شعار قسم ميدان

شخصية سنوبي.. جرو لطيف أم مريض نفسي؟

midan - snoopy
مقدمة المترجم
تُطلعِنا "سارة بوكسر" (الكاتبة) على جانبٍ مهمٍّ من الشخصية الكرتونية الشهيرة الكلب سنوبي، وشخصيات سلسلة القصص المصوّرة "بيناتس" (Peanuts) وكيف قدّم مؤلّف السلسلة "شولز" هذه الشخصيات والعلاقة التي جمعته بهم.

 

نص المقال
ذات ليلةٍ عاصفةٍ أشاح فيها القمر بوجهه عن هذه الدنيا، تُوفّي تشارلز شولز، الفنان الذي رسم بنفسهِ قرابة 18 ألف قصة "بيناتس" مصوّرة، والذي رفض بشكلٍ قاطع أن يستعين بأيّ أحدٍ لكتابة قصصه أو رسمها، والذي نذر على نفسه بعد أن تقاعد أن تتوقّف السلسلة نهائيًّا. وبموته في 20 (فبراير/شباط) 2000 رُسِمت نهاية مغامرات عصبة الفتية هذه.

 

بعد بضعة ساعات، نُشرت آخر قصةٍ أسبوعية، وعُنونَت بجملةٍ وداعية "تشارلي براون، سنوبي، لاينوس، لوسي… كيف لي أن أنساكُم". وقتذاك، كانت قصص "بيناتس" تُنشر في 2600 صحيفة و 75 بلد، ويقرأها قرابة 300 مليون إنسان. امتدت قصص "بيناتس" على مدار خمسة عقود، ووصفها روبرت ثومبسون، وهوعالمٌ يُعنى بالثقافة الشعبية بأنها "على الأرجح أطول قصةٍ سردها فنانٌ واحد في تاريخ البشرية".

 

تشارلز شولز (رويترز)
تشارلز شولز (رويترز)

يبلور صدور فيلم "بيناتس 2015" في خريف هذا العام -زمن كتابة المقال- معنًى جديدًا لعبارة "على جثتي" بدءًا باسمِ الفيلم نفسه، فـ شولز كان يكنّ كرهًا مسعورًا لاسمِ بيناتس، الذي فرضته كرهًا عليه الشركة التحريرية. وكان يتجنّب -ما أمكن- استخدامه "إذا سألني شخصٌ ما عن عملي، أجيب بأنني أرسم تلك القصص المصوّرة التي يظهر فيها سنوبي، تشارلي براون وكلبه".

 

سيكون الفيلم مصممًا على طريقة الأنيميشن بعكس الحلقات التلفزيونية الخاصة التي كان شولز يصفها -على سبيل المصادقة- بأنها "شبه أنيميشن".  حيث كانت الشخصيات تلتف عوضًا أن تستدير بنعومة من جهةٍ لأخرى. كما أن "الفتاة الصغيرة ذات الشعر الأحمر" التي خطفت فؤاد تشارلي براون سيكون لها دورٌ كبير في الفيلم، رغمًا عن شولتز الذي وعد قرّاءه بأنهم لن يروا وجهها أبدًا.

 

ولكن قبل هذا كلّه، وقبل أن يتذوّق الجيل الجديد لمحةً من قصص "بيناتس" أو ما كان يمثّله، فلنعد بالزمن إلى الوراء. لماذا حظيت هذه القصص المصوّرة بهذه الشعبية المهولة لنصف قرن؟ وكيف وجدت شخصيات شولز "الظريفة والحبّابة" (تقريبًا، لا تسمع أحدًا يصف هذه الشخصيات إلا هكذا) طريقها إلى قلوب الكثيرين، بدءًا من الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان وانتهاءً بالممثّلة ووبي غولدبيرغ.

 

اكتنف قصص بيناتس شيء من الخبث، فهي قد تبدو للوهلة الأولى طفوليةً، لكنها لم تكن كذلك البتّة. فقد حوت تلك القصص ببهجتها الريفية ونعومتها الدافئة حقائق منفّرة عن وحدة كينونتنا الاجتماعية. وكانت الشخصيات رغم أنها مضحكة تستعرّ نقاشاتٍ ساخنةٍ بصورةٍ تفاجئ من يقرأها حول كيف لنا أن نعيش وأن نكون أناسًا نتمتّع بالمروءة في عالمٍ مرّ؟ ومن كان أفضل في هذا: تشارلي براون أم سنوبي؟

 

undefined

تفاجئك الطبعات القديمة لقصص بيناتس -عندما كانت سبع صحف فقط تنشر السلسلة، وكان سنوبي مجرّد مخلوقٍ مشرّد بأربعة أرجل لا صاحب له ولا مأوى، وكانت لوسي ولاينُوس لم يولدَا بعد- بسوداوديتهَا، ففي القصة الأولى، المنشورة بتاريخ 2 (أكتوبر/تشرين الأول) 1950، نرى طفلين (ولدًا وبنتًا) يجلسان على الرصيف. يقول الصبي: "ها هو ذا، ها قد أتى، تشارلي براون، صاحبنا القديم تشارلي براون… نعم، نعم، صاحبنا القديم تشارلي براون"، وعندما يخرج تشارلي براون من المشهد، يُردف شيرمي بقوله: "لَكم أكرهه!". في القصة الثانية، نرى الفتاة (باتي) تمشي وحيدةً، وهي تغنّي "خُلقت الفتيات الصغيرات من السكر والبهارات.. وكل ما هو حُلو"، وعند اقتراب تشارلي براون منها، تدفعه بقوة، قائلةً: "هكذا خُلقِت الفتيات الصغيرات".

 

بالرغم من افتقار قصص بيناتس وقتها لعددٍ من الشخصيات الرئيسية، أو تفاوتها عن طبائعها المعتادة، كانت الأفكار "الهوبيسينية" التي تتمحور حول المجتمع، والتي تضفي على المجلة طابعها الفريد جليةً بالفعل: الناس -خصوصًا الأطفال- يغلب عليهم الأنانية والقسوة في تعاملهم مع بعضهم البعض، الحياة الاجتماعية صراعٌ سرمدي، والعزلة هي ملاذك الآمن، وتبدّد أمنياتك الدفينة هي أمرٌ حتمي، والأشياء التي نتكئُ عليها لنستمد منها الراحة ستتبدّد، وهناك هوةٌ ممتدة بين تخيلاتك التي ترسم لك صورتك الذاتية وبين ما يراه الآخرون.

 

كان هذا الطابع الكئيب السوداوي، الذي كان معاكسًا للتيار المفعَم بالحماس الذي هيمن على الخمسينيات، يعوم بحرية بين ثنايا صفحات بيناتس في البداية، ويتلبّس بنعومة طفلًا أو آخر، إلى أن أصبح كل طفلٍ يجسّد طابعًا معيّنًا، وخصوصًا لوسي، شرودر، تشارلي براون، لاينوس وسنوبي. بصيغةٍ أخرى، كان جميع أطفال بيناتس في البداية، "عبارة عن كتلٍ لئيمةٍ صغيرة من الدناءة تتوق لأن تؤذي بعضها البعض". فتفشّى لون البلطجة الفريد التي تميّزت به لوسي بين محبّي بيناتس. وحتى تشارلي براون (الشخصية المحورية في القصص) كان يحمل بعض الطبائع المكروهة، ففي عام 1951، على سبيل المثال، بعد أن رأى باتي تسقط في بركة وحل، علّق بابتسامةٍ متكلّفة: "في الوحل مباشرة، هه، لحسن الحظ كانت الآيس كريم في يدي".  

 

جذب التصوير القميء للمجتمع الكثير من أوائل جماهير بيناتس -وهو ما قد يكون مفاجأةً لمن التحقوا بركب المجلة في وقت لاحق-. يتذكّر مات غروينينغ (مؤلّف سلسلة القصص "الحياة في الجحيم" و"سيمبسونز") بأنه كان "يبتهج بالقسوة غير المتكلّفة، والإهانات المتكرّرة الكامنة في قلب القصص". كذلك أُعجِب محرّرو مجلة القصّص المصوّرة "تشارلي مينسويل" بالقلق الوجودي العميق في السلسلة لدرجة أنهم أطلقوا أسماءها على كافة شخصياتها المحورية. في قلب هذا العالم كان تشارلي براون هو بطلٌ ملحمي من نوعٍ جديد، فهو فتًى فاشل يستلقي في الظلام وهو يستذكر هزائمه، ويرسم مخاوفه في ذهنه، ويخطّط للانتقام. أحد أشهر مقولاته كانت: "نفسيتي المعذّبة لها نفسيةٌ معذَبة".
 

undefined

وبالرغم من أن تشارلي كان المركز الذي تتمحور حوله ثلة بيناتس (وفريق البيسبول الذي شكّلوه) كان أيضًا أبأس شخصيةٍ في القصة بلا شك. فصندوق بريده كان فارغًا دائمًا، وكلبه كان يجافيه على الأقل حتى وقت العشاء، والكرة كانت دائمًا ما تبتعد عنه بتأنف. يصفه رسام الكاريكاتير توم تومورو" بأنه "سيزيف"، فالإحباطُ كانت صنعته. وعندما سُئل شولتز إن كان سيسمح لـ تشارلي بلمس الكرة في آخر قصةٍ ستُنشر له، يُقال إن جوابه كان "لا، مستحيل.. سيكون هذا خيانةً فظيعةً له بعد ما يقارب نصف قرن".

 

بالرغم من إنكار شولز فكرة أنه يرى شيئًا من نفسه في تشارلي براون (الذي قرّر شولز تسميته على اسم أحد أصدقائه في أحد جامعات مينابوليس، والتي تعلّم وعلّم شولز فيها الرسم)، افترض كثيرٌ من القراء أن الاثنين (تشارلي وشولز) كانا وجهين لعملةٍ واحدة. ولكن ما كان أهمّ من هذا هو أن القراء رأوا أنفسهم في تشارلي براون حتى لو لم يكونوا يريدون ذلك. وهذا ما قاله "مو ويليمز"، مؤلّف قصص الأطفال في أحد مقالاته: "كنت أطمح لأن أكون لاينوس، أن أكون حكيمًا ولطيفًا، وأتمتّع بمهارةٍ نادرة في بناء عماراتٍ ضخمة من أوراق اللعب. ولكنني كنت أعرف، في أعماق نفسي، بأنني تشارلي براون وأظن أن جميعَنا كان يعرف ذلك".

 

حسنًا، هذا لم يحصل معي، فلحسن الحظ بدأت شخصياتٌ جديدة (قد ترى نفسك فيها) بالتوافد بدءً من عام 1952 (بعد أن انتقل شولز من بلدته الأم سينت بول في مينيسوتا إلى ينابيع كولورادو حيث عاش هناك لعامٍ مع زوجته الأولى جويس، وابنتها ميريديث) ففي هذا العام وُلِد فان بيلتس، ووصلت لوسي، الفتاة اللحوحة صعبة المنال، في (مارس/آذار)، والتي كانت في البداية مستوحاةً من ميريدث، وتعرّفنا على أخ لوسي الصغير، لاينوس، الذي يحمل بطانيته أينما ذهب بعد بضعة أشهر، وكان لاينوس هو أكثر شخصيةٍ أحبّ شولز رسمها (كان يبدأ بوضع قلمه وراء رقبته).

 

وطبعًا كان هناك سنوبي، الذي كان رفيقًا وفيًّا منذ بداية رحلة بيناتس (كان شولز يريد أن يُسميَّهُ سنيفي)، وطوّر سنوبي سريعًا ملكةً بلاغية، فشوهدت أولى تعبيراته التي دلّلت على وعيه بذاته في بالون خواطر إجابةً على سخرية تشارلي براون من أذنيه "ألا تعتقد أن الجو دافئٌ اليوم على ارتداء واقٍ للأذنين" ليبتّ سنوبي لنفسه "لمَ علي أن أتجرّع كلّ هذا الإذلال؟". 
 

undefined

أحبّ أن أعتقد أن بيناتس وسياسات الهوية قد تناموا معًا في أميركا، فبحلول العام 1960، اختصت كل شخصيةٍ من الشخصيات الرئيسة -تشارلي براون، و لاينوس، وشرودر، وسنوبي- بدورها وأتباعها. فحتى لوسي حظيت بقاعدةٍ جماهيرية. يقول صانع الأفلام جون واتير في مقدّمةٍ لأحد المجموعات التي نشرتها "فانتا غرافيكس": "أحبّ سياسات لوسي ‘أنا أعرف كلّ شيء…‘ وسلوكياتها ‘ابتعد عن طريقي‘، ونرجسيتها… وخصوصًا بلطجتها اللسانية على الآخرين… أرى أن "تكشيرة لوسي التي تعلن بها الحرب" تتمتّع بذات أيقونية ابتسامة الموناليزا". أن تجد هويتك في سلسلة القصص هذه كان أشبه بأن يجد المرء لنفسه حزبًا سياسيًّا أو مجموعةٍ إثنية، أو دوره في العائلة. وكان هذا جزءٌ كبير مما جذب الناس لقصص بيناتس.

 

تمتّعت كل شخصيةٍ بهويةٍ قوية بسلوكياتها الغريبة اللافتة، وعِلّاتها الصادقة. وعلى غرار أي بطلٍ، اختصت كلّ شخصيةٍ لنفسها بغرضٍ أو صفةٍ عُرِفَت بها. فـ تشارلي براون كان لديه الطائرة الورقية المتشابكة، واشتهر شرويدر بلعبة البيانو، ولاينوس كان لا يفارق بطانيته الناعمة، ولوسي كانت تملك "طاولة الاستشارات النفسية"، وتعلّق سنوبي ببيته.

 

واشتمل هذا العالم المؤسّس بجمالية أيضًا على ميولٍ حوارية اشتهرت بها كلّ شخصية، فضلًا عن أغراضهم المعروفة، بصورةٍ تشبه إلى حدٍّ كبير سلسلة قصص "كريزي كات"، التي كانت أحد السلاسل التي حظيت بإعجاب شولز الذي منّى نفسها بأن يستطيع مجاراتها. ولكن على النقيض من سلسلة كريزي كات التي ارتكزت على مثلث حبٍّ تُعييك تكراريته ونرى فيه حيواناتٍ يتراشقون قوالب الطوب، قدّمت بيناتس نفسها على أنها دراما تكيفٍ اجتماعي، بسيطةٌ ظاهريًّا ولكنها في الواقع معقّدةٌ للغاية.

 

بلورت شخصية تشارلي براون، التي قامت في مجملها على رؤيتنا لأمانيه تتحطّم أمام ناظريه، ما سماه الممثّل أليك بالدوين في أحد مقدّمات مجموعات بيناتس القصصية "مروءةٌ ورتابةٌ متثاقلتين تشبه ما قد تتلمّسه في جيمي ستيوارت". فالطريقة الـ تشارلية البراونية هي أن "تستمر في الاستمرار"، سواءً بتعلّقه يومًا بعد يوم بطائرةٍ ورقية متشابكة، أو بفريق بيسبول لا يجيد سوى الخسارة. يلمس ميكائيل (كاتب سيرة شولز) جوهرية شخصية تشارلي براون -و بيناتس نفسها- في إحدى القصص المنشورة عام 1954، التي نجد فيها تشارلي براون وقد ذهب لزيارة شيرمي، يقف تشارلي بالقرب من شيرمي ناظرًا إليه وهو يلعب  بقطاره وسككه الكثيرة والشائكة التي تلفّ غرفة الجلوس في منزله، وبعد برهةٍ من الزمن، يأخذ "تشارلي" معطفه ويقف عائدًا إلى بيته… ومن ثم يجلس بجانب سكته الحديدية المتواضعة التي كانت عبارةً عن مسارٍ دائريٍ بسيط… ولربما كانت هذه اللحظة التي جعلت تشارلي براون رمزًا وطنيًّا، فهو رجل الحياة اليومية الذي لا يملك سوى أن يتعايش مع نفسه كي يستطيع النجاة من أسهم الحياة وتقلباتها.

 

 
في الواقع، برعت جميع شخصيات بيناتس في طرق فنّ النجاة، ولكن إستراتيجيتهم كانت متباينة، ولكنها اشتركت في شيءٍ واحد، فلم تكن أيٌّ منها إيجابيةً اجتماعيًّا. فلك أن تنظر مثلًا إلى لاينوس الذي أدرك أنه يستطيع أن يتعامل فلسفيًّا مع نوائب الحياة -غالبًا ما تراه وهو واقفٌ يسند كوعه إلى الحائط، ويتحدّث مع تشارلي بهدوءٍ فذّ- طالما كانت بطانيته تؤنس جانبه، وكان يعرف لاينوس أنه سيُجنّ جنونه لو فقد بطانيته. (في العام 1955، استأذن الدكتور النفسي دونالد وينكوت الذي يعمل مع الأطفال أن يستخدم بطانية لاينوس كصورةٍ توضيحية لمفهوم "الأغراض الانتقالية").  

لوسي، كانت تهوى توزيع النصائح السيئة التي تفتقر إلى أدنى درجات التعاطف من وراء "طاولتها للاستشارات النفسية"، وقد عكست بكمال صورة التبجح. في قصةٍ نُشرِت بتاريخ 27 (مارس/آذار) 1959، كان تشارلي براون أول مريضٍ نفسي يزور "طاولة لوسي للاستشارات النفسية"، حيث أتاها مشتكيًا "تلفّني مشاعر اكتئاب عميقة، دليني ماذا أفعل حيالها"، فتجيبه لوسي "استفق منها! أجارتك خمسة سنتات من فضلك".  وتختزل هذه الجملة، ربما، طرائق لوسي.

 

مثّل شرودر والبيانو التقهقر الفني، أن تتجاهل العالم كي تطارد أحلامك. أما فلسفة سنوبي التكيفية، فكانت -بطريقةٍ ما- أكثر سلبية اجتماعيًّا من شرودر. فقد أدرك سنوبي مبكّرًا أن لا أحد سيراك كما ترى نفسك، ولهذا قد يكون أفضل ما تستطيع القيام به هو أن تبني عالمك حول فنتازيا، اخلق الشخص الذي تريد أن تكونه، وعِشْه، وعش لتكونه. ويكمن جزءٌ من سحر سنوبي (الذي قد ترى فيه شيئًا من وولتر ميتي) في رفضه المبطّن لصورته في أذهان المجتمع، فمعظم الأطفال لا يرونه أكثر من كلب، ولكنه كان يعرف أن كينونته تتجاوز ذلك.

 

وبعد أن أسّست السلسلة لشخصياتها الرئيسة، لم يتبقَّ سوى الغوص في الاحتمالات اللانهائية التي تجمع هذه الشخصيات، وربما كان هذا ما قصده شولز بقوله: "رسام الكرتون هو شخصٌ يُطلَب منه أن يرسم نفس الشيء كلّ يوم، دون أن يكرّر نفسه" فقد كان هذا "تكرار الأنماط المتغيّر إلى ما لا نهاية"، كما وصفه إمبرتو إيكو في "مراجعات نيويورك للكتب" عام 1985 هو ما أضفى على هذه السلسلة جمالها الفائق. لقد اشترطت السلسلة "أن يرتبط القارئ بهذه الشخصيات بصورةٍ مستمرة" إذا ما أراد تلمّس الطرائق التي انتهجتها كل شخصيةٍ لتنعم بالوفاق مع الشخصيات الأخرى.

 

اشتملت قصص بيناتس على جوانب درامية كانت صادمةً في افتقارها للتعاطف، نظرًا لأننا نتحدّث عن سلسلةٍ تعتمد على تعاطف القارئ. ففي قلبِ هذه المعمعة الدرامية كانت لوسي (الفتاة اللحوحة صعبة المنال، التي لا تستطيع أن تعيش دون شخصٍ تستطيع صبّ صراخها عليه) حادّةً جدًّا، لدرجة أن ميكائيل قال إن شولز كان له سياسةٌ خاصةٌ بها (عندما تنصرف لوسي إلى صراخها العال -كما يصفه شولز- كان يرسمها بقلم حبر B-5، الذي كان يُستخدم لرسم خطوطٍ ثقيلةٍ وخشنة، أما "عندما تصل أعلى درجات الصراخ" فكان يُخرج قلم B-3).

 

لوسي -في جوهرها- كانت المجتمع نفسه، أو على الأقل تصور شولز عن المجتمع، ويصفها ميكائيل "كانت عدوانيتها تجعل الآخرين مرتبكين دائمًا"، وهو ما كان يضطر الجميع إلى إيجاد طريقةٍ للتعامل معها، فعلى سبيل المثال، كان تشارلي براون يصدّقها بسرعةٍ وبسذاجةٍ منقطعة النظير، فدائمًا ما تراه يأتي إليها باحثًا عن نصيحةٍ عبثية أو ليركل الكرة، أما لاينوس، فكان تعامله معها مزيجًا من الخوف والاتزان. في واحدةٍ من قصصي المفضّلة، يختبئ لاينوس من أخته لوسي في المطبخ، وتحاول لوسي إيجاده، ولكن سرعان ما يباغتها لاينوس بقوله: "هل يزعجك الصوت الذي أصدره وأنا أدهن الزبدة؟".  

 

ولكن المشاهد التي جمعت لوسي بـ شرودر كانت الأقرب إلى شولز الذي بدأت التصدعات تتأرّب في زواجه الأول بـ جويس في الستيينات، عندما كان الزوجان يبنيان منزلًا كبيرًا في مدينة سيفاستوبول بكاليفورنيا. وكلما انقبض "شولز" إلى عالمه الكوميكي انتقم بقلمه من "جويس" كما لاحظ ميكائيل. فقد كانت عبادة شرودر للبيانو الخاص به "تثير حنق لوسي"، وفي يومٍ من الأيام، لم تستطِع لوسي أن تطيق عجزها في إلهاء شرودر عن موسيقاه، وهو ما يدفعها إلى أن ترمي البيانو في المجاري، وهي تصيح "إنها المرأة في مواجهة البيانو.. والمرأة تفوز.. إنها تفوز" ويصرخ عليها شرودر وعيناه لا تصدّق ما تراه "لقد رميتِ البيانو في المجاري!"، وتصحّحه لوسي "ليس البيانو يا حبيب القلب… وإنما خصمي". يا له من مثالٍ وضيء على العلاقات. في هذه القصص المختلة والمضطربة كان هناك شخصٌ واحد فقط يستطيع -وربما نجح في هذا فعلًا- أن يمزّق هذا العالم الاجتماعي المضطرب المسلّي إلى قطعٍ صغيرة! وهو شخصيتي المفضّلة، سنوبي.

 

وسط كل تلك التعقيدات، والاضطراب الذي تعاني منه سلسلة القصص تلك، نجد أن سنوبي هو الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تتغلب على ذلك
وسط كل تلك التعقيدات، والاضطراب الذي تعاني منه سلسلة القصص تلك، نجد أن سنوبي هو الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تتغلب على ذلك

كان سنوبي شخصًا عاطفيًّا قبل أن يحظى بمنزله، ورغم أنه لم يكن يتحدّث فإن سنوبي  يعبّر عن أفكاره، وكان مرتبطًا كثيرًا بجميع الشخصيات. فلك أن تنظر إلى القصة التي نُشرِت عام 1958، حيث نرى سنوبي يرقص بفرح وهو يمرّ بجوار تشارلي براون ولاينوس وهما يتحدّثان في الخلفية، ويقول لاينوس لـ تشارلي: "تقول جدتي أن وشاحًا من الدموع يحيط بحيواتنا كلنا"، فيجيبه تشارلي براون: "إنها محقة… هذا عالمٌ حزينٌ بالفعل". ولكن سنوبي يستمر في الرقص، ولكن مع دخولنا إلى الصورة الثالثة، وعندما يقول تشارلي: "هذا عالمٌ يغمره الكمد"، يتباطأ رقص سنوبي ويبدأ وجهه بالأفول. وفي الصورة الأخيرة، نرى سنوبي مستلقيًا على الأرض، مدمّرًا أكثر حتى من لاينوس أو تشارلي براون اللذين كانا يمشيان نحو الأفق البعيد "الكمد، والحزن، واليأس، والفواجع، والألم، والسقوط…".

 

ولكن مع دنونا من نهاية الستينيات، بدأت تغييرات تطرأ على سنوبي، فمثلًا هناك قصةٌ نُشرِت بتاريخ 1 (أيار/مايو) 1969 نرى فيها سنوبي يرقص بمفرده "هذه رقصة ‘الأول من مايو‘ وهي تختلف قليلًا عن ‘رقصة أول يومٍ في الخريف‘، والتي تختلف بشكلٍ بسيط أيضًا عن رقصة "اليوم الأول من الربيع" ويستمر سنوبي رقصه قائلاً في النهاية: "حتى أنا لا أستطيع التفرقة بين هذه الرقصات أحيانًا"، حافظ سنوبي على روحه المضحكة، ولكن شيئًا جوهريًّا تغيّر، فلم يعد يحتاج أيًّا من الشخصيات الأخرى كي يكون ما يريد أن يكون، لقد كان يحتاج مخيّلته فقط. وأصبحت تراه أكثر بمفرده في بيته نائمًا أو يكتب روايةً أو رسالة حب، وبالفعل أصبح هذا البيت -الذي كان طوله بالكاد يتجاوز طول حبة بيجل، ولكنه كان كبيرًا من الداخل، بحيث تشعر بأنه لطاولة بلياردو- هو التلازم الموضوعي لحياة "سنوبي" الجوّانية المُثراة في مكانٍ لم تتطفّل عليه أعين بشريٍّ قط.

 

اعتقد البعض أن سنوبي كان شيئًا ممتازًا، بل والمفتاح إلى عظمة السلسلة، وشولز كان واحدًا منهم: "لا أعرف كيف بدأ يمشي، ولا أعرف كيف بدأ يفكّر، ولكن كان هذا ربما أحد أفضل الأشياء التي قمت بها". الروائي جوناثان فرانزين كان أيضًا أحد محبّي سنوبي، فقد كان سنوبي هو ذاك المخادع المرن الذي ارتكزت حريته على تيقنه العميق بأنه محبوبٌ، هذا الفنان سريع التغيّر الذي قد تُملي عليه نزواته أن يصبح طائرة هليكوبتر، أو لاعب هوكي، أو رئيس جميع كلاب العالم، وفي ومضة عين، وقبل أن تُشعرِك قدراته بعدم الراحة أو بضآلة نفسك، يعود ليكون ذاك الكلب الصغير اللطيف الذي يريد فقط تناول العشاء".

 

أخذ سنوبي السلسلة -بلا أدنى شك- إلى عالمٍ جديد في نهاية الستينيات. وقد كانت نقطة التحوّل -برأيي- هي عرض الحلقة التلفزيونية الخاصة "إنه اليقطين الكبير، تشارلي براون" (Its the Great Pumpkin, Charlie Brown) في عام 1966، ففي هذه الحلقة الخاصة التي عُرضت ليلة الهالوين، نرى سنوبي جالسًا فوق بيته يعيش إحدى إحلامه الممتدة التي كانت هذه المرة في رحى الحرب العالمية الأولى، حيث رأى نفسه طيّارًا حربيًّا بارعًا أصاب طائرته الطيّار النازي مانفريد ريتشوفين (أحد أشهر طيّاري الحرب العالمية والأولى ولُقّب بـ "البارون الأحمر") وبعد سقوطه يقوم سنوبي وحيدًا بالزحف وراء خطوط العدو في فرنسا. ونرى سنوبي يخطف الأضواء من الجميع لست دقائق، أي تقريبًا ربع الحلقة، وينجح سنوبي بالفعل في سحب البساط من تحت الجميع، ليثبت أنه لا يحتاج إلى عالم بيناتس المعقّد لكي يُزهِر، فهو يستطيع فعل هذا وحده، ومن بعد هذه النقطة رأيناه يفعل هذا كثيرًا. 
 

undefined

في عام 1968 يصبح سنوبي تميمة ناسا، وفي العام الذي يليه يُقرّر تسمية مركبةٍ فضائية قمرية كانت جزءًا من مهمة "أبولّو 10" على اسمه، وفي عامي 1962 و 1972 كان سنوبي مرشّحًا هامشيًّا في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وحظيت دمى سنوبي بشعبيةٍ كبيرة (كان عندي واحدة)، وبحلول عام 1975، سحب سنوبي البساط من تحت تشارلي براون ليصبح هو محور السلسلة، وجال طوفان سنوبي العالم كله، فعلى سبيل المثال، أصبحت اسم السلسلة في بعض أجزاء أوروبا سنوبي عوضًا عن بيناتس، وفي طوكيو، أُعطيَ الطابق الأرضي من متجر الألعاب الضخم "كيدي لاند" (Kiddy Land) (والذي خُصّص لسلسلة بيناتس) اسم مدينة سنوبي.

 

وقام شولز بإجراء بعض التغييرات لاستيعاب العالم الجديد الذي أصبح سنوبي محوره، فابتكر عالم حيواناتٍ كامل من أجل سنوبي، والبداية كانت مع وودستوك، العصفور الذي لا يتواصل إلا مع سنوبي، (يُعبّر عن كلامه بخطوطٍ قصيرة)، ومن ثم مُنِح سنوبي عائلة سبايك، كلبٌ ذو عيونٍ ميتة وله شارب، وتبعه أولاف، و ماربلز، وبيلي.

 

أقرّ شولز في عام 1987 أن جعل سنوبي جزءًا من عائلة لم يكن بالخيار الموّفق: "أعتقد أن من الممكن أن ترتكب خطأً، ومن دون أن تدرك، يودي هذا الخطأ بالسلسلة… وهذا ما أدركته بنفسي قبل بضعة سنوات عندما أضفت إخوان سنوبي… فقد دمّر هذا العلاقة بين سنوبي والأطفال، والتي كانت علاقةً غريبةً جدًّا." وكان شولز محقًّا، فالعلاقة المبكّرة التي جمعت سنوبي بالأطفال بما اشتملت عليه من فهمه للإنسانية، وتعاطفه العميق للغاية (وهو شيءٌ افتقر إليه هؤلاء الأطفال) مع عدم قدرته على الكلام كانت علاقةً فريدة، ولهذا كنت تشعر بأن القصة فقدت بريقها كلما ظهر أقارب سنوبي.

 

ولكن أيضًا لم يكن إخوة سنوبي من أودى بالشخصية في نظرِ العديد من المحبين، فهناك شيءٌ فاسد في سنوبي الجديد الذي تمحورت سماته حولَ لا مبالاته المطلَقة لرأي الآخرين به، فثقته، وحسّه "البرينسي" بأن العالم قد ينهار غدًا، ولكن لا يزال للمرء أن يرقص جعلته أسوأ من كونه مجرّد شخصيةٍ مزعجة، لقد كان مفلسًا أخلاقيًّا، وهو ما قاله الكاتب دانييل مانديلسون: "يمثّل سنوبي ذاك الجزء من أنفسنا -التعالي، والجشع، والتباهي، والاغترار بالذات- ويُدرك معظمنا أن علينا أن نواري هذا الجزء بشيءٍ من اللباقة".  ولما استندت شخصية تشارلي براون على ما يتجرّعه من أذى الآخرين، ومبالاته الشديدة برأي الآخرين به، كانت روح سنوبي تقوم على فكرة تحوير الذات كما يشتهي المرء، وهو ما قد يراه البعض بأنه حبّ مرءٍ واهم لذاته. وبالفعل شعر من احتقروا هذا الـ سنوبي الجديد بأن لا فسحةَ فيه للتعاطف. 
 

undefined

ففي نظر منتقديه تُعدّ فكرة كون المرء قادرًا على خلق الصورة الذاتية التي يريدها وتقديمها للعالم -خصوصًا إن كنا نتحدّث عن صورة إنسانٍ يتمتّع بعددٍ مهولٍ من الأصدقاء والإنجازات- جزءًا مما جعل سنوبي مروّعًا. لم يكن هذا الاغترار بالذات ضحلًا وحسب، وإنما خاطئًا أيضًا، فـ سنوبي عندما يُقدّم بهذه الصورة كان جوهر ثقافة الأنا (ثقافة الفيسبوك). إنه مخلوقٌ لا يتوارى عن أن يسافر العالم بأسره فقط لكي يلتقط صورةً لنفسه ويشاركها مع الجميع، في سبيل تكريس صورته الاجتماعية، إنه التبجح بعينه، وعلى النقيض من تشارلي براون، الذي كان غريبًا (ويعرف أنه كان غريبًا)، كان سنوبي يُغرِّبُ من حوله (دون أن يدرك هذا الأمر على الإطلاق)، فهو يؤمن بأنه ما يقدّم نفسه للعالم، ويضيف الكاتب ميندلسون "سنوبي منطوٍ تمامًا على نفسه، فهو لا يدرك أصلًا أنه ليس آدميًّا".

 

ظنّ البعض أن تشارلي براون، الفاشل غير الواثق، الفتى الذي لم يحظ يومًا بحب فتاته "الفتاة الصغيرة ذات الشعر الأحمر" كان هو الهوية البديلة، أو الـ (Alter-ego) للمؤلّف شولز، المليونير ذو الشهرة العالمية، الذي نال أخيرًا شيئًا من السعادة في زواجه الثاني، وبالتالي أصبح وديعًا لدرجةٍ لا تطاق (في عام 1973، طلّق شولز زوجته، وبعدها بشهر، تزوّج شولز بـ جيني كلايد، وهي امرأة قابلها في حلبة تزلج مقهى "وارم بَـبـي" (Warm Puppy)  بمدينة سانتا روسا في كاليفورنيا)، ولكن جاء الكلب سنوبي الذي يمشي على قدمين مع أفكاره وتخيّلاته -سنوبي الذي لا نظير له، سنوبي الغني، سنوبي الشعبي، سنوبي ذي الشهرة العالمية- ليعكّر صفو كلّ هذا.

 

كان شولز -الذي عاش حياته في ظل خوفه من أن يراه الناس على أنه شخصٌ مولعٌ بالتفاخر- يرى أن الشخصية الرئيسة في سلسلة قصصٍ مصوّرة يجب أن لا تكون مغترّة بنفسها أكثر من اللازم، كما أنه قال إنه كان يتمنّى لو أنه استخدم تشارلي براون أكثر قليلًا، وقد كان قد وصفه ذات مرة بأنه الشخصية المحورية التي تحتاجها أي سلسلةٍ قصص مصوّرة "شخصٌ تحبه ويُبقي الأشياء متماسكةً معًا". ولكن سنوبي تملّك قلبه. (في أحد عروض الكريسماس الجليدية في سانتا روسا، وحينما كان شولز يشاهد سنوبي يتزلّج، أدنى شولز رأسه من صديقه لين جونستون، وهو رسامٌ كرتوني آخر، وقال له "فقط تخيّل أننا كنا يومًا ما نعيش في عالمٍ ليس فيه سنوبي").

 

فكما كتب جونستون في أحد مقدّمات مجموعات السلسلة، وجد شولز شخصيته الرابحة في هذا الكلب: "كان سنوبي هو من سمح له بأن يفرد أجنحته ويطير، سمح له سنوبي بأن يكون عفويًّا، ومهرّجًا ضاحكًا، وسخيفًا، ومندفعًا. كان سنوبي هو الرتم، والكوميديا، والبهاء، والبريق.. بارتدائه عباءة سنوبي، لم تكن فيه أي علات، لم يعانِ من أي هزائم، ولم يتجرّع طعم الفشل.. حظي سنوبي بقاعدةٍ جماهيرية لفّت العالم كله." كان سنوبي هو القطب المضاد تماماً لتشارلي براون الذي لم يكن فيه سوى الفشل، والعلات، والهزائم. ولكن هل كان الاثنان حقًّا بعيدين بهذه الصورة الراديكالية؟

 

سنوبي يحب أن يعتقد بأنه كلبٌ مستقل يتمتّع بالقدرة على فعل كلّ شيء، وأنه يستطيع تدبّر أمور حياته وحده
سنوبي يحب أن يعتقد بأنه كلبٌ مستقل يتمتّع بالقدرة على فعل كلّ شيء، وأنه يستطيع تدبّر أمور حياته وحده

لقد جانب منتقدو سنوبي الصواب، وأيضًا القراء الذين ظنّوا حقًّا بأن سنوبي يؤمن بالأوهام التي يرسمها ذهنه له، فقد يكون سنوبي ضحلًا فيما يفعل، ولكنه أيضًا عميق، وفي النهاية كان وحيدًا في أعماقه، تمامًا مثلما كان تشارلي براون وحيدًا في أعماقه، ومهما كانت رحلاته عظيمة، كانت تنتهي معظمها بإدراكه بأنه متعب، ويشعر بالبرد، ووحيد، وأن وقت العشاء قد حان. وكما قال شولز في إحدى حلقات البرنامج الحواري " ذا توداي شو" (The Today Show) الذي أعلن فيها نهاية رحلته، فإن "سنوبي يحب أن يعتقد بأنه كلبٌ مستقل يتمتّع بالقدرة على فعل كلّ هذه الأشياء، وأنه يستطيع تدبّر أمور حياته وحده، ولكنه دائمًا ما يحرص على أن لا يجافي طبق العشاء طويلًا". فلسنوبي حاجاتٌ حيوانية، وهو يدرك هذا، وهذا ما يجعله -بكلمةٍ واحدة- إنسانًا.

 

تتلمّس شيئًا من الحزن حتى في أكثر أحلام سنوبي جنونًا، فنحن ندرك بأنه يحلم عندما نراه يشقّ الصفوف في الحرب العالمية الأولى، ولكن أيضًا يمكن أن تتلمّس فيه الشاب المحروم تشارلز شولز الذي أرسلوه إلى الحرب بعد بضعة أيامٍ من وفاة أمه بعمر الخمسين، وهي تقول له: "وداعاً سباركي، ما ظننت أننا سنلتقي مرةً أخرى".

 

القصص الأخيرة التي نشرها شولز بعدما أدرك أن شمس حياته قد دنت من الأفول كانت تقطّع أوصال القلب، فتشعر فيها بأن جميع الشخصيات كانت تحاول أن تقول كلماتها الوداعية وهي تحاول أن تصل إلى العصامية التي لطالما استعصت عليهم جميعًا. فترى بيبرمينت باتي واقفةً تحت المطر بعد المباراة وتقول: "لم يقم أحدٌ بمصافحة أيدي الآخر وقال له ‘جهدٌ طيب‘"، أما سالي فتراها وهي تصرخ على أخيها تشارلي براون مستنكرةً: "ألا تؤمن بالأخوة؟؟" ويرد لاينوس بوجهه الخالي من التعابير "هيه". أما لوسي فكانت -كما اعتادت- متكئةً على بيانو شرودر، وهي تقول: "ألن تشكرني؟".

 

كان سنوبي جالسًا وحده جانبًا، يحاول جاهدًا أن يمسك كرة ثلج بيديه
كان سنوبي جالسًا وحده جانبًا، يحاول جاهدًا أن يمسك كرة ثلج بيديه "وفجأة أدرك الكلب بأن أباه لم يعلّمانه كيف يرمي كرة ثلج
  

ولكن الأسئلة الكبيرة، الأسئلة الوجودية، كانت دائمًا ما تقع على ظهر سنوبي. وبالفعل إذا رأيت بالونات أفكاره، فلربما التبس عليك الأمر وظننته تشارلي براون. في القصة التي نُشرِت بتاريخ 15 (يناير/كانون الثاني) 2000 نرى سنوبي فوق منزله يقول: "لقد كنت متوتّرًا كثيرًا مؤخّرًا"، ويستطرد بعد أن رفع رأسه قليلًا: "أجد نفسي والقلق قد تملكّني على كل شيء… مثل الكرة الأرضية مثلًا"، ومن ثم يستلقي مجدّدًا ولكن هذه المرة على بطنه وهو يمسك بيته بكلتا يديه "نحن كلنا متعلّقون بهذه الكرة التي تعوم في الفضاء"، ومن ثم يستلقي على ظهره مجدّدًا "ماذا لو سقطت الأجنحة؟".

 

ربما كان سنوبي واهمًا بالفعل، ولكن في النهاية كان إدراكه الراسخ هو أن كل شيءٍ قد يقع على رؤوسنا، فوجوده بأكمله ربما كان رسالةً فحواها بأننا في النهاية جميعنا وحدنا مهما حاولنا أن نبني من عوالم لأنفسنا في المجتمع أو خارجه. وبالمناسبة، فقد أقرّ سنوبي بعلةٍ واحدةٍ فيه، ولكنه ادّعى بأن هذا لم يكن خطأه، ففي القصة التي نُشرَت بتاريخ 1 (يناير/كانون الثاني) 2000 والتي رسمت بخطوطٍ مرتعشة، نرى الأطفال يتراشقون كرات الثلج والمتعة بادية عليهم، ولكن سنوبي كان جالسًا وحده جانبًا، والمسكين يحاول جاهدًا أن يمسك كرة ثلج بيديه "وفجأة أدرك الكلب بأن أباه لم يعلّمه كيف يرمي كرة ثلج". 
___________________________

   
مترجم عن (ذا اتلانتيك)

المصدر : الجزيرة