شعار قسم ميدان

عادل كرم على نتفلكس.. الكوميديا التي لا تُضحك أحدا!

midan - نتفليكس
تشرّفت دولة ساحل العاج بزيارة من الممثل ومُقدّم البرامج اللبناني عادل كرم. الدولة الأفريقية التي تقع في غرب ثاني أكبر قارة في العالم لا تُنتج الكاكاو والمطاط ذا الجودة العالية فحسب، ولكنها تملك منتخب كرة قدم يعتبر من الأقوى أفريقيًّا، إلى جانب شواطئ جميلة لم يُشوهها إلا وضع يد الاستعمار الفرنسي عليها ثم لم يتركها إلا وقد تغيّرت فاعلات الاقتصاد فيها. فمثلا استقر هناك ومنذ أكثر من قرن مضى ما يزيد عن ستين ألف لبناني من أجل "إدارة اقتصاد البلاد" والاستفادة منه.(1)

 

بالطبع لم تتمالك كوت ديفوار (كما يُحب عادل كرم نُطقها بالفرنسيّة) نفسها من فرط الإثارة عندما وضع الرجل قدميه على سلالم الطائرة وهمّ بالنزول. استقبلته أشجار الموز كما يقول جنبا إلى جنب مع صدور النساء العاريات و"مؤخراتهن الكبيرة" وأعضاء الرجال العملاقة. لحماية نفسه من هذا المشهد يحجز كرم غرفته في أحد الفنادق شاهقة الارتفاع، ومن هناك، تحديدا من الطابق الثالث عشر، أخذ عادل كرم بالتعرّف إلى أفريقيا السمراء.

 

شعر العديدون بشيء من الغرابة عندما تبادر إلى مسامعهم إعلان "نتفلكس" عن عملها العربي الأصلي الأوّل. عادل كرم في برنامج "ستاند-أب كوميدي"؟ كان التساؤل المُلح هو كيف يعتبر أحدهم عادل كرم كوميديا من الأساس؟ لا شكّ أنّ لكرم تجارب كوميدية قديمة اشتهر بها على غرار "S.L.CHI" الذي ظهر في التسعينيات، وبرنامج "لا يُمل" الذي أُذيع على محطة المستقبل اللبنانية، ثم تبعه برنامج "ما في متلو" على "إم تي في"، ولكنه في الأخيرين لم يكن المُغرّد الوحيد، بل ارتكز بالأساس على طاقم ذكي قدّم كل ما يملك ليحتل مكانة خاصة في وعي المشاهدين مثل عباس شاهين ونعيم حلاوي ورولا شاميّة.(2، 3)

   

   

عاد عادل كرم للعمل مع "إم تي في" في برنامجه الأخير هناك "هيدا حكي" والذي تكشّف معه عمق البئر الذي سقط فيه الرجل، وكأنه انكشف تماما أمام الجماهير بعد أن احتمى كثيرا خلف من فاقوه إبداعا. يتجلى ذلك كله بعد أزمته مع الفنانة الإماراتية "أحلام" حين أثار في أحد "سكتشاته" جمهور مواقع التواصل الاجتماعي الذي رفض استغلال مساحته الإعلامية من أجل "البلطجة" على الآخرين. بالطبع لم تكن أحلام ضحيته الوحيدة فهو لا يوفر فرصة لضخ المزيد من الكراهية ضدّ الشواذ تارة وضد السوريين واليمنيين والسود والنساء وكلّ ما تقع عليه عيناه تارة أخرى. وأخيرا، وفي برنامج نتفلكس الأصلي العربي الأوّل "عادل كرم: مُباشر من بيروت" استهدف كرم النساء والشواذ والسوريين والأفارقة؛ لونهم، شعرهم، أحجام أعضائهم التناسلية، عاداتهم وأشجار موزهم.(4)

     

كوميديا فينيقية

يُعتبَر الكوميدي الأميركي لويس سي كيه واحدا من أكثر مقدمي العروض الساخرة شهرة في العالم، وبعيدا عن الأخبار التي أحاطت بحياته الشخصيّة لم يكن السرّ الذي صنع نجوميّته هو تناوله للمواضيع الاعتيادية وتوليد الكوميديا من أبسط المواقف فحسب كما فعل نظراؤه (رغم أنه مارس ذلك باستمرار)، بل تمكّن بموازاة ذلك من عرض القضايا التي يخشى الكثيرون من الحديث عنها، بل صنع منها نكتة تتجاوز حدود الضحك بكيلومترات عدّة.(5)

 

في عام 2015 شُنّت حملة نقد لاذعة على الرجل بعد ظهور مثير للجدل آنذاك تحدّث فيه عن البيدوفيليا (الاشتهاء الجنسي للأطفال) من وجهة نظر طفل عاش في أميركا فترة السبعينيات -واحدة من أكثر الفترات عنصريّة في التاريخ الأميركي المعاصر-. في المونولوج القصير الذي قدمه لبرنامج "SNL" الأميركي قال سي كيه: "دعونا نتكلّم من وجهة نظر مُغتصب الأطفال، أن يُضحّي رجل بكل شيء في حياته، سمعته وعائلته وعمله من أجل التحرش بطفل، ثم يستمر في فعلها مرّة بعد أخرى، فإن هذا يعني أمرا واحدا: التحرش بالأطفال لا بدّ وأن يكون أمرا بالغ الروعة".

   

  

قامت الدنيا ولم تقعد، وانقسم الجمهور إلى معسكرين، أحدهما هاجمه والآخر دافع عنه باستماتة، ولكن الطريف في ذلك أن كِلا المعسكرين اتهم الآخر بأن موقفه مبني بالأساس على كونه "مُتحرّشا بالأطفال"، وهنا تتكرس أهمية هذا المونولوج الذي أصبح مع الزمن أقّل حدّة بالنسبة لمن اعتبروه مهينا آنذاك. لويس سي كيه لم يؤيّد التلاعب الجنسي بالأطفال ولم يدعمه، كما لم "يقصد" أن يُسبب أيّ أذى لأولئك الذين تعرّض أطفالهم لهذا النوع من الاعتداءات، رغم أنّ النيّة هنا ليست المحدد النهائي لصوابية الفعل من عدمه.

  

يُسيء عادل كرم فهم البنية السليمة لكسر الحدود هنا، بقصد أو من غير قصد، فليس هذا هو المهم حتى وإن كانت نتفلكس تختار لجمهورها العربي محتوى يُلائم تطلعاتهم من وجهة نظر القائمين على هذه الشركة العملاقة. فعنصريّة عادل كرم ليست سوى امتداد لعنصريّة "الشعب اللبناني العنيد" كما رأى الناقد السينمائي اللبناني نديم جرجورة على حسابه الشخصي على فيسبوك، وإن كانت هذه نظرية يستحيل -كأي شيء آخر- تعميمها بالطبع.(6)

 

إذًا ماذا فعل عادل كرم في برنامجه؟ ألقى النكات وضحك الجمهور. حسنا، لا بدّ إذًا من تناول الموقف من هاتين الزاويتين، عادل والجمهور. يعتبر الأوّل أنّ وقوفه على المسرح أمام الناس فرصة لإخبار العالم عن طول عضوه الذكري، وتكرار المعلومة أكثر من مرّة حتى حفظناها، وفي الوقت نفسه يعتبر أن من حقّه تناول صورة نمطية قديمة لم يعد أحد يستخدمها اليوم عن طول الأعضاء الذكرية للذكور الأفارقة، والتي يثبت مع قليل من البحث (لو كان فريق إعداد برنامجه مهتما) بأنها معلومة نمطية مغلوطة تماما ومملة جدا بل متوقعة أكثر من اللازم.

 

قد لا يتعلّق الأمر بالصوابية السياسية ولا باحتكار شكل النكتة الشعبية، ولكنه بالتأكيد يقف مطولا عند طبيعة وأثر هذه النكتة والتي كان من المفترض بها أن تكون مضحكة، أن تفتح الأفق لتناول أكثر عمقا لقضية ما، أن تصدمنا بجرأتها لا بتفاهتها. ما المُضحك في أن يستمني عادل كرم عند مشاهدته لمباريات كرة المضرب للنساء؟ وأين الكوميديا في الاستهزاء من وزن أُنثى أو شعرها أو لونها أو العيون الصغيرة أو اعتبار الشذوذ نتاجا مباشرا لاعتداء يتعرض له الرجل؟ في أيّ عصر يعيش عادل كرم؟ وهل من الممكن لأحد انتشاله أو على الأقل إبعاده عن وجوهنا؟

   undefined

   

هنا تقف نتفلكس موقف المتفرّج وكأن ما يجري لا يعنيها طالما أنه يبدو مضحكا وسيجلب المزيد من المُشاهدات. تتجاهل نتفلكس بنسختها العربيّة جيلا شبابيا كاملا باتت ذائقته الفنيّة أعلى مما يتصورون، بل ويملكون "تفكيرا نقديا حادا" لم يعد من الممكن معه تمرير مثل هذا "الهراء" بسهولة كما يصفه عدد من الكُتّاب.(7)

 

في الجهة المقابلة يبدو الحديث عن الجمهور مستعصيا هنا، فالحضور لم يكفّ عن الضحك رغم أن الكاميرا لم تستطع الهرب للحظات من وجوه بعض الممتعضين والغاضبين. في القاعة كان الجمهور يضحك، لكن على وسائل التواصل وعلى المواقع الصحافية لم يضحك أحد، هل استأجرت نتفلكس جمهورها أم أنّها بكلّ بساطة تصنع عرضا يتضمن أيضا توجيهات للجمهور؛ متى يضحك ومتى يصفق، كما يحدث في الكثير من البرامج العربية الساخرة؟(8)

 

حفلة التفاهة

يسهل ملاحظة حركة عادل كرم على المسرح كلما خرج في عرض ستاند-أب كوميدي، إذ يتكرر على الدوام عدد متتابع من الحركات التي تُشير بدورها إلى الكثير مما وراء المشهد. يُلقي عادل النكتة ثمّ يضحك عليها وكأنه تفاجأ بها هو أيضا مثلنا تماما. ليس أمرا عرضيا ولكنه مستمر بلا هوادة، وهذا ما قد يُشير إلى أن عادل نفسه لا يكتب أي نكتة، بل يقف من ورائه فريق إعداد هو في أحسن أحواله مُنفصل عن الواقع، يصنع "كوميديا" يصعب تخيّل شكل كاتبها، وإلى أيّ زمن ينتمي، وكيف بحق السماء رأى فيها أمرا مُضحكا.(9)

 

نجد أنفسنا مضطرين للاستعانة مجددا بالكوميدي الأميركي لويس سي كيه الذي يتبع منهجا محددا في طريقة صنعه للنكتة يعتمد على ثلاث ركائز لا تنفصل عن بعضها البعض بل تعمل بشكل تكاملي علّ عادل كرم يجد فيها استفادة ما. أولا يسعى سي كيه بكل جهده لوضع الافتراض الذي تقوم عليه النكتة بكل وضوح في أول جملتين أو ثلاث يتفوه بهما، هنا سيبدو من المهم أن يكون الافتراض قابلا للتصديق بالأساس، فعندما يتحدث سي كيه عن موقف مع ابنته حصل أثناء لعبهم المونوبولي هو أمر من السهل الاقتناع به، وهو ما يوفر فرصة لتصديق النكتة والدخول إلى عالمها بسهولة، على عكس ما يفعله عادل كرم في معظم حكاياته.(10)

   

undefined    

أمّا الركيزة الثانية فهي الاستخدام الأمثل للكلمات. بينما يسترسل عادل كرم في الحديث أكثر وأكثر عن تفاصيل قصص لا أهميّة لها، هاربا من النكتة نفسها عبر سرد قصّة طويلة جدا حدّ الملل، فإن لويس سي كيه قادر على جعل الجمهور ينفجر من الضحك فيما لا يزيد عن مئتي كلمة فحسب. يرتبط هذا بركيزته الثالثة والأخيرة: من قال إن الكوميدي هو بهلوان بالضرورة؟ يقفز عادل كرم ويجري وينحني ولا يهدأ له بال حتى يغطي العرق وجهه وكأنه يستجدي الضحك بجسده لا بلسانه فحسب، فيما لا يُحرّك سي كيه طيلة الوقت أكثر من ذراعيه، بإشارة واحدة يستطيع سي كيه أن يضع المتفرج في قلب الموقف ومن وجهة نظر من تستهدفه النكتة تحديدا.

 

ليست العنصرية أو الهوموفوبيا أو الذكوريّة والنظرة المنحطة للمرأة وأيّ آفة قد نجدها في الشارع من الضروري تحويلها إلى خطاب رسمي على خشبة المسرح، فالكوميديا تأتي هنا على النقيض من ذلك من أجل ضرب هذه الاعتقادات ومحاولة تفكيكها وفتح باب للحديث عنها بجديّة، لا نتكلم هنا عن عادات غذائيّة ولا "كيف يُقبّل العرب بعضهم عند السلام"، ولكن عن قضايا تبدو متعلقة بطريقة تفكير أولئك العرب ونظرتهم نحو الأشياء والعالم من حولهم. لا يجب على الكوميديا أن تُكرّس العدائيّة والعنصريّة والتحيزات بحجة الضحك، فإن كانت كذلك فهو ضحك على الآخر لا على الذات، الآخر الذي يملك نقطة يراها المجتمع نقطة نقص، تزيد هذه الكوميديا من نقصها، كوميديا تضحك على الاختلاف وتعمقه ولكنها لا تحاول إلغاءه، كوميديا لا تُضحك أحدا سوى عادل كرم.