شعار قسم ميدان

"فوتوكوبي".. أن تعيش الحياة بجسد عجوز وقلب طفل!

ماذا لو لم يتبقّ منك سوى جسدك، حيث لا دليل على وجودك سوى معاشك الشهري، تقدمت في العمر ولم تتزوج أو تُنجب أطفالاً، أي أنه في حال وفاتك ستكون كأنّك لم تُوجد من الأساس.. هل تكفي فكرة كهذه لتحريك المياه الراكدة فيك؟

عم محمود، القادم من جيل انتهى دوره بالفعل، تقاعد من وظيفة لم يعد لها وجود، ويقضي وقته في محل لطباعة ونسخ وتصوير المستندات في منطقة عبده باشا في العباسيّة، لا يزوره أحد، يُنذر كل ما يحيط به بأن رحيله قد حان، لذا يُبالغ الرجل في ردّ فعله عندما يسمع بخبر موت الخطاط الذي جهّز له لوحة محله عند افتتاحه قديماً. رغم أنه لم يقابله إلا مرة واحدة، فإنه شعر بأن موت أحد أبناء جيله هو حفنة جديدة من الرمال تُلقى فوق قبره في وقت كان سؤال الموت لديه أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى.

يحظى محمود، الذي يؤدي دوره الفنان محمود حميدة، بروح مغايرة لما قد يمتلكه رجل في مثل عمره ويعيش في بلد كمصر، ولربما هذا ما جعل من شخصيته محوراً لأحداث "فوتوكوبي". تُقدَّم ملامح هذه الشخصيّة بوضوح ومُباشَرة، رجل بارد من الصعب استفزازه، عنيد كالصخر ويعاني من الوحدة، لا أصدقاء له ولا يجيبنا الفيلم عن أسئلة تتعلق بماضيه، مثل الغموض الذي يحيط بوحدته هذه؛ لماذا لم يُكوّن عائلة؟ ولماذا يفتقر إلى أدنى حدّ من المعارف؟ وكيف يمكنه التصرّف بكل هذه العفوية بلا أدنى خشية من العواقب؟

محمود، مجهول الماضي والمستقبل معاً، هو شخص مرح رغم امتداده في العمر وتفويته لكل القطارات الممكنة وتحوّله إلى قطعة أثرية من عالم قديم.. ولكنه يملك في داخله قلب طفل لا يزال يسعى إلى الحب واكتشاف الأشياء. في البداية، كان لا بدّ من فهم الواقع الآني الذي يعيش فيه عمّ محمود، مقارنة بماض لم نره ولكننا نستطيع تخيّله بكل بساطة، أيّ أنّ الشخصيات الثانوية في هذا الفيلم كان لا بد أن تكون على درجة عالية من الأهميّة السردية كي يتسنى لنا من خلالها فهم هذا العجوز الطموح، طالما أنّ المخرج لم يهتم سوى باللحظة الحالية من حياتها، ولكنها لسوء الحظ فشلت حتى في ذلك!

الخيال الجامح لرجل في العُشر الأخير من حياته قابله نقيض قاس تعلّق بمحدودية المكان والأفراد من حوله، ولربما هو الأمر الأكثر صدقاً في هذا الفيلم، أن تكون كلّ تعاملات العم محمود مع جيرانه فحسب، وكثير منها بسبب جلوسه على باب المحل الذي يعاني مثله من الهجران.

يلاصق محله العتيق الجار الأوّل، علي الطيّب، الذي يؤدي دور النقيض الكامل لعمّ محمود؛ شاب يملك محل ألعاب فيديو وإنترنت بأجهزة وتصميمات حديثة او ما يُعرف بـ"السايبر"، يحظى بإقبال شديد من قبل اليافعين، يحاول طيلة الوقت إقناع محمود بتأجير محله القديم لتوسيع "سايبره".  أمّا الصبي عبد العزيز، بوّاب العمارة، فهو شخصيّة ذات طاقة عالية. ورغم الأداء التمثيلي الجيد من أحمد داش، فقد بقيت هذه الشخصية، كما بقية جيران عمّ محمود، مسطحة، ذات بُعد واحد تدخل الكادر لإلقاء جملة ثم تخرج منه مباشرة، وكأنها مستعجلة.

                    undefined

أمّا بيومي فؤاد فأدى دور صاحب العمارة المتنمر الذي يستمر في الظهور لمحمود في محله مطالباً بدفع المتأخر من إيجار المحل، يدور العدو ببلاهة أيضاً، إذ لا يظهر سوى للشتم أو طلب النقود، تماما كما لا تظهر صيدلانية الحيّ إلا لتضميد جراح الآخرين.

كيف يفعلها؟
سيبقى انعدام القدرة على تفسير تصرفات محمود عقبة أمام أي تقييم إيجابي حقيقي للفيلم(1) كيف لرجل في مثل عمره ويملك شغفاً هو بالتأكيد لم يتولّد لديه بين ليلة وضحاها ألا يعرف معلومة عادية للغاية مثل وجود موعدين لعيد الحب في مصر، أو سبب انقراض الديناصورات أو حتّى إعجابه ورغبته في الزواج من جارته المُسنّة أو عدم دخوله السينما إلا وحيداً طيلة حياته.

رغم ذلك، فقد مثّل اندفاع الرجل للقيام بخطوة جريئة للغاية كطلب الزواج من جارته في مجتمع غير قادر على فهم مثل هذه التصرفات مفتاحاً لفهم الطريقة التي يفكّر بها، لو غضضنا النظر عن واقعية ذلك من عدمه. فشغف محمود الحالي، والذي يغلي تحت قشرته المترهلة، متمثل في معرفة السبب الذي انقرضت من أجله الديناصورات، هذا الشغف الذي يواجهه المحيطون به، رغم انعدام تأثيرهم على حياته، بسخرية جارحة.

في الحقيقة فإن وجود محمود بهذه الصورة لن يكون مستغرباً على المجتمع المصري فحسب ولكنه غريب عن السينما المصرية أيضاً التي قلّ فيها تناول شخصيات لكبار السن يتمحور الفيلم تماماً حولهم(2) ما يفكرون فيه وما ينوون القيام به، وهو ما يضفي قيمة جيدة على هذا الفيلم الروائي الأوّل لمخرجه تامر عشري وكاتبه هيثم دبور على حدّ سواء، والحائز على جائزة أفضل فيلم روائي طويل في النسخة الأولى من مهرجان الجونة السينمائي.

 

 

قد يؤدي تركيز الفيلم على الشخصيّة التي يؤديها محمود حميدة إلى نسيان النفسية التي تخضع لها شخصيّة صفيّة (شيرين رضا) المرأة التي يريد الزواج بها، وهو إن كان ضعفاً في الكتابة ولكنه أمر لا يمكن تجاوزه، إذ تشترك صفيّة أيضاً بذات الهواجس التي تحلّق فوق رأس محمود كغراب ينتظر لحظته المناسبة. امرأة مُسنّة مريضة بسرطان الثدي، تتعامل مع صدر صناعي بدل ذلك الذي فقدته، وعالمها مُغلق تماماً إلا من تعاملات محدودة مع الصيدلانية التي تعمل أمام العمارة. كما أن ابنها الوحيد يغيب عن حياتها بكيفية شبه كاملة.

نعمة لحاق القطار الأخير
كان من المفترض لتلك المصائر التائهة والوحيدة أن تلتقيا أخيراً، أن يتحرّك الأجرأ فيهم بخطوة أو أكثر تجاه الآخر، كاسراً كل قواعد التواصل المتعارف عليها ومحققاً أمنيةً واحدة ينطق بها لسانه "أنا قررتْ أعيشْ"، قفزة عملاقة على مستوى الإدراك يحققها محمود، مدركاً أن الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم، وأن هنالك دوماً قطاراً لم يفوّته.

تنتهي قصّة الحب التي تجمع محمود وصفيّة نهاية سعيدة، ولكن في خطّ الأحداث الموازي، نجد شخصية مغايرة لمحمود كان قد اكتشفها في الوقت الذي بدأ الجمهور نفسه في ملاحظتها "شعور جميل أنك تكون رخم"، كما يقول محمود، الذي يشبه إلى حد بعيد شخصيّة محمود حميدة في الواقع، كما قال في واحدة من مقابلاته حول الفيلم.

             undefined

يبدأ محمود "الرخم" معركة من الصفر، يفتعلها ويقرر خوضها حتى النهاية مع مالك العمارة. يتعرض على اثر ذلك للضرب والاهانة، ولكنه يبدو في حينها أكثر سعادة من أي وقت مضى. يدرك محمود تماماً حجم التغيرات التي تطرأ عليه وعناده المتمسك بمحله دون رغبة في تأجيره أو حتى تطويره، يتخلى عنها تماماً في النهاية، يكتشف محمود حوله ما اكتشفه في داخله.. أن طُرقاً أُخرى للعيش متوفرة دوماً.

قد يمثّل محمود في هذا الفيلم جيلاً كاملاً من المصريين الذين رفضوا قطارات كثيرة بملء ارادتهم، قطار الحداثة وقطار الثورة وقطار التعليم وغيرها، فيما يمثّل في جانب آخر شريحة أخرى من تلك التي قررت ألا تفوتها على الأقل العربة الأخيرة من أوّل قطار يبدو غريباً عنهم. جيل أراد مواجهة مالك عمارة /زعيم يطالبه بولاء غير قابل للتحقيق، وانتهى به الأمر عاجزاً عن المواجهة خاسراً المعركة العامة؛ ولكنه انتصر في معركة أصغر بكثير حين قرر ألا يكون سوى نفسه بعد اليومفي مواجهة جيل آخر ربما عبّر عنه أحد مشاهد الفيلم حينما ظهر المخرجان خيري بشارة وأمير رمسيس يلعنان محمود وصفيّة و يتسببان في طردهما من قاعة السينما.(3)

حمل "فوتوكوبي" فكرة فريدة في السينما المصرية ولكنه تقاعس عن كسوها بثوب يلائمها، فكانت المعالجة على مستوى أقل بكثير مما كان يجب أن تكون عليه، مشاهد مهمة تم قطعها مثل مشهد السخرية من العم محمود في "السايبر" أو مشهد تعنيف الابن للسيدة صفيّة، كلاهما مشهدان نعلم بنتائجهما دون أن نراهمافي مقابل الإطالة المملة للغاية في مقاطع أخرى مثل الإحالات المكررة على الحنين إلى الزمن القديم وأغانيه دون أيّ تجديد في التناول.

ساعد الأداء التمثيلي الممتاز من محمود حميدة في الرفع من قيمة الفيلم، على عكس الدور الذي أدّته شيرين رضا، إذ بدا مفتعَلاً و"ثقيلاُ". إن كانت هناك مشكلة حقيقية على مستوى الكتابة يعاني منها الفيلم، فإن الإخراج كان على مستوى مختلف من الجودة حيث قدّم عشري فيلماً لا يمكن للمشاهد إلا أن يُعجب به على مستوى بصري، وهذا كلّه يجعل من "فوتوكوبي" فيلماً جيّدا ولكنه لا يتخطى أبداً هذه المرحلة.

المصدر : الجزيرة