شعار قسم ميدان

"يوم الدين"رحلة مجذوم من أبو زعبل إلى مهرجان "كان"

midan - Yomeddine
يحتل مهرجان "كان" مكانا بارزا وسط المحافل السينمائية العالمية، و يحظى بتقدير فني وجماهيري كبير، طوّر الحضور على مر سنين عادة باتت كرنفالية لا يمكن أن يمر عام دون أن تلفت الانتباه، ومنها يستطيع صانع الفيلم معرفة رأي الجمهور في عمله بشكل مباشر، دون مجاملة أو مواربة، وهي إما التصفيق الحاد وإما الاستهجان الحاد بعد الانتهاء من عرض الفيلم. ربما لم يكن يتخيل الشاب أبو بكر شوقي، أنه ريثما ينتهي من عمله الأول، والذي استغرق عشر سنوات لإنجازه، سيكون عرضه الأول، في مهرجان السينما الأهم حول العالم، والأهم من ذلك أنه سيحصد في النهاية التصفيق الحاد لدقائق متواصلة من أكبر صناع ونقاد السينما حول العالم، وسيكون ثامن مخرج فقط يصل بفيلمه الروائي الأول إلى المسابقة الرسمية للمهرجان.

        

وسط تجاهل إعلامي يصل إلى التعتيم، عُرض الفيلم المصري "يوم الدين" في فعاليات المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، وسط استهجان الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي، كيف يصل مخرج مصري إلى واحد من أهم مهرجانات السينما حول العالم، وفي تجربته الإخراجية الأولى، دون أي احتفاء أو تقدير، أو على الأقل تغطية صحفية عادية لمثل هذا الموقف. بدأ الجميع في الالتفات إلى الأمر بعد الإشادة الكبيرة التي نالها الفيلم في المقال الخاص بمراسل الجارديان في "كان"، ثم توالت على مواقع التواصل الاجتماعي صور للمخرج والمنتجة على السجادة الحمراء، والأهم نظرات الإعجاب التي لا تخطئها العين والتصفيق المتواصل من قِبَل الحضور بعد الانتهاء من العرض.

      

     

تاريخ طويل من المشاركات في "كان"

على عكس المتوقع، بدأت علاقة مصر بمهرجان "كان" مبكرا جدا، ومنذ دورته الأولى في عام 1946، والأمر لم يقتصر على مشاركة الفيلم المصري "دنيا" للمخرج محمد كريم، بل كان الممثل والمخرج يوسف وهبي موجودا كعضو لجنة تحكيم، وهي بداية كانت من المفترض أن تعني حضورا مختلفا لمصر في المهرجانات السينمائية، بشكل يساهم في تدعيم صناعة السينما المحلية، أو حضورها في المحافل الدولية، وهو الأمر الذي لم يحدث كما توحي البداية، واقتصرت العلاقة على مشاركات رمزية للأفلام بين حين وآخر؛ شارك في مهرجان "كان" أربعة وعشرون فيلما مصريا، لكن هذا الحضور الكبير خرج خالي الوفاض من كل تلك المرات، فكان أهم مشاركات مصر على الإطلاق هو حضور يوسف شاهين القوي والمتكرر في المهرجان، والذي تُوّج في عام 1997 بحصوله على الجائزة التذكارية عن مجمل أعماله.

     

قبل "يوم الدين"، لم تكن الأفلام المشاركة هي مصدر الجدل في مصر، كما يفترض في مهرجان مختص بالسينما، لكن العلاقات السياسية بين مصر وفرنسا كانت هي الحاضر الأبرز. إثر تأميم مصر لقناة السويس عام 1956 وقرار فرنسا بالانضمام إلى العدوان الثلاثي على مصر، انقطعت العلاقات بين البلدين، فامتنعت مصر عن إرسال أفلامها في الفترة من 1957 وحتى عام 1963.

    

بعدها عادت العلاقات السياسية بين البلدين إلى طبيعتها، لكن الأفلام المصرية لم تحضر في "كان"، لأسباب أخرى هذة المرة، كانت السينما قد تمّ تأميمها في تلك الفترة، مما جعلها تشهد حالة من الركود لم تؤهل الأفلام التي تم إنتاجها في تلك الفترة للمنافسة في "كان"، الاستثناء الوحيد كان فيلم "العصفور" في عام 1973، الفيلم الذي قوبل بالمنع في مصر لكنه حظي بمتابعة جيدة في مهرجان "كان".

    

الأمر الذي يسهل ملاحظته هو الاحتفاء الدائم من وسائل الإعلام المصرية الرسمية وغير الرسمية بكل تلك المشاركات، وهو ما يدعو للتساؤل الجاد حول غياب الأمر نفسه مع فيلم "يوم الدين" لمخرجه الشاب، على كل، أثبت مهرجان "كان" بوجود الفيلم ضمن مسابقته الرسمية بالغة الأهمية أنه ليس من الضروري أن تكون مخرجا كبيرا أو ذائع الصيت من أجل أن يتم تقدير عملك الإبداعي، لكن يبدو أن الاعلام المصري له رأي آخر.

     

   
حكاية مجذوم على طريق المعاناة الطويل

للمصادفة يدور فيلم أبو بكر شوقي "يوم الدين" عن المنبوذين، نبذ قد يختلف فقط شكلا عن الطريقة التي عومل بها الفيلم في بلد مخرجه، لكنها لا تختلف موضوعا. بشاي، أربعيني مصاب بمرض الجذام، يقرر أن يترك المستعمرة التي قضى فيها أغلب سنوات حياته وينطلق رفقة "أوباما"، الطفل النوبي اليتيم، بحثا عن والديه اللذين تركاه في مستعمرة الجذام صغيرا، اثنان من المنبوذين لم يختارا ما هما عليه، ينطلقان في رحلتهما بحثا عن أسرة "بشاي"، رحلة تسمح لهما بالتعرف على المجتمع الذي نبذهما داخل مستعمرة لا يسكنها إلا المرضى.

   

كتب شوقي سيناريو الفيلم بعد اقترابه من مستعمرة المصابين بهذا المرض، حين كان يعد فيلما تسجيليا عنها باسم "المستعمرة" منذ عشر سنوات، حينها التقى "راضي جمال"، الممثل المجذوم الذي يؤدي دور بشاي، والذي يعتبر شوقي أن اختياره وباقي الفريق كان أصعب جزء في العمل، استغرق تدريب الممثلين على تأدية أدوارهم 4 أشهر، وطبقا للناقد أمير العمري فقد كان أداؤه تجربة فريدة ستبقى طويلا في ذاكرة كل مشاهد، أداء بلغ مستوى رائعا من التلقائية والإحساس بالموقف والموضوع، بحيث بدت حواراته كأنها مرتجلة، يعتبر العمري أيضا أن الممثل الصغير غير المحترف أحمد عبدالحفيظ في دور أوباما يتمتع هو الآخر بحضور كبير، وأن أداء الاثنين معا يتميز بالانسجام والتجانس المدهش.

 

يرى العمري أن الفيلم يحوي في طبقة أخرى نقدا سياسيا مستترا، مثل سخريته من نظام التعليم الفاشل الذي يتخرج فيه أطفال لا يعرفون شيئا، أو السخرية من البيروقراطية المصرية، بل ربما يكون عزل بعض البشر سواء في مستعمرة أبو زعبل للجذام أو ملجأ الأيتام الذي كان ينتمي إليه أوباما رمزا لاستبعاد الطبقات المهمشة وإهمالها في المجتمع، بل والنظر إليها باعتبارها عاهة تلقى ما تستحقه من عزل لأنها مكونة من بشر "عديمي الفائدة" للمجتمع.

       

   

في رحلتهما نحو اكتشاف أصولهما ومحاولة الحصول على عائلة لم يملكا ترفها أبدا، يتعرض الثنائي لأشكال المعاناة مثل السجن والسخرية والتعطيل في المصالح الحكومية وحتى وفاة حمارهما، لكنهما يتعرفان أيضا على منبوذين آخرين فقراء وعاجزين لا يحبهم المجتمع، أشخاص يؤمنون أنهم سيحصلون على مساواة فقط "يوم الدين"، وهو ما يمنحهم القدرة على مواصلة الحياة والاستمتاع ببعض لحظاتها، حياة يعرفون تماما أن لا أمل لمثلهم فيها مهما طال بهم العمر.

      
"يوم الدين" من الظل إلى المجد

بشكل مفاجئ إذًا ترددت الأخبار عن مشاركة الفيلم دون أن يعلم المتابعون حتى المتخصصون منهم أي تفاصيل عن الفيلم وصانعه، بدأت رحلة بحث عن فيلم "يوم الدين"، وبات اسم مخرجه يتردد في الأروقة متبوعا بنظرات من الدهشة والاستفهام، شاب مصري يخوض تجربته الإخراجية لأول فيلم طويل له، بعيدا عن أعين شركات الإنتاج التي تسيطر على الصناعة، وبلا ضوضاء إعلامية، أو أي أخبار عن ترشح الفيلم في البداية، من هذا؟ وماذا فعل بحق الجحيم؟ تساؤل لا يخلو من الاستفهام والاستنكار في الآن نفسه حول وتجاه الشاب الذي ألقى أحجارا كثيرة في المياه الراكدة.

 

درس شوقي العلوم السياسية، ثم صناعة الأفلام في أكاديمية نيويورك، بدأ مشواره بمشروع تخرجه "المستعمرة"، ثم أخرج عددا من الأفلام القصيرة قبل "يوم الدين" الذي يحلم به منذ عشر سنوات، لكن التمويل كان أحد أكبر العوائق أمامه وأحد الأسباب في استغراق العمل على الفيلم هذه السنوات الطويلة.

    

مخرج الفيلم أبو بكر شوقي وزوجته خلال مهرجان كان
مخرج الفيلم أبو بكر شوقي وزوجته خلال مهرجان كان
   

مشاكل التمويل والميزانية هي ربما ناطقة بحال كل الأفلام المستقلة في مصر، يزيد منها دعم إعلامي معدوم، على الرغم من كل هذا، ينجح شوقي في صناعة فيلم يجذب انتباه النخبة الفنية صاحبة النفوذ الأكبر في العالم، متحديا التقاليد البالية في مصر للتصدر في تلك المحافل، مثل الميزانية الضخمة أو أن يحمل ملصقه الدعائي صور النجوم الذين يتقاضون الملايين، إذ تصدر الملصق الدعائي لفيلم "يوم الدين" صورة أول ممثل مصري مصاب بالجذام، وربما ينجح في خطف جائزة التمثيل هذا العام.

   

أنتج الفيلم زوجة شوقي دينا إمام، كان أول جزء من التمويل هو المنحة التي حصل عليها الفيلم من جامعة نيويورك، ثم بدأ فريق العمل حملة على أحد مواقع التمويل الجماعي للحصول على المزيد من التمويل، وجمعوا مبلغا من الأصدقاء والعائلة، وفي النهاية حصلوا على منحة من مهرجان الجونة السينمائي لينضم المنتج محمد حفظي إلى تمويل مراحل ما بعد الإنتاج.

  

كان من المقرر للفيلم أن يُعرض ضمن عروض "نظرة ما" المخصصة عادة للتجارب الأولى لمخرجيها، لكن تيري فريمو المدير الفني للمهرجان تحمس للفيلم بشدة، فقرر ضمه للمسابقة الرسمية، ليصبح "يوم الدين" قصة نجاح للسينما المستقلة، أو هو إنجاز لا يقل عن إنجازات محمد صلاح في الكرة بتعبير عمرو سلامة، حتى قبل أن تعلن نتيجة المسابقة. 

      

undefined