونية؛ لأن هذا الفيلم سيصنع التاريخ".

تم تدريب جميع الفنانين الذين يتمتعون -أصلا- بمهارة عالية على تقنيات الرسم التي كان يستخدمها فان جوخ منذ أكثر من مئة سنة،  يعمل الفريق منذ خمس سنوات على رسم كل لقطة في الفيلم الذي تتجاوز مدته 80 دقيقة، فكانت النتيجة عبارة عن فيلم مصنوع تقريبا من 65.000 لوحة مرسومة بالكامل، تحتاج كل ثانية واحدة منه إلى 12 لقطة رسمت باليد؛ لكي نستطيع أن نشاهد فيلما متحركا.

إن رسم إطار واحد أو لوحة واحدة يستغرق من الفنان وقتا يتراوح من ساعتين إلى يومين كاملين؛ مما يعني أن كل رسام قد يقضي شهرا لإنتاج ثانية واحدة من الفيلم.

الرسام باتريك أرموسيويز يعمل على إحدى لوحات الفيلم
الرسام باتريك أرموسيويز يعمل على إحدى لوحات الفيلم

 

هل مات فان جوخ مقتولا؟
تعتمد حبكة الفيلم بشكل أساسي على رسائل فان جوخ الشهيرة إلى أخيه "ثيو" والتي تصل إلى 800 رسالة، وهي المصدر الذي استقى منه معظم من كتبوا سيرة حياة فان جوخ معلوماتهم الأساسية عن كل ما يتعلق بهذا الفنان وفنه؛ لكن الفيلم يركز على محاولة حل لغز موته الغامض، ويطرح رؤية تختلف عن الرواية السائدة التي تفيد بأنه انتحر.

تقول أشهر الروايات بأن فان جوخ مات منتحرا بطلقة رصاص أطلقها على نفسه؛ لكن السيرة التي كتبها "ستيفن نايفة" و"غريغوري وايت سميث": "الحياة: فان جوخ"، تفيد بأن فان جوخ قد يكون تلقى رصاصة من مجموعة من الصبية كانوا يعبثون بسلاح سواء إثر جريمة قتل أو حادث تم التعتيم عليه، وهذه هي الرواية التي يتبناها الفيلم.

تبدأ قصة الفيلم بعد عام من موت فان جوخ، في صيف 1891، بطلها هو أرماند رولين وهو ابن جوزيف رولين ساعي البريد الذي كان صديقا لفان جوخ والذي رسمه في لوحاته، بعد موت فان جوخ اكتشف ساعى البريد أنه أغفل رسالة كان عليه أن يرسلها لثيو فأرسلها بالبريد لكنها عادت إليه، فأرسل ابنه أرماند لباريس للبحث عن ثيو وتسليمه الرسالة؛ لكنه وجد أن ثيو أيضا قد مات (مات بالفعل بعد أقل من سنة من موت فان جوخ عن عمر صغير جدا أيضا: 33 سنة).

فعاد أرماند وهو عاقد العزم على محاولة فهم لغز موت فان جوخ الغامض، من خلال لقاءاته مع 20 شخصية من الشخصيات القريبة من فان جوخ، والتي تناولها بالرسم في لوحاته.

الشخصيات الرئيسة في الفيلم (مواقع التواصل)
الشخصيات الرئيسة في الفيلم (مواقع التواصل)


بطل الفيلم "أرماند رولين" لم يكن على علاقة قوية بفنسنت مثلما كان والده، لقد كان أبوه من أقرب أصدقاء فان جوخ، ولقد رسم فان جوخ لكل عائلة جوزيف رولين بروتريهات شخصية بما فيهم أرماند الذي رسم له ثلاثة بورتريهات؛ ولكنها ليست ضمن اللوحات الشهيرة للفنان.

على اليسار البورتريه الأصلي لأرماند رولين، على اليمين بطل الفيلم بعدما أُعيد رسمه
على اليسار البورتريه الأصلي لأرماند رولين، على اليمين بطل الفيلم بعدما أُعيد رسمه

في قصة الفيلم هناك جزء من حياة فان جوخ لم يقم برسمه، ولأن الفيلم مرسوم بالكامل بناء على لوحات فان جوخ، فالأحداث التي لم يرسم عنها شيئا تناولها الفيلم بطريقة الفلاش باك في صور متخيلة بالأبيض والأسود وبالاعتماد على صور فوتوغرافية من المكان الذي عاش فيه فان جوخ، سمحت هذه الطريقة لفريق عمل الفيلم بعرض الكثير من الأحداث الدرامية التي حدثت في حياة الفنان ولم يتناولها في لوحاته.

"في محبة فنسنت"… ليس الفيلم الأول
إن مأساة حياة فان جوخ وقصة موته الغامض أثارت اهتمام عشرات المخرجين والكتاب الذين صنعوا عشرات الأفلام الروائية والوثائقية حول حياته والتي حولته لأحد رموز الثقافة المعاصرة. من بين هذه الأفلام فيلم "فان جوخ" للمخرج موريس بيالا 1991، يركزهذا الفيلم الفرنسي على الأيام الـ 67 الأخيرة من حياة الفنان، وما يميز هذا الفيلم أن المخرج كان مهتما بنفي صفة الجنون عنه، وإعادة تقديمه كرجل طبيعي لا يعاني مرضا عقليا.  
 
undefined

هناك أيضا فيلم "فنسنت وثيو" للمخرج روبرت ألتمان 1990 وهو الفيلم الذي كان مخرجه مسحورا بالعلاقة شديدة الخصوصية التي كانت تربط فان جوخ بأخيه ثيو؛ والذي كتب له مجموعة من أعذب الرسائل التي عرفها العالم؛ واحتوت هذه الرسائل على الكثير من المعلومات شديدة الثراء بسبب ما تعكسه حول الجوانب الخفية للنفس الإنسانية، ويمكننا من خلالها -أيضا- أن نعرف الكثير عن سيكلوجية الإبداع الفني.

أما المخرج فينسنت مينيللي فقدم صورة أخرى لفنسنت فان جوخ من خلال فيلمه "شهوة الحياة لفنسنت جوخ" 1956 وهي الصورة التي يبدو أنها الأكثر انتشارا عن الفنان، ذلك المجنون الذي يدفعه جنونه هذا نحو ممارسة الفن حتى لحظة موته، ففي مشهد انتحاره يصوره الفيلم وهو يطلق الرصاص على نفسه أثناء رسمه لوحته الأخيرة "حقل القمح والغربان"، وهناك عشرات الأفلام الأخرى التي لن يتسع المجال لذكرها هنا.

 undefined

لماذا يحب العالم فنسنت فان جوخ؟
يقول الرئيس التنفيذي للشركة المنتجة للفيلم، شون بوبيت: "أعتقد أن هناك الكثير من الناس يعشقون فنسنت فان جوخ ويشجعون لوحاته، والأكيد أنهم مهتمون بحياته، بصراحة السبب الذي جعل هيو (يلشمان) يقرر التخلي عن فكرة إنجاز فيلم قصير والمرور إلى إنجاز فيلم طويل هو ذلك المعرض الذي ضم رسائل فان جوخ في لندن والطابور الطويل من الناس الذين كانوا يقفون لساعات ليتمكنوا من قراءتها.. ما يعني أنهم لا يهتمون بفنه فقط؛ بل بشخصه أيضا".

لقد كتب الكثير من نقاد الفن والاجتماع عن سر عظمة وشهرة فان جوخ التي لم تحدث إلا بعد موته، وفي كتابها سوسيولوجيا الفن تقول نتالي إينيك إن غزارة الدراسات التي تناولت فان جوخ وفنه تعزز الفكرة الشائعة بين المعجبين بأن نهايته المأساوية كانت نتيجة عدم الفهم الذي تعرضت له أعماله وكان ضحيتها. وتقترح إينيك أن تؤخذ بالحسبان الأبعاد المتعددة للإعجاب بهذا الفنان وبخاصة الأسباب الدينية العائدة على مجموعة اللوحات التى تمثل مشاهد قدسية مستمدة من فهرست المشاهد القدسية.

إن ما يدفع الجماهير لمحبة فان جوخ هو حسب إينيك  (شعور بالدَّين الجماعي لهذا الفنان) الذي عاش حياته فقيرا ووحيدا ومعذبا ولم يشهد كيف أصبح -هو نفسه- أحد رموز الفن المعاصر، وأصبحت لوحاته أيقونات عالمية.

المصدر : الجزيرة