شعار قسم ميدان

السخرية تطال "بلاك ميرور".. ماذا جرى للمسلسل بموسمه الرابع؟

midan - black mirror

عندما كنا صغارا، قيل لنا إن قفلا حديديا ومفتاحا سيكونان كافيين لحفظ مقتنياتنا الثمينة التي نخبئها في أدراجنا، وعندما كبرنا صار هناك المزيد مما نود حمايته دون أن يكون أمرا يمكن لمسه باليد أصلا، كالصور والمعلومات الرقمية، ومع تنوع وازدياد الأشياء التي نرغب بالاحتفاظ بها لأنفسنا، يزيد هوسنا بالخصوصية.

       

تعددت وسائل تشفير المعلومات وإخفائها ومعها أدركنا أننا نحتاج أحيانا لحماية برامج الحماية ذاتها التي مازالت عرضة للاختراق والكسر بشكل يومي. قد يكون القلق حيال الخصوصية وحماية المعلومات الشخصية أحد الهواجس التي يدق بابها مسلسل المرآة السوداء (Black Mirror) الشهير والذي أنتجت شركة نتفلكس موسمها الثاني منه والرابع من السلسلة بشكل إجمالي وقد صدر عشية احتفالات العام الجديد 2018.

           

ست حلقات يقارب طول بعضها نحو ساعة من الزمن كانت بحسب بعض المتابعين العرب على فيسبوك ضعيفة وأكثر شعبية مقارنة مع المواسم الأولى من المسلسل.(1) تعرض هذا الموسم أيضا لحملة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل متابعين من مختلف أنحاء العالم، قام بعضهم بالتغريد بأفكار جديدة يمكن لصناع المسلسل أن يستفيدوا منها.

       

        

أن تخلق عالما كاملا متخيلا من الصفر عبر عمل تلفزيوني أو سينمائي مع المحافظة على بقائه متصلا بالواقع الحقيقي للمتفرج أينما كان، يعد من أصعب الأمور الانتاجية،(2) وعلى ما يبدو أن بلاك ميرور نجح في هذا المجال خلال السنوات القليلة الماضية. ولكن ذلك ما قد نشهد بداية نهايته خصوصا مع علو الأصوات التي تدعي أن المسلسل بات يعاني من أزمة "على مستوى الكتابة"،(3) وهو وجه ثان للانتقاد يبدو أسوأ في منحاه، كونه ينزع وجود النية المسبقة لهذا التوجه مما يعني أن الخلل قوي وغير مقصود.

           

نقاط القوة غابت قسرا
في واحدة من الحلقات الجديدة تلمس أقدامنا أرض أحد أغرب المتاحف التي قد يسمع عنها الإنسان في حياته، ففي العادة تنشأ المتاحف من أجل تجميع وحفظ وعرض عدد من التحف والآثار أو الأعمال الفنية التي تربطها وحدة عضوية ما، كما تؤدي أدوارا مختلفة بحسب طبيعة كل متحف منها، ولكن كما اعتدنا عندما يتعلق الأمر بمسلسل بلاك ميرور، فالمتحف هناك يأخذ منحى أكثر دموية.

           

يُسمى بالمتحف الأسود، فكرته قائمة على أمر بسيط، بدلا من تجميع أمور يجدها البشر جميلة فإن الهدف هنا ينقلب تماما ليتحول إلى تجميع كل ما هو بشع من حياة البشر، الأدوات التي استخدمها القتلة في جرائمهم والأماكن التي نفذوها فيها والقصص التي رافقتهم في رحلتهم الدموية تلك. يبدو هذا المكان منجم ذهب بالنسبة لأي عالم اجتماع أو أنثروبولوجيا، وجحيما حقيقيا لمن عداهم.

              

           

تبدأ الزائرة الوحيدة المكان بالتعرف على أغرب القصص، التي يقصها عليها رولو هاينز، مالك المتحف ومؤسسه وجامع كل التحف التي فيه. كلما شاهدنا قصة من قصص تلك المحفوظات يزيد فهمنا لطبيعة الموقف؛ هاينز هذا ليس فنانا عاديا، بل هو بحد ذاته مجرم أيضا، وما هذه الزائرة إلا مجرمة أخرى تنوي القيام بانتقام لجدها المحفوظ منه صورة هولوغرامية حية داخل زنزانة في هذا المتحف.

 

كانت طريقة عرض هذه الحلقة مختلفة عما شاهدناه في أي حلقة سابقة لبلاك ميرور، ولعلها تصف ببلاغة بصرية أهم التحولات التي تعرض لها المسلسل.. هذا الاختلاف الذي نقله من "مسلسل بريطاني إلى مسلسل أميركي ترعاه شبكة نيتفليكس" يضرب في عمق فلسفة العمل، أي التحول من قصص ترى في التكنولوجيا غريما للانسان إلى حكايا ترى في من أساء للتكنولوجيا هو الخصم الذي لا بد أن ينال عقابه في نهاية الأمر، حيث احتوت الحلقات جميعها على خاتمة مُرضية وسهلة بهدف تحقيق رواج أكبر ربما لدى شرائح جديدة من المُتابعين.

 

تتكرر الثيمة في حلقة (Crocodile) التي نتابع فيها قصتين متوازيتين زمنيا لامرأتين، واحدة منهما قامت بجريمة قتل بينما تقوم الأخرى بالتحقيق في جريمة مختلفة تماما، إلا أن مصائرهم تتوحد عندما تضطر الثانية سؤال الأولى عما شاهدته فيما يخص الجريمة التي تحقق فيها. وفي حلقة (Arkangel) تحصل الأم التي تجاوزت حدودها في استخدامها التكنولوجيا على عقابها أخيرا، فيما يبدو العالم مفتوحا أكثر من أي وقت مضى أمام ابنتها التي قتلتها!

   undefined     

ولكن المثير أكثر فيما يتعلق بهذا الموسم هو التقييمات التي حصلت عليها الحلقات الأكثر اختلافا عن نهج المسلسل المعتاد، مثل حلقة (Hang The DJ) التي تُذكرنا بحلقة من الموسم الثالث بعنوان (San Junipero) والتي لاقت رواجا وشهرة لا حدود لها بين المتابعين، فيما تشترك كلتا الحلقتين بكونهما تبرزان على غير المعهود الجانب الإيجابي من التكنولوجيا(4) التي تحولت إلى صديق للإنسان في تحول مفاجئ من العدمية إلى الإنسانية.(5)

     

فلسفة الشاشات السوداء
تعتمد فلسفة بلاك ميرور على اعتبار الشاشة هي الوسيط في عالم اليوم. الحداثة التي فرضت أن تكون كافة معاملاتنا عبر شاشة، سواء شاشات أجهزتنا الخلوية أو شاشات التلفاز أو الحواسيب أو حتى الإعلانات المصورة على لوحات ضخمة في الشوارع كما في حلقة (The Waldo Moment) من الموسم الثاني. (6)

            

التعامل مع الشاشات يعني أن ترى مشاهد عن الأشياء لا الأشياء نفسها، صورة يتحكم فيها وسيط إلكتروني لو امتلك وعيه الخاص لكان قادرا على خراب العالم؛ يفسر هذا اسم المسلسل "مرآة سوداء" وشعاره الشاشة المحطمة.

 

undefined

          

كل ما أراده شارلي بروكر، مبتكر المسلسل، هو "رصد التحول الرهيب في الحياة الإنسانية في غضون السنوات العشر الأخيرة، عندما تحول الإنسان من ممارسة رغبته في المشي واستكشاف العالم من حوله إلى الاكتفاء بالنظر، والعبث بمستطيل" يتحول إلى نافذته نحو الكون.(7)

           

رغم اعتقاد الكثيرين أن ما يجعل من "بلاك ميرور" عظيما هو نقده للتكنولوجيا، لكنه يبدو أمرا غير دقيق عند النظر إلى الرسائل التي ستكون مكررة حينها حول التكنولوجيا مثل خطر الهواتف النقالة، وسوء تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، وخطر غياب الخصوصية، وفخ إتاحة المعلومات المجانية لأصحاب السلطة، وغيرها من الأمور التي تبدو محدودة في مجملها ولكنها تتكرر في أكثر من حلقة، علما بأن كل حلقة في المسلسل مستقلة بعالمها وشخصياتها ولا تشترك تلك الشخصيات بأي شيء مع غيرها في حلقات أخرى.

           

لكن لا يدور المسلسل حول التكنولوجيا ولا حتى المستقبل البشري، كما يقول أحد المحللين لفلسفة العمل على موقع يوتيوب،(8) فالتكنولوجيا التي يتحدث عنها المسلسل ليست متوفرة اليوم ولا إشارات لوجودها في الغد القريب، فلمَ الخوف منها؟ تبدو الإجابة الأقرب عن هذا التساؤل هي أن صناع العمل يتعمدون هذا الخداع، أي أنهم يكسون مشاكل اليوم التي تحدث مع تكنولوجيا اليوم بثوب أكثر غرابة عبر خلق عوالم أكثر تطورا، وهو التناول التاريخي المعتاد لأفلام الدستوبيا.

      

undefined 

          

من أجل تحقيق أفضل تفاعل ممكن من المتفرج مع حلقات المسلسل فإن شارلي بروكر يتعمد عرض قصصه السوداوية بطريقة تبدو فيها أكثر التحاما مع عقل المتفرج.(9) فالفرق بين الدستوبيا التي تقدمها الأفلام والمسلسلات الأخرى وبين تلك التي يقدمها بلاك ميرور هو أن الأمور تبدو أكثر شخصية لدى الأخير عندما يبدأ المتفرج بالتورط عاطفيا مع الشخصيات التي أمامه.

           

امرأة كل ما تريده هو أن تكون سعيدة ومستقرة ماليا وتسكن في منزل جميل، أليست هذه أماني الجميع تقريبا؟ فتى له من الشهوات ما قد يوجد أسوأ منه لدى المتابع نفسه، مع ذلك فإنه معرض لخسارة كل شيء حتى حياته وسمعته بسبب خطأ صغير، هل من المحتمل أن تكون هذه مخاوفه هو وحده؟ يتحول كل شيء من قلق حيال المستقبل إلى قلق نحو اختراق خصوصيتنا كما في حلقة The Entire History of) You) التي لا يكون فيها ما يمكن إخفاؤه بالنسبة للشخصيات التي تعيش، لسوء حظها، في عالمها المتخيل.

                  

         

ستكون ديستوبيا (عالم الواقع المرير) بلاك ميرور بناء عليه متعلقة في طرق معيشتنا نحن الآن لا في المستقبل البعيد. لذا لن يكون النظر إلى مدى تعقيد وغرابة التكنولوجيا المعروضة في الحلقات على قدر أهمّ من تعقيد الشخصيات نفسها – تلك التي نرتبط بها أكثر من التكنولوجيا ذاتها – ليكون الطريق الأقصر والأفضل لايصال رسالة من أي حلقة هو أن تجعلنا نتعاطف/نتضامن/ نتفهّم شخصياتها، وهو ما بدا غائبا عن معظم حلقات الموسم الأخير حين كانت مسلية، لكنها فقدت عنصر الالتحام الذي اعتاد عليه المتفرج.

           

لذا، بدلا من التساؤل حول "كيف غيّرت التكنولوجيا حياتنا؟" حاول المسلسل -فيما سبق- التركيز أكثر على المأساة في حياة البشر من خلال وضع شخصيات في حال اتخاذ قرار مصيري تعاني معه من أزمات داخلية وخارجية يستطيع المشاهد الشعور بها لا أن يؤمن بكونها مجرد فانتازيا بعيدة عنه.

            

قد تكون السياسة العكسية للمسلسل أكثر وضوحا في حلقة مثل (Crocodile) التي تتحول فيه الشخصية الرئيسية إلى قاتلة بضحايا متعددين لمجرد هوسها بتقنية جديدة كليا عليها. "توليد شعور الخوف والشفقة ونحن في بيئة آمنة" هو ما تحدث عنه أرسطو عندما حاول الإجابة عن تساؤل "لماذا يشاهد البشر الأعمال التراجيدية؟"(10) وهو ما سبب نجاحا منقطع النظير لمسلسل بلاك ميرور فيما سبق، ذاتها العوامل التى رآها البعض غائبة عن النسخة الأخيرة منه.

المصدر : الجزيرة