"18 يوم".. هل تكفي النيّة الحسنة لصنع فيلم عظيم؟
طوال 6 سنوات كنا فى انتظار هذه اللحظة، منذ سماعنا عن فكرة الفيلم التي اقترحها وعرضها على صنّاعها المخرج مروان حامد، أن نشاهد فيلما مصريا خالصا عن حدث جلل كـ"ثورة 25 يناير" وبرؤية فنية روائية. تواترت الأخبار لاحقا عن عرضه في مهرجان كان 2011 مع رائعة حسين كمال "البوسطجي" بعد اختيار مصر كضيف شرف المهرجان، تحية لثورتها التي كانت درة تاج الربيع العربي آنذاك، كل هذه المقدمات جنبا إلى جنب مع الأسماء اللامعة المشاركة في الفيلم كانت مشجعة لأقصى الحدود.
لكن ثارت حينها بعض التساؤلات الوجيهة حول الفيلم، مثل: كيف لبعض نجوم ومخرجي الفيلم أن يتصدروا "قوائم العار" -كما يسميها بعض مؤيدي "ثورة يناير"- ثم ها هم يسعون الآن إلى اللحاق بركب الثورة والتحدث بلسانها؟ وهل يكفي شهران فقط لصياغة وجهة نظر معتبرة يمكن تقديمها دراميا؟ والأهم هل سيستطيع الفيلم أن يواكب مخاض الثورة في هذه الفترة العصيبة أم سيسقط في فخ التعجل وفرط الحماس حتى يتحول إلى مجرد إثبات حضور من صانعيه؟
حفل الفيلم بشكل عام بمصطلحات تلك الفترة، والتي ذُكرت عدة مرات بشكل ساخر وأخرى بشكل مستهجن، وكل ما حام حوله من ظواهر وإشاعات، فستجد بالفيلم الكثير من الحديث عن الأجندات الخارجية والقلة المندسة والكنتاكي وصربيا وحلاق الثورة وغيرها.
ربما لهذا السبب كانت رداءة التصوير السينمائي للفيلم في أغلب فصوله العشرة، مع أن كثيرا من مخرجيه أمثال كاملة أبو ذكري ومروان حامد وأحمد عبد الله متميزون بالسنيماتوجرافيا الأخاذة والتكوينات الفريدة، واستخدام متمرس للضوء والظلال، بدت جليّة في كثير من أعمالهم اللاحقة كـ "ديكور" و"الفيل الأزرق" ومؤخرا "واحة الغروب".
المثير للانتباه أن إخراج الفيلم في العديد من قصصه كان أقل من المتوقع، رغم أننا بصدد أسماء وقفت خلف الكاميرا وهي تمثل نوابغ أغلب أجيال وألوان طيف الوسط السينمائي بمصر، إلى جانب حضور موسيقي فقير برزت قلة حيلته مثلا في "كحك الثورة" الذي استعان فيه خالد مرعي بموسيقى فيلمه الأسبق "عسل أسود".
امتلأت أحداث فيلم "كحك الثورة" بالكثير من الأحداث الساذجة، كالترزي المصاب بداء السكري الذي يستطيع الصمود محبوسا طوال أسبوعين يقتات فيهم على الشاي والكعك فقط، ثم لم يجد في متجره العامر بالملابس إلا بذلة أمين الشرطة فقط التي حرقت النهاية وجعلتنا نتوقعها من قبل خروجه من المحل في آخر الفيلم، في نهاية مشابهة بالمناسبة لفيلم كوميدي قصير عن الثورة عُرض قبل هذا الفيلم بشهرين على قنوات ميلودي! (1)
يمكننا تقسيم الفيلم إلى ثلاثة تيارات متباينة تولى صانعوها التعبير عن أنفسهم، وعلى رأسهم تيار كشف الحساب الذي قال عنه المخرج الكبير الراحل محمد خان: "من حملة الحزب الملغى عام 2005، والإشراف على مقابلة تليفزيونية للرئيس المخلوع، وإعلانهم أن مجهوداتهم فيها تطوعية وبدون أجر، إلى تقديمهما فيلمين عن الثورة من أجل عيون مهرجان كان.. عجبي". (2)
لكن على عكس المتوقع أتى فيلمه "احتباس" هزيلا ومخيبا للآمال، في سرد تقليدي لطوائف الشعب المصري متجسدة في نزلاء مستشفى للأمراض العقلية، بوتيرة متوقعة لوقع تطورات الثورة عليهم، وأداء مسرحي مفتعل لأغلب شخصياته، ونهاية بدا فيها وكأنه اقترض مشهد أحمد زكي بفيلم ضد الحكومة "كلنا فاسدون"!
مشكلة الفيلم الكبرى أنه فقط فيلم موثق للحدث، لم يأت بجديد عن أفلام الجزيرة القصيرة التي كانت تعرض أيام وبعد الثورة، غير أننا كنا نبحث فيه عن طبعة سينمائية، ولكن الصبغة التسجيلية الركيكة كانت لها الغلبة.الأمر الذي أحال الفيلم كله لعريضة دفاع أراد فيها عرفة أن يبرئ ساحته وينفض يده عن علاقته بالنظام وإلقاء التهم على فاعل مجهول، وذلك بعد إخراجه للفيلم الوثائقي عن حياة مبارك في حواره الطويل "كلمة للتاريخ" الذي قدّمه عماد أديب أثناء انتخابات الرئاسة عام 2005. (3)
هذا وقد رفض عرفة في حوار سابق له فكرة القوائم السوداء للفنانين الذين وقفوا في صف النظام ضد ثورة الشعب، ووصفها بأنها "كلام فارغ" لأن لكل منا أخطاء لا يصح أن تظل ملتصقة به إلى الأبد، وأضاف: "من منا لم يقم بدفع مال لموظف ما حتى ينهي مصلحته سريعا أو استغل واسطة ما ليسهل ما يريده، وأقول: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»". (4) هذا الموقف الملتبس تلافاه مخرج حملة الحزب الوطني في العام نفسه، المخرج مروان حامد الذي نفض يديه عن النظام بذكاء في "19-19".
لم يأت الفيلم بجديد سوى أن أبو الحسن أعاد كتابة مشاهده في فيلم "عمارة يعقوبيان"، وأن مروان حامد أعاد إخراج المشاهد نفسها بالفيلم لكن على عجالة وضحت من الأداء المفتعل الفاقد لإدارة المخرج، وذلك للضابط السيكوباتي ذي الانفعالات القطبية، قام بدوره إياد نصّار الذي لازمه تأفف دائم أضافه إلى الشخصية دون سبب واضح.
ثم يبرز التيار الثاني وهو أصحاب النقاط المضيئة، حيث تشترك هذه الأفلام في أن مخرجيها شباب أصحاب تجارب واعدة، أتاح لهم الفيلم الفرصة للتواجد وإثبات الذات دون تمجيدها بشكل مبالغ فيه، كما فعل أكثر من مبدع بالفيلم له اسمه اللامع لكنه ظهر بحضور باهت جعل فيلمه يمرّ مرور الكرام، وعلى رأس تلك التجارب الواعدة:
تعاون علاء في هذا الفيلم مع السيناريست ناصر عبد الرحمن ليقدما صورة عن ملمح طريف من ملامح دولة التحرير الموازية، وهو حلاق الثورة الذي كان يتولى تهذيب شعر الشباب المقيمين بالميدان خلال الثمانية عشر يوما.
تناول الفيلم الفئات التي اشتركت بالدعم والتضامن في الثورة من خلال إتاحة مواردهم، كمحل الحلاق أشرف سبرتو (محمد فراج) الذي أحاله إلى مستشفى ميداني لعلاج مصابي الثورة.
اختتم الفيلم بأشهر لحظة في الثورة، وهي خطاب التنحي المقتضب الذي ألقاه عمر سليمان، ثم حاول زرع بعض الأمل متمثلا في الزوجة التي قررت أن تتجاوز خلافاتها مع زوجها لتنجب منه طفلا آخر، مع الشعار الشهير الذي واكب أحداث الثورة: "ارفع راسك فوق انت مصري".
وثاني تلك التجارب الواعدة والمتماسكة فنيا هي ما قدمه بلال فضل مع المخرج محمد علي في فيلم "إن جالك الطوفان" الذي تعاون معه سابقا في "أهل كايرو"، وهو مسلسل متميز بحقّ سوف نتركه كوثيقة فنية صادقة للأجيال التالية ليسبر لهم التدهور الذي أصاب الشخصية المصرية طوال عهد مبارك، والآفات التي اكتسبتها وعلى رأسها الفهلوة واجهة ذلك العصر.
هنا بالضبط مكمن القوة فيما قدماه معا، ويمكن أن نعدّه نواة للجزء الثاني من المسلسل، عن كيف أفسد من على شاكلة هؤلاء مسيرة الثورة؟
يرصد الفيلم شخصيات انتهازية لا يهمها مِن كل "أحداث يناير" إلا ما سيعود عليهم بالنفع المادي، يتأرجح عَلم مصر بينهم وهو لا يعني لهم أكثر من مصدر للرزق الخاطف، على استعداد للتسلّق على أكتاف أبنائهم للنجاة بجلدهم من الطوفان كما يقول المثل الدنيء المسمّى به الفيلم.
تبقى قصة الفيلم بالغة الذكاء والطرافة، يثبت بها بلال فضل أنه أحد أفضل من عادى مبارك لأسباب وجيهة رصدها في أفلامه، وأهمها العطب الجمعي الذي جعل أغلب الخصال الحميدة التي تتصف بها الشخصية المصرية تتحول إلى مادّة للسخرية في عصر مبارك.
يوما ما سينقشع غبار الجدل عن الفيلم ونجومه وظروف إنتاجه ومنعه، لكن سيبقى فيلمان في الأذهان طويلا بما برع صنّاعهما في التغريد خارج السرب، والتماس الإنساني مع المشاهد من خلال انتقاء الزوايا المتميزة التي تناولوا بها الثورة، حيث ابتعد صنّاعهما عن التناول المعتاد لأحداث الثمانية عشر يوما من مسقط رأسي لتحولات المصريين خلالهما، إلى جانب الانتصار لشخصيات هامشية رغم أنها لم تكن من الفاعلة بشكل كبير في الثورة.
تندلع مظاهرات جمعة الغضب وفتاتنا على الحياد، لكنها لا تنضم إلى المتظاهرين إلا بعد أن جذب انتباهها الثائر الشاب قائد المظاهرة أحمد داوود، حيث وجدت فيه ما خاطب أنوثتها من شجاعة وإقدام جعلتها تسير في المظاهرة مسحورة هائمة، وهي سعيدة أخيرا بالعثور على فتى أحلامها. يستحق الفيلم أن ينال حقّه في الاحتفاء، حيث يرصد محاولات المصريين العاديين لتغيير الركود الذي أصاب الشارع المصري بالشلل تحت مسمى الاستقرار والتنمية، حتى وإن كانت محاولات على استحياء رفضا للقولبة لا أكثر.
الحقيقة أن بلال فضل هو أحد أكثر من تناول فلسفة الصبغة عند الشعب المصري التي تعلمها المصريون من مبارك كما صرّح في الفيلم الوثائقي "التحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي". فعلى حد قول فضل كانت الصبغة سمة لرموز الحزب الوطني، لذا وضع المصريون العديد من الأصباغ، كالصبغة الدينية التي تتخيل معها أن الثمانين مليون مصري سيدخلون الجنة، ولكن ما إن تتجاوز تلك الصبغة حتى يفاجئك العفن الاجتماعي الذي يخبئه زيف المظهر. (5)
ليس هذا فحسب، بل بلغ به التميز أن يجعل من قصة بسيطة عن لبيسة القلم والفول النابت وسيلة جذب ناجحة رغم تكرار سردها حين يحكيها سليم بصوته الرخيم بنبرة شارحة أول مرة ثم مستجدية ثم متبرمة.
بمرور الوقت ندرك تدريجيا مغزى الفيلم، وهو أن هذا الحظر كان موجها بالأساس لترويض الشارع واحتواء ثورته، حتى أمام أمر طارئ وارد الحدوث يواجهه مواطن مثالي يصطحب معه متمردا خجولا يتذرع بألم بطنه لأنه يخشى أن يصرّح له برغبته في النزول إلى الشارع الذي لم يكن قريبا من التحرير بالمرة، بل إن هذا هو الفيلم الوحيد الذي تم تصويره في مدينة السويس، أي خارج بؤرة الأحداث في القاهرة.
تكمن قوة الفيلم في تسليطه الضوء على المصريين على هامش الثورة، من قد يشغل بالهم نزلة معوية لذويهم عن الحادث الجلل الذي تمرّ به البلاد، ومن نافلة القول إن هذا هو الفيلم الوحيد الذي لم تذكر فيه الثورة أو أي ملمح من مظاهراتها على الإطلاق، حيث وجه البنداري كاميرته نحو تداعيات أحداثها على المواطن عضو "حزب الكنبة" كما كانوا يطلقون على أنفسهم من باب السخرية والتندّر.
اللافت أيضا هو كمّ التجاذب وصراع الأفكار الطاحن بين صنّاع الفيلم الذي تشعر معه أنهم كانوا يتقاسمون كعكة الثمانية عشر يوما، وكل يحاول أن يستأثر بملمح ما بها كي يذكر اسمه بها. عيب آخر وقع فيه الفيلم وهو فخّ الرقم المتصدر لعنوان الفيلم، فقد أتت أغلب الأفلام كومضات خاطفة قفازة بين أيام الثورة، يغترف فيها صانعوها ما خف وزنه وعلا مردوده لدى الجماهير التي كانت لتستقبل الفيلم باحتفاء أكبر إن عُرِضَ حينها، لأنهم كانوا سيشاهدونه باحثين عن أنفسهم داخل أحداثه للاطمئنان أن مجهودهم لم يذهب هباء، وكنّا سنسمع أصواتا تستهجن عدم ظهور الألتراس والإخوان وغيرهم بشكل أوضح ومساحة أكبر.
الفيلم في مجمله يشبه رحلة "شمس الزناتي" في البحث عن فرسانه السبعة، متمثلا في مروان حامد الذي زفّ إلى صنّاع الفيلم البشارة: "أخيرا سنصنع فيلما عن ثورتنا.. اكتبوا ما تشاؤون فالعالم ينتظر كلمتنا". حتى غلبت الحماسة دون تريث على مسودتهم الأولى والأخيرة التي قدّمت في عجالة للحاق بمهرجان كان.
لذا لم يفلح الفيلم إلا في إعادة إحياء شجوننا لثمانية عشر يوما من المخاض العسير، وضاعت فرصة تمثيل الثورة في فيلم كان بمقدوره أن يخلّد في الأذهان طويلا.