شعار قسم ميدان

"موت ستالين".. هل الكوميديا أفضل وسيلة للتعبير عن الواقع؟

midan - ستالين

يقول الناقد الفرنسي أندريه بازان أنّ الكوميديا كانت على الدوام النوع السينمائي الأكثر جديّة في هوليوود "إنها تعكس من خلال الأسلوب الهزلي أعمق المعتقدات الأخلاقية والاجتماعية للحياة الأميركية". يفهم الاسكتلندي أرماندو إيانوتشي ذلك جيدًا مستعينًا بإرثه الكبير ككوميدي ومقدّم برامج ساخرة وبالخفّة التي وفرتها له جذوره الإيطاليّة. ففي أولى ضرباته استهدف النظام السياسي البريطاني في عمل تلفزيوني ناجح حمل اسم The Thick Of It وفيه يصوّر بعرض هزلي الصراعات التي يلتحم فيها قادة الأحزاب البريطانيّون والإعلاميون وغيرهم من الفاعلين في السياسة البريطانيّة المعاصرة.(1)

 

كرّر إيانوتشي الأمر ذاته مع النظام السياسي الأمريكي في عمله الثاني Veep والذي يحكي قصّة سيلينا ماير، نائبة الرئيس الأمريكي والتي نافسته في سباق الرئاسة في الموسم الأول من المسلسل. تتسرب الكوميديا من داخل أبواب البيت الأبيض ومكتب الرئاسة حيث صراعًا على السلطة يهدد كلً شيء. يعود إيانوتشي في عمله الأخير على هيئة فيلم سينمائي حمل اسم "موت ستالين" The Death of Stalin إلى الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان الاتحاد السوفياتي قد استقر تحت سيطرة الزعيم جوزيف ستالين.

 

يدخل بكاميرته قاعات الكرملين ويُسجّل على طريقته الصراع حول السلطة في الساعات والأيام التي تلت وفاة ستالين المُفاجئة، ومن أجل واقعيّة أكبر يقرر الذهاب بنفسه إلى موسكو وزيارة ارث ستالين والوقوف على تفاصيله فقط ليتجنب أن تكون الديكورات المعروضة في الفيلم بالغة "الهوليوودية" فنجح بإقناع المتفرجين الروس أنفسهم أن التصوير تم في موسكو رغم أنه بدأ وانتهى في لندن.(2)

   

   

لم يكن الجانب الواقعي من الفيلم متعلق بديكوراته فحسب ولكن أحداثه جميعًا مبنيّة على مواقف وقصص حدثت بالفعل قبل وبعد وفاة ستالين. أحب ستالين عقد مأدبة عشاء من حين للآخر ودعوة وزراءه ورجال أمنه إليها. كما أحب لافرينتي بيريا، رئيس الشرطة السرية، عصر حبات الطماطم في جيوب الآخرين كنوع من المُزاح، أمّا ابن ستالين فتسبب بالفعل بمقتل جميع أعضاء ولاعبي منتخب الهوكي السوفياتي ثم حاول التغطية على تلك الكارثة عبر تشكيل فريق جديد دون علم أحد، وعندما مات ستالين بقي بالفعل ملقى على الأرض ليوم كامل لأن أحدًا لم يكن يجرؤ على الدخول إليه دون إذنه.

   

رعب بين ثنايا المهزلة

يُعيدنا "موت ستالين" لما يصفه الناقد الأمريكي روجر إيبرت "أروع فيلم تهكمي في القرن الماضي"، فيلم دكتور سترينجلوف Dr. Strangelove الصادر عام 1964 والذي أخرجه الأمريكي  ستانلي كوبريك، والذي يُعتبر أحد أعمدة هذا النمط من الأفلام وهو المُصنّف ثالثًا ضمن قائمة المعهد البريطاني للأفلام لأفضل مائة فيلم كوميدي أمريكي عبر التاريخ.(3)

 

في ذلك الفيلم يضع كوبريك الإنسان أمام تناقضاته، ماذا لو انطلق الآن صاروخ نووي دون قصد أو سابق إنذار، كيف سيتعامل هذا الإنسان المهووس بالحرب والتسلّح مع حياته وحياة الآخرين، وهو ذاته ما يقوم عليه فيلم موت ستالين حيث تُساهم التناقضات الفرديّة أمام ومن وراء الآخرين في بعث الكوميديا بين دفقات من الرعب الذي تُولّده حقيقة واحدة أن ما يحدث ليس أمرًا خياليًا ولكنه حصل بالفعل ولكن مع اختلاف التأويل.

 

إن العلاقة الوطيدة بين الرعب والكوميديا في الأفلام والمسلسلات العالمية، هذان التوأمان المتنافران، ليست خفيّة على أحد وليست أمرًا جديدًا، مع ذلك يتقن إيانوتشي التعامل معه كما لم يفعل غيره، في "موت ستالين" يبقى الخوف الشديد "متأصّلٌ بعمق في الحياة اليومية لدرجة أنه يشوه التعبير العادي، والألفاظ، والإيماءات، والهيئات" يتحول الموت إلى نكتة واللُطف إلى خدعة والناس جميعهم يبدون كأنهم في حفلة تنكّريّة.(4)

    

undefined

   

يؤدي ستيف بوشيمي في الفيلم شخصيّة خروشوف، أحد رجالات ستالين ووزير زراعته الذي يكترث للغاية بنوعية النكات التي يُلقيها في كل حفل يقيمه ستالين، يعود إلى منزله وقبل أن ينام يٌراجع مع زوجته النكات التي قالها وأيّ منها أعجب الزعيم وأيّ منها لم يُعجبه كي لا يكررها في اليوم التالي.

 

عندما علم خروتشوف بموت ستالين ارتدى ملابسه الرسمية فوق ملابس النوم، فلا وقت لتضييعه هنا وقد كان مُحقًا عندما ذهب فوجد بيريا رئيس الشرطة السرية هناك بالفعل وقد بدأ بمؤامرته. بيريا على عكس المتوقع كان أكثرهم سلميّة، الرجل الذي حكم البلاد بالسيف وقتل المئات وعذّب الأُلوف، كان أكثر انفتاحًا على عصر يُلغى فيه ذلك كلّه، خوف ربما أو إقتناع راسخ، لا يتضح عمومًا أيّ من نواياه فهو لن يُكمل سوى أيّام قبل إن يتخلّص منه بقيّة القادة في مشهد قاس ومُرعب في تفاهته ولكن الأكثر إثارة أنه حدث حقيقةً.

 

الفراغ الذي تركه موت ستالين أدى إلى تخبط شديد بين أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وفيها تتضح كيف حكمت الأمزجة الكثير من القرارات المصيريّة التي أدت في كثير من الأحوال إلى موت الأبرياء. يُعالج إيانوتشي فيلم المقتبس عن رواية مصوّرة حملت نفس الاسم بكثير من المواقف التي ترسم كل شخصيّة في عالمها الخاص، إما ذكورية مفرطة كوزير الدفاع جوكوف أو البراغماتية البلهاء لدى خروتشوف أو حتى إنعدام الثقة والحزم لدى مالينكوف الذي تولى منصب الزعيم لفترة مؤقتة بعد موت ستالين.

    undefined

   

كانت شخصيّة مالينكوف واحدة من أكثر العلامات المميزة في الفيلم فالتردد الذي سيطر عليه وضعف شخصيّته تحول فجأة إلى سلطوية وقسوة منقطعتان النظير بمجرد أن صار هو الزعيم، يظهر مالينكوف أمام عامة الناس بمظهر القوي الصلب ولكننا نعرف عن كثب أنه على العكس تمامًا من ذلك وكأن إيانوتشي يلمح بذلك إلى الكثير من قادة العالم الذين يحكمون بلادهم في أيامنا هذه.

  

تنقلب ضحكات المُتفرجين في الربع الأخير من الفيلم إلى "وجوم كئيب" خصوصًا عندما يُقدم أعضاء الحزب على إعدام بيريا رميًا بالرصاص بعد مؤامرة قادها خروتشوف للإطاحة به. يبدو المشهد العام كالتالي: مُجرم لقي حتفه على يد مجموعة من المُجرمين، ولكن هل من الممكن أن يكون هذا خبرًا جيدًا للآخرين؟ ما يشعُر به المتفرج هو وحده ما يحسم الجدل هنا، كيف لمؤامرة تافهة ولأمزجة دائرة صغيرة من الرجال أن تتحكم في مصير أمًة بأكملها، من قرار الحرب والسلم وصولًا إلى طبيعة الكلام المسموح لهم بالتفوه به. ماذا لو فشلت المؤامرة ضد بيريا، هل كنا سنشهد عالمًا مختلفًا اليوم؟(5)

   

الحجب في زمن الانترنت

قبل حوالي شهر من الآن وقف فلاديمير جيرينوفسكي أحد السياسيين الروس البارزين على منصّة البرلمان الذي صوّت للتو بمنع عرض فيلم "موت ستالين" في صالات السينما الروسيّة. عدّل جيرينوفسكي نظّارته ثمّ فرد ذراعيه على طرفي المنصة من أمامه وبدأ بوصلة توبيخ قاسية لأعضاء البرلمان "لو لم تثيروا حول هذا الفيلم كل هذه الجلبة، لو لم تتحدّثوا عنه بالمطلق، لكان حالنا أفضل. من كان سيشاهده؟ 20% من الناس؟ ليس أمرًا خطيرًا، ولكن الآن وبعد تصرفكم هذا سيُقبل الجميع على مُشاهدته وأنا أوّلهم".(6، 7)

    undefined

   

حاول جيرينوفسكي أن يشرح ما هو بديهي؛ الشبكة العنكبوتية العملاقة لا تسمح بإخفاء شيء اليوم، زمن الحجب ولّى بلا رجعة طالما يستطيع أي فرد في العالم الوصول لما يُريد بكبسة زر. يبدو الموقف مٌثيرًا للسُخرية عندما يُمنع فيلم كوميدي عن أيّام القمع السوفياتية تحت حكم ستالين فيُواجهه الروس بمزيد من القمع تحت حجّة تضمّنه حربًا أيديولوجية وتطرّفًا.

 

أثار جوزيف ستالين الجدل حوله حيّا وميتًا ولكن تبقى أيامه الأخيرة الأكثر رمزيّة حول نفسيّة "المارشال" و"الأب الصغير" للشعب الذي تحوّل بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية إلى زعيم أوحد للإتحاد السوفياتي والديمقراطيات الشعبيّة. عانى من وحدة زادته جنونًا فخلق المزيد من الفراغ حوله. لم يكُن هناك مُستبعدون من الإقصاء والقمع حتى أقرب المقربين منه. كبر ستالين وصار عجوزًا ولكنها كانت "شيخوخة بلا حنان ولا رغبات". (8)

 

في الاستعراض الخامس والثلاثين للثورة وقف ستالين وخاطب الجماهير "ماذا كان بإمكانكم أن تفعلوا من دوني؟" ثم حيّته الجماهير للمرة الأخيرة في حياتهم فبعد أربعة أشهر تُوفي ستالين وهرعت الجماهير مجددًا لتشييع جثمانه في موسكو، تدافعوا فمات بعضهم اختناقًا وبعد ثلاثة أشهر فقط قُرعت أولى أجراس انتهاء الشيوعيّة من داخل برلين الشرقيّة.

 

لا يسعى إيانوتشي بفيلمه هذا إلى تغيير المفاهيم في عقول الناس ولا دفعهم لتغيير رأيهم فيمن يودون التصويت إليه في الانتخابات القادمة مثلًا فالتهكم السياسي لا يقدّم حلولًا ولكنه يضع يده على المشاكل، يمسح عنها الغبار ويكشفها أمام الناس. يحتل التهكم السياسي حيزًا متنوعًا من التشكّلات فيظهر على شكل مقالة أو رواية أو برنامج تلفزيوني مثل ذلك الذي يُقدمه "جون إوليفر" ولكن وضوحه يبقى أكثر لمعانًا في السينما. لذا أعاد إيانوتشي مُشاهد فيلم "الدكتاتور العظيم" لتشارلي شابلن لأن أفضل أنواع السخرية السياسية هي تلك التي تُولد من قلب الحقيقة نفسها.