بين محمد خان وفرهادي.. مخرجون رجال أبدعوا بتصوير المرأة
"هوليوود تفقد فرصة عظيمة حين لا تخلق أدواراً جيدة للنساء من كل الأعمار. هناك نوع من التحيز الجنسي الشيطاني، وأقول شيطاني لأنه لا يمكنك أن تتهم شخص محدد بمسؤوليته عن ذلك التمييز. الأدوار مكتوبة لأشخاص محددين، ربما ميريل ستريب مثلاً، لكن ليست للأخريات"
كان هذا رأي المخرج الأسباني بيدرو ألمودوبار أثناء حوار أجرته معه صحيفة (Varity) في (مايو/أيار) الماضي[1] أثناء ترأسه لمهرجان كان السينمائي. لم يكن ألمودوبار الوحيد الذي يتهم هوليوود بعدم توفيرها أدواراً مناسبة للنساء أو كتابة شخصيات نسائية قوية ولها ذات مساحات النجوم الرجال. لكن في حين يعادي الكثيرون هوليوود لتحيزها ضد النساء، تشهد أوروبا مساحات أوسع للمرأة في البطولة، فالعام الماضي مثلاً شهد بطولة استثنائية للفرنسية إيزابيل أوبير في فيلم (Elle) الذي رُشحت عنه لعددٍ من الجوائز كان آخرها الأوسكار. في هذا التقرير نرصد عدداً من التجارب المتميزة لمن كتبوا وأخرجوا شخصيات نسائية فريدة.
يعزي بعض النقاد كثرة وقوة الشخصيات النسائية في أفلام ألمودوبار إلى توجهه الجنسي المثلي، إلا أنه ومنذ أفلامه الأولى – ربما منذ فيلم (Women on the Verge of a Nervous Breakdown) وقد قرر أن النساء أكثر حيوية وشجاعة، وأكثر قدرة على التعبير، ولا يخشين أن يبدين حمقاوات، لذا فهن الأكثر ثراءً واستحقاقًا لأن يكن محور أعماله. في أفلامه يجسد شخصيات نسائية ذات رغبات متمردة، متحررات ومنطلقات، أمهات طيبات يتخذن قرارات عنيفة قد تتراوح بين إخفاء حقيقة أبنائهن عن آبائهم، كشخصية الأم مانويلا في فيلم (All About My Mother)، إلى القتل أو إخفاء الجثث في فيلم (Volver) حيث ثلاثة أجيال من النساء اللاتي تعشن بين الأسرار والكتمان. أو حتى مصارعة ثيران محترفة كشخصية أليسيا التي تصاب بغيبوبة فتربط مصير بطلي الفيلم من الرجال.
حتى حين لا تمتاز شخصياته ببطولة خاصة بها، فإنها تحمل من المشاعر المعقدة ما يبقيها على تفردها وتميزها بين الشخصيات السينمائية الأخرى. ففي آخر أفلامه قدم ألمودوبار مزجًا لثلاث حكايات قصيرة للكاتبة أليس مونرو، ليقدم في فيلم (Julieta) فتاة جامحة تتعرض لحادث درامي خاص لتعيش حياتها بين الشعور بالذنب تجاه ابنتها وبين حياتها مع رجل لا يعرف عن ماضيها شيئًا.[2]
لا يُقدم "لي" الفيلم بطريقته التقليدية (مقدمة – عقدة – نهاية) لكن بتصاعد هادئ حيث يعني بشخصياته ورسمها أكثر من الأحداث المحورية التي تغير حيواتهم، لكن هذا لا يأت على حساب دراما الفيلم بأي حال، فكل أفلامه على درجة عالية من الدراما والتوتر. لا يهتم بشخصية المرأة القوية بصفة خاصة، بل بطلاته في الأغلب ربات منزل أو عاملات يعانين من مسؤولياتهن لكن يرضخن لها ويتقبلنها. لبعضهن أسرارها الخاصة التي تكتمها بعناد، وربما كانت هذه هي نقاط قوتهن. فعلى عكس ما يبدو من معانتهن إلا أنهن مسيطرات على أزماتهن بشكل أو بآخر. ما بين فيرا درايك التي تساعد النساء على التخلص من حملهن غير المرغوب فيه، إلى بوبي التي تواجه العالم بالضحك والبهجة، أو ماري التي تهرب منه إلى الخمر والرجال الذين يستغلونها، أو حتى بيني التي لا تشتكي من عملها أو زوجها أو ابنها، بل تنتقل من العمل إلى المنزل وهي تقود دراجتها دون تكاسل كل يوم.[3]
فرانسيس خفيفة الروح رغم الخذلان، تقاوم أزماتها الشخصية مرة تلو الأخرى، وتبحث عن طرقٍ مختلفة جديدة تستكشف بها نفسها وتحقق ذاتها في المدينة المزدحمة التي رغم جمالها تنتهك البشر وتحطمهم بسهولة. واستمرارًا للتائهات في نيويورك قدم الثنائي فيلمهما الثاني (Mistress America)، وبطلته "بروك" التي وإن شابهت "فرانسيس" في بعض التيه، إلا أنها لا تمتلك قناعة فرانسيس بالمحاولة، إنما لديها طموحات للشهرة والغنى، دون أن تمتلك خطة واضحة تحقق عن طريقها أي شيء. بروك تتحدث أكثر من فرانسيس لكنها تفعل أقل.
كلا الفيلمان عن أزمات نساء العشرينات ومقتبل الثلاثينات، ممن يحاولن اكتشاف ثم تحقيق ذواتهن، وسط مجتمع صاخب متحرك طوال الوقت، لا يتوقف عند الأزمات اليومية العابرة، ولا يمنحهن المساحة والوقت والفرصة الكافيين للوصول دون أن يفقدن شغفهن، أو يتخلين عن العلاقات العاطفية التي تخفف من صعوبة الحياة.[4]
بعد فترة انتقل خان إلى فئة عمرية أكثر شبابًا حيث طموحات الشابات العاملات من الطبقة الوسطى في فيلم "بنات وسط البلد"، وجومانا وياسمين وما قد تفعله الواحدة منهما لترتقي درجة في سلم الطبقة الاجتماعية، أو العلاقات العاطفية. وفي تجربة خاصة قدّم الصعيدية نجوى التي تسافر للقاهرة وتبحث عن معلمة الموسيقى التي درستها حين كانت صغيرة، فتكتشف نفسها في بحثها. وأخيراً في "فتاة المصنع" حيث هيام التي تشبه جومانا وياسمين في الظروف الاجتماعية والبحث عن الحب. الأفلام الثلاثة كتبتها وسام سليمان زوجة خان، في تعاون نجاح ومثمر وذو حساسية خاصة لمشاعر الفتيات الشابات يشبه تعاون جريتا جرويج ونواه بومباك.
(من لقاء مع المخرج الإيراني أصغر فرهادي)
المجتمع الإيراني مجتمعٍ ذو طابعٍ شديد الخصوصية، والإنتاج السينمائي به مغامرة خاصة تحصر أكثر أفلامه في الدراما الاجتماعية. جاء فرهادي بحكاياته ونسجه المعقد لقصصه وتشابكاتها وخطوطه الدرامية التي ينسجها ويمدها على طول الفيلم ليبقي مُشاهده معلقًا منذ الدقائق الأولى وحتى النهاية، في انتظار كل خيطٍ يشده به فرهادي لجانبٍ جديد أو اكتشاف يغير الحكاية.
منذ فيلمه (About Elly) -الذي لم يلفت الأنظار إلا حين ربح فرهادي الأوسكار- وقد كتب وأخرج شخصيات نسائية جديرة بالاهتمام. بين إيلي التي تختفي فجأة أثناء رحلة مع أصدقائها، وزبيدة التي تتحمل اللوم وتقع بين ضغط الجميع عليها لأنها من أحضر إيلي، وبين قلقها على الشابة المختفية. ثم فيلمه الأشهر (A Separation) ببطلاته الثلاث، الزوجة "سيمين" التي تريد مستقبلاً أفضل لابنتها خارج إيران، حتى وإن انفصلت عن زوجها الذي يمنعه مرض والده من السفر، و"راضية" التي أوقعتها ظروفها بين الزوجين، وبين زوجها وعملها، والابنة التي لم تخطط لمستقبلها ولا مصير عائلتها لكنها وجدت نفسها بين رحاهم.
كل الشخصيات النسائية المعقدة يأخذها فرهادي معه خارج إيران إلى فرنسا حيث يقدم فيلم (The Past) وإشكالية العلاقات الزوجية والرغبة في الانفصال مرة أخرى. وحتى آخر أفلامه (The Salesman)، ظل على تمسكه بالعلاقات الزوجية والأزمات التي تصيبها فجأة، ولظروفٍ مختلفة يهتز لها الأبطال، مهما كانت علاقاتهم عميقة وغارقة بالمشاعر.
كل هذه الأفلام، وهؤلاء المخرجين، وأكثر منهم كتبوا عن المرأة وجعلوها بطلتهم، أو شريكة في البطولة بمساحات لا تقل عن الأبطال الذكور، وجعلوا من شخصية المرأة أكثر من غاوية الفيلم، بل طرحوا مشاكل إنسانية معقدة ومشاعر نسائية مميزة وعميقة بصدقٍ قدر ما استطاعوا، ورسموا بكتاباتهم وعدساتهم صوراً متعددة لطبقات اجتماعية اختلفت في مشاكلها، وتوحدت في قوة نسائها وتفردهن.