شعار قسم ميدان

5 أفلام عالمية جمعت بين الأوسكار وسعفة كان الذهبية

midan - movie

في مايو/أيار من كل عام، تقلع وفود فناني السينما من حول العالم وتحط في مدينة كان الساحلية الصغيرة، حيث يعقد المهرجان السينمائي الأهم عالميا. وفي فبراير/شباط من العام الذي يليه، تسافر وفود أخرى لمدينة لوس أنجلوس لحضور حفل توزيع جوائز الأوسكار الذي يشاطر "كان" أهميته، وتلك الأهمية قد تكون واحدة من أشياء قليلة جدا مشتركة بين الاثنين. على الرغم من توجههما الواحد لتكريم الأعمال السينمائية الأفضل في السنة، إلا أنهما قلّما يتفقان على ماهية تلك الأعمال، لنجد أن أياد قليلة فقط تبادلت حمل سعفة كان في مايو ثم تمثال الأوسكار في فبراير.

      

ولا أحد يعلم بالضبط السبب وراء الهوة العميقة التي تفصل أفلام كان عن أفلام الأوسكار. قد يعود هذا على الأرجح لجذور النشأة المختلفة تماما للسينما في أوروبا عن السينما في أميركا؛ فبينما توجهت الأولى للفن وإن كان معقدا على حساب الإمتاع، فضلت الثانية الإمتاع وإن كان سطحيا على حساب العمق. ومع التأكيد أنه ليست كل الأفلام العميقة مملة ولا كل الأفلام الممتعة سطحية، تبقى تلك هي الخطوط العريضة التي تسير عليها سينما الفن الأوروبية (art house cinema)، وسينما هوليوود الجماهيرية (mainstream cinema). ومن ثم، فقد انعكس هذا الاختلاف في التوجهات على جائزة كان الأوروبية وجائزة الأوسكار الأميركية، لتضع كل واحدة في قوائم ترشيحاتها لكل عام أفلاما ذات طبائع مختلفة.

      

ومع هذا، فقد نجحت بعض الأعمال السينمائية القليلة جدا في أن ترتق تلك الهوة التاريخية، مقربة عالمي كان والأوسكار في اعتراف عالمي بجودتها، مذيبة الحواجز التي تفصل الفن عن الإمتاع في أغلبها. وفي هذا التقرير، نستعرض خمسة من تلك الأعمال.

      

خيال رخيص

     

"استخدم قوالب الحكي القديمة ثم اجعلها تنحرف عن قصد خارج مساراتها المعتادة. ويكمن جزء من تلك الخدعة في أن تأخذ شخصيات الأفلام وشخصيات الجنره ومواقف الجنره المعروفة، ثم تطبق عليها قواعد الحياة الواقعية وتنتظر لترى ماذا سيحدث"

(كوانتن تارانتينو، مخرج ومؤلف فيلم "خيال رخيص")(1)

     

يدور فيلم "خيال رخيص" في سبعة خطوط متوازية تجمع بينها قصة واحدة يعطينا كل مشهد من مشاهده لمحة عنها. القصة إن رويت بالترتيب تبدو اعتيادية، لكن إحدى جماليات الفيلم كانت في الطريقة التي بعثر بها تارانتيو قصصه وشخصياته لتصير مثل قطع البازل التي تتحدى مُشاهدها ليجمعها معا ويكون الصورة الكاملة دون أن يملك أن تطرف عينه للحظة بعيدا عن الشاشة.

    

فنرى في الخط الأول الحبيبين يولاندا ورينجو يخططان للسطو على مطعم، وفي الخط الثاني نتعرف على جولز وفينسنت، رجلي العصابات، وسط مهمتهما في استرجاع حقيبة تمتلك أهمية خاصة لزعيم العصابة مارسيليوس، أما الخط الثالث فيجمع بين فينسنت وزوجة مارسيليوس المصابة بالملل، والتي يوصي زوجها فينسنت بالذهاب معها حيثما تريد لتبديد ذلك الملل، ويقدم لنا الخطان الرابع والخامس قصة بوتش المصارع وقد انطفأت عنه الأضواء، ومن ثم يحاول الفوز بطرق غير شرعية يستعين فيها بمارسيليوس، ويعود الخط السادس مجددا لفينسنت وجولز بعد أن استعادا الحقيبة، ويغلق الجزء السابع الدائرة بالرجوع لمشهد البداية عند يولاندا ورينجو.

    

لو كان "خيال رخيص" قد اكتفى بهيكل القصة الخارجي الذي سردناه للتو واعتمد عليه كعنصر يميزه عن الأفلام الأخرى، لما لاقى الاحتفاء الكبير الذي وجده على الأرجح. لكن استثنائية الفيلم تكمن في شحن كوانتن تارانتينو كل مشهد من مشاهده، وكل حوار من حواراته بإشارات تحيل المشاهد لعالم الثقافة الشعبية (Pop Culture) الأميركية الواسع. وفي هذا، يربط تلك الإحالات بنسيج قصصي يبطن في أعماقه أفكارا فلسفية متعددة.  (3)

    

إلى الآن، يُعد فيلم "خيال رخيص" واحدا من أهم الأفلام على الإطلاق، وقد فاز بسعفة كان الذهبية متغلبا في هذا على مخرجين من طراز كريستوف كيشلوفشكسي وعباس كياروستامي، المرشحين للجائزة في نفس العام، كما حاز على سبعة ترشيحات أوسكار فاز كوانتن تارانتينو وروجر أفري بواحدة منها عن أفضل سيناريو أصلي.

       

سائق التاكسي

    

"لحقت بي الوحدة طوال حياتي في كل مكان، في البارات والسيارات والأرصفة، في المحلات، في كل مكان. لا يوجد مهرب. أنا رجل الإله الوحيد"

     

يجول سائق التاكسي الشاب "ترافيس بيكل" شوارع نيويورك ليلا كروح هائمة تبحث عن السلام دون أن تجده. كان قد اتخذ من تلك الوظيفة محاولة لشغل الوقت بعيدا عن الأرق الذي ينام في سريره كل مساء. وفي إحدى جولاته، يرى بيتسي، الشقراء الجميلة، ويحاول مواعدتها. في البداية ينجح، لكن قبل حتى أن يجد الوقت ليأمل أن تزيل بيتسي عنه وحدته، تهجره. ومنذ تلك اللحظة، يأخذ الفيلم منحى آخر تماما.

    

هربا من شعور الإهانة الداخلي، يوجه ترافيس غضبه إلى المدينة التي تفيض طرقاتها ليلا بالـ"الحثالة والعاهرات والكلاب، بالقذارة والخراء". ينزلق حينها بأوهام البطولة محاولا أن يجد فيها ضمادا خياليا يلفه حول رجولته المجروحة من رفض امرأة له. لا نعرف تماما إن كان ترافيس قد أدرك الرابط هنا أم لا، لكن المخرج مارتن سكورسيزي لم يدع مجالا للشك في أن ما تلا من أحداث كان نتيجة مباشرة لهذا. فتتسلح رجولة ترافيس المهانة بالمسدسات، وتعزز نفسها بالعنف، ويبرر عنفه هذا بكونه محاولة لإزالة القذارة من أزقة المدينة ليكون مثل "المطر الذي سيهطل يوما ما ويغسل عن الشوارع حثالتها". وفي تلك الشوارع، يحاول اصطياد بطولات زائفة تجعل منه رجل المدينة الخارق، لكن عوضا عن أن ينظف شوارع المدينة بماء المطر، يرش ترافيس فوقها الدماء.

   

بالرغم من مرور اثنين وأربعين عاما على إنتاجه، يظل فيلم "سائق التاكسي" عملا فنيا لا يتقادم مع الزمن، تتناول ثيماته وحدة إنسان العصر الحديث وسط الحشود في المدينة، ومحاولته الهرب من تلك الوحدة بعلاقات متسرعة، ألقى سكورسيزي عبرها الضوء على مفاهيم الرجولة والأنوثة في القرن العشرين، ثم تعويض الصفعات التي توجهها له الحياة بالعنف غير المبرر تجاه الآخرين. وقد نال الفيلم سعفة كان الذهبية عام 1976، وترشح لأربع جوائز أوسكار: أفضل فيلم، أفضل ممثل لروبرت دي نيرو، وأفضل ممثلة في دور ثانوي لجودي فوستر، وأفضل موسيقى لبيرنارد هيرمان.

     

الحب

        

يجلس الزوجان العجوزان جورج وآن لمائدة الفطور في الصباح التالي لحضورهما الحفل الموسيقي لواحد من تلاميذ آن القدامى. عند عودتهما للبيت في الليلة الماضية، وجدا مقبض الباب شبه مخلوع فتوجهت ظنونهما لكون الأمر محاولة سرقة باءت بالفشل. وبينما يضع جورج الملح على بيضته التي سلقتها آن لتوها مشاورا إياها بخصوص من سيهاتفان ليصلح الباب، يجدها تواجهه بوجه خال من التعبير وعينين مفتوحتين دون أن تبصرا شيئا. في تلك اللحظة، توقف جزء من مخ آن عن العمل؛ سيعرف الزوجان فيما بعد أن تلك كانت سكتة دماغية، وسيأتي هذا في نفس الوقت الذي يتعرفان فيه على ختام الحياة عندما يأتي مغرقا ما تبقى لهما من أيام على الأرض بألم لا يطاق.

     

في أحد أهم أفلامه، لم يبتعد المخرج النمساوي المرموق مايكل هانيكه -صاحب "ألعاب مضحكة"    (Funny Games) و"مختبيء" (Cache) و"الشريطة البيضاء" (White Ribbon)- كثيرا عن ثيمته المعتادة؛ حيث يجعل بيت المرء ومساحته الشخصية مقتحمان من قبل غريب  يتهددهما. يشير لهذا في بداية الفيلم حين يجد الزوجان مقبض بابهما مدمرا، لكن من دخل البيت في تلك الليلة لم يكن شخصا ساديا سيعذب العجوزين كما اعتدنا من هانيكه، ما دخل كانت روح الموت والمرض التي ستسكن جسد آن الذاوي والتي لن تكون أرحم بها وبجورج من أشرار هانيكه السيكوباتيين. (2)

    

أجاد هانيكه في "الحب" ما أجاده دائما: إظهار القسوة بكل بشاعتها أمام جمهور أعزل مختبرا قدرته على التحمل. وبالرغم من لمحة الشاعرية التي أحاطت علاقة جورج بآن والتي خففت من جرعة تلك القسوة، إلا أن هذا الفيلم، بواقعيته الشديدة وقصته التي قد تشكل محطة الكثيرين الأخيرة في الحياة، يقع بين الأشد وطأة على النفس من بين أفلام مخرجه.

    

أعطى هذا الفيلم لمايكل هانيكه سعفته الذهبية الثانية بعد فيلم "الشريطة البيضاء"، وصار الفيلم الوحيد الذي جمع بين جائزة كان الأهم وجائزة الأوسكار للفيلم الأجنبي لعام 2012، كما حظي بأربعة ترشيحات أوسكار إضافية: أفضل فيلم، وأفضل مخرج وسيناريو أصلي لهانيكه، وأفضل ممثلة لإيمانيولا ريفا.

     

البيانو

       

تحمل السفينة آدا الأسكتلندية إلى ساحل مستعمرة نيوزيلندا في عام ما من القرن التاسع عشر، وتصحب معها ابنتها الصغيرة فلورا ذات التسعة أعوام والبيانو الخشبي الكبير الخاص بها. سيكون "ستيوارت"، الزوج الذي اختاره لها والدها دون أن تراه قط، بانتظارها على الجانب الآخر. لكن ما لم يكن ينتظره ستيوارت هو بيانو آيدا الثقيل جدا لدرجة عجز معها رجاله عن حمله فتركوه مهملا على رمال الشاطئ، غير مبالين بتوسلات آيدا الكثيرة التي تأتي بغير لغة الكلام؛ فآيدا في الحقيقة بكماء، وقد كانت نغمات البيانو هي الصوت الوحيد الذي تمتلكه في الحياة.

     

نسمع صوت آيدا في البداية يقول لنا: "ما تسمعونه ليس صوتي، بل صوت أفكاري، فأنا لم أتكلم منذ السادسة، لا أحد يعلم لماذا. الغريب في الأمر أنني لا أراني بكماء، والسبب هو البيانو". من بيتها الجديد الخانق، تتسلل آيدا وتهرب إلى البيانو العزيز بجوار البحر، تدق أصابعه وتتماهى في الأنغام التي يطلقها، واجدة عبره أخيرا نافذة مفتوحة على البوح والحرية. لكن آيدا لم تكن وحدها في تلك اللحظة، فقريبا كان يسير جارها "باينز".

    

يغوي عزف آيدا الشغوف باينز، فيشتري البيانو من زوجها حاملا إياه لبيته مقابل أرض سيعطيها له، على شرط أن تأتي آيدا له في كل يوم وتعلمه العزف. يوافق ستيوارت رغم اعتراض آدا التي لم تكن تعرف أن اهتمام باينز لم يكن منصبا فقط على عزفها.

    

عبر فيلم "البيانو"، تسلط المخرجة والكاتبة النيوزيلندية جاين كامبيون الضوء على امرأة تعترض على صم العالم أذنيه لها بالعزف، وعلى عمى عيون زوجها عنها بحسيتها البالغة مع آخر، مؤكدة عبر هذا وذاك وجودها الذي يود الجميع نفيه. وقد كان هذا الفيلم بمثابة تعبير كامبيون الخاص جدا عن وجود المرأة كمخرجة بارعة خلف كواليس الفيلم، والذي أتى بعده بقليل الاعتراف به عبر كامبيون أيضا؛ فقد نالت عنه جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان عام 1993، لتصير بهذا أول امرأة تحمل هذه الجائزة، كما ترشحت أيضا لجائزة أفضل مخرجة في الأوسكار كثاني امرأة على الإطلاق يتم ترشيحها. وقد نال الفيلم سبعة ترشيحات إضافية، فاز منها بثلاثة.

        

عازف البيانو

      

لم يكن فيلم "البيانو" الوحيد الذي لعبت فيه الآلة الموسيقية العذبة دورا محوريا. فكما أعطى البيانو لآدا صوتها في الفيلم الأول، كان بالنسبة لـ"فاديسوف سبيلمان"، عازف البيانو المحترف واليهودي البولندي، الفرصة الوحيدة للنجاة من موت محقق برصاص جنود النازية إبان الحرب العالمية الثانية.

         

 لكن، بينما سكنت شخصية آدا صفحات سيناريو جين كامبيون الخيالي، عاش فاديسوف سبيلمان في أحد أبشع فصول التاريخ. فكل الأحداث المروعة التي تنفلت على الشاشة كانت مبنية في الأصل على قصة سبيلمان الحقيقية حول هروبه من معسكرات تعذيب هتلر وأفران الغاز أوشفتز. روى سبيلمان ما جرى له ولعائلته في سيرته الذاتية، وعام 2002، حولها المخرج البولندي رومان بولانسكي إلى فيلم.

         

يصور فيلم "عازف البيانو" صراع فاديسوف الإنساني من أجل البقاء والعالم آخذ في التداعي من حوله. وفي صراعه، لم يكن بطلا مغوارا أو رجلا يحمل فوق جسده أطنانا من العضلات، محض روح هشة تدافع عن حقها في الحياة غير مصحوبة في معظم الأحيان سوى بثلة قليلة من ذوي القلوب الخيرة، وموسيقى شوبان التي -حرفيا- تنقذ حياته.

          

وقد حوّل بولانسكي قصة فاديسوف بحساسية بالغة إلى فيلم عظيم لم يكتف بمجرد التلاعب بالمشاهد عاطفيا واجترار دمعة أو اثنتين من عينيه بعد كلمة "النهاية" وانتهى الأمر، بل سحبه معه لعالم الحرب بكل ما به من دمار مفزع. فاز عنه بولانسكي بجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان عام 2002، وبأوسكار أفضل مخرج في نفس العام، ليصير واحدا من القلائل الذين جمعوا بين كلا الجائزتين، كما ترشح الفيلم لسبع جوائز أوسكار إضافية نال منها ثلاثا.

  

undefined

المصدر : الجزيرة