شعار قسم ميدان

سلسلة "The Purge".. هل الفوضى ضرورة لإعادة الاستقرار؟

midan - عنف1

منذ فترة ليست بالقصيرة ظهرت ثيمة أساسية في الأدب والسينما عن المستقبل المظلم للإنسان، لم تتكون تلك النزعة عبر الخيال فحسب، بل هي مَبنيّة على استشراف وتوقع لمعطيات موجودة بالفعل في حياتنا اليومية والعامة، فالأساسي في تلك الثيمة الفنية هي أنها تكشف عبر تخيّل سياسي واجتماعي عن انعطافات سوداوية محتملة لمستقبلنا القريب، فاتحة بذلك آفاقا جديدة للنقاش حول المستقبل بكل جوانبه.

 

قبل أيام صدر الجزء الرابع من سلسلة "The Purge" (التطهير) التي بدأ صدورها من عام 2013(1)، وتدور أحداث الفيلم في زمن يقع بعد عدة سنوات من الآن، في الولايات المتحدة الأميركية تحديدا، تنتشر الجريمة والعُنف بطول البلاد وعرضها، وينهار الاقتصاد وتصبح البلاد على شفا الانهيار، في تلك اللحظة يظهر تحالف سياسي يَميني، يُعلن عن استعداده لحل جميع المشكلات واستعادة سيادة الدولة الأميركية وأمن وسلامة المجتمع والحفاظ على مصالح أفراده، ويطرح في سبيل ذلك عبر برنامجه الانتخابي، خطة مفادها القيام بتجربة جديدة لتفريغ طاقة العُنف والغضب المكبوتة داخل المُجتمع بشكل مُنظم لا يَتعارض مع سيادة الدولة وطريقتها في فرض النظام.

   

undefined     

جوهر التجربة أو البرنامج الجديد يعتمد على فكرة طوّرها بعض علماء النفس والاجتماع عن حاجة الأفراد والمجتمع -خاصة في أوقات الأزمات- إلى إيجاد مساحة يتم فيها تحرير طاقة العُنف والغضب والكراهية المغروزة بداخلهم بشكل دوري، حتى يَتسنى لهم الاندماج في المجتمع مرة أخرى بصورة طبيعية، وعن طريق التحالف السياسي اليَميني -الذي يظهر في الجزء الثاني أن أحد قياداته يُدعى دونالد تالوب- يتم تَبْنِّي التجربة، وفور تَسلمُه للسُلطة، وعن طريق قرار سيادي يصدره الرئيس يتم تحديد ليلة من كل عام، يُعلق فيها العمل بالقانون في سائر الولايات المتحدة، وتصبح كل الجرائم مسموحا بها، وعلى رأسها القتل وممارسة العُنف ضد الآخرين أو ضد المؤسسات والمُنْشَآت، باستثناء، بالطبع، المؤسسات السيادية، ونواب الكونغرس ونواب مجلس الشيوخ والسياسيين الكبار والقادة العسكريين.

 

فكرة الفيلم الأساسية إذن هي حول نظام سياسي ديمقراطي حديث صعد للحكم بطريقة نزيهة، ينظم لحدث مثل ليلة التطهير، حيث يقوم بتعليق العمل بالقانون وفتح المجال العام للقتل والعُنف والعُنف المُضاد، وهذا في حد ذاته وبغض النظر عن العديد من الجوانب الأخرى الأخلاقية والاجتماعية، يفتح أعيننا على العديد من الأسئلة؛ أولها هل هذا ممكن فعلا، السماح بالقتل وإهدار قيمة الحياة بقرار سياسي، إجرائيا على الأقل؟

 

البيو بولتيكس.. أو ما السُلطة السياسية الحديثة؟

في كتابه "صنيع الله"، يقوم الفيلسوف السياسي جيورجيو أغامبين بحفريات تاريخية لتحليل طبيعة وبنى السُلطة والضبط والعقاب في العديد من الثقافات والأنظمة ما قبل الحديثة، ما لفت نظر أغامبين أنه على الرغم من التنوع الواسع لتلك الأشكال في بناء إستراتيجيات السُلطة فإن تَشَكُّل المجال السياسي كحيز مستقل بذاته تتراوح محدوديته طبقا للبنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية القائمة(2). وهو ما يَعني -كما يورد ميشيل فوكو (3)– أن الإنسان في غالبية أنظمة ومجتمعات ما قبل الحداثة كان كائنا اجتماعيا بالأساس وقادرا فضلا عن وجوده الاجتماعي والثقافي على تشكيل حياة سياسية ما، أيا كانت طبيعتها سواء كانت عنيفة أو مدنية أو خلاف ذلك، ما يعني أن الحيّز السياسي بكل مفاهيمه وآلياته وصراعاته كان جزءا من منظومة حياتية أوسع وأشمل منه ومتفوقة عليه في غالبية نُظم ما قبل الحداثة.

 

على النقيض يوضح ميشيل فوكو في كتابه "The Birth of Bio-politics" أن قصة الحداثة هي عبارة عن تَمْدُّد الحيّز السياسي ليَستوعب الحياة بأسرها في نطاقه، ليُصبح النطاق السياسي كما يؤكد كارل شميت هو النطاق المركزي للحياة الإنسانية في العالم الحديث، حيث واصل فوكو بإصرار حتى نهاية حياته دراسة عملية الانتقال التاريخية التي قادت الفرد -في الانتقال من العالم القديم إلى العالم الحديث- إلى وضع حياته وأناه الخاصة إلى التَشْكّل، لا بوصفه كائنا حيّا اجتماعيا بل بوصفه ذاتا سياسية بشكل كامل ترتبط بشكل مباشر بسُلطة مُراقبة خارجية.

  

ميشيل فوكو (مواقع التواصل)
ميشيل فوكو (مواقع التواصل)

     

يوضح أغامبين(4) مقصد فوكو بقوله إن الحياة كفعل طبيعي بيولوجي وهبة إلهية، وظاهرة بديعة مُعجزة داخل نظام كَوْني فريد قائم على المعجزات كتجلٍّ لآيات الخالق وإبداعه، حيث الحياة هنا تستمد قيمتها من ذاتها لأنها فعل مُعجز بذاته تنبع قداستها من خالقها، تم تَسْييسها بمعنى أنها أصبحت مسؤولية سياسية للدولة مُنذ اللحظة التي تدخلت فيها الدولة الحديثة في الحياة الطبيعية منذ واقعة الولادة حتى واقعة الوفاة وما بينهما، لإدراج الحياة داخل نظامها القانوني والحقوقي والتوثيقي العام، لا يختلف أي نظام سياسي حديث في ذلك سواء كان ديموقراطيا ليبراليا أو فاشيا أو شيوعيا ستالينيا. هنا تظهر الحياة كموضوع للقانون ولسيادة الدولة حيث تستمد الحياة قداستها من النظام القانوني-السياسي للدولة الحديثة التي لا تعترف بالفراغ وتُحارب وجود أي فجوات في سُلطتها، مما يعني أن ضمان تطبيق القانون والعمل على نشر سيادة الدولة، هما صمام الأمان للحياة البشرية من رعب الاحتمالات الأخرى المفتوحة.

 

تعليق القانون أم رفع القداسة عن الحياة؟

في كل أجزاء سلسلة "The Purge" الأربعة تبدأ فعاليات ليلة التطهير بما يشبه جرس إنذار يتم إطلاقه في الشوارع والميادين في سائر الولايات المتحدة إعلانا بتعليق العمل بالقانون، في تلك اللحظة تتنقل الكاميرا لتنقل لنا شعورا بنوع خاص من الرعب، رعب الاستباحة والإحساس بالتهديد وبسهولة الموت وتفاهة الحياة.

 

هذا الإحساس المفاجئ بالهشاشة تجاه ما قد يأتي به العالم الخارجي، مصدره نظرة سياسية للعالم بالكامل، عالم ذو طبيعة عنيفة وصراعية مُنقسم بشكل وجودي إلى أعداء وأصدقاء(5)، فالعالم الحديث هو عالم تم تَسْيِيسُه بالكامل، إمّا أن تكون فيه قاتلا وإما قتيلا، فلا مكان لإنسان خارج سيادة الدولة وبالتالي لا مكان لإنسان خارج النطاق السياسي.

 

هنا تأتي عبقرية سلسلة "The Purge "، فتعليق العمل بالقانون هو حق أصيل لكل جهاز سيادي في أي دولة حديثة، ما يعني ما أتت به السلسلة من الناحية الإجرائية لا يعيقه أي مانع دستوري(6)، الأمر الأهم هو التعبير عن قلق مجتمع ما من فرط تسييس الحياة، وقد أضاع كل علاقة بتراثه الديني بما فيه من الخبرات والتجارب الروحية التي كان يُتيحها، حتى وصلنا إلى أن تصبح قيمة الحياة وقداستها رهن سيادة الدولة ومشاريعها السياسية.

     

undefined

   

في نهاية الجزء الرابع من السلسلة يتضح حجم المأزق البيوسياسي الذي تعيشه المجتمعات الحديثة، حيث تم استلاب الحياة من قبل السُلطة بلا أي أمل في الخلاص، فبعد ليلة تطهير دامية قتل فيها العديد من الناس بعضهم البعض لأسباب مختلفة، ربما الخوف أو الارتباك أو الغضب أو حتى فرط الشعور بتفاهة الحياة ووحشية العالم، ينظر بعض الأصدقاء الذين نَجوا بفضل التضامن والحب الذي بينهم، يسأل أحدهم: ماذا سنفعل بعد ذلك؟ يجيب آخر:  لا يوجد أمامنا خيار إلا الاستمرار في القتال.