شعار قسم ميدان

يوسف شاهين.. سيرة للذات والوطن بين الحلم والهزيمة

midan - Youssef Chahine

انطلق يحيى إلى المجهول بعد أن وضع الماضي خلفه، وماضيه لم يكن حينها طويلا حقا، فقط ثمانية عشر عاما شكّلت طفولته وصباه على شاطئ الأحلام البِكر في الإسكندرية؛ انطلق بعد أن قرر أن الأحلام لا تتحقق ها هنا حيث تهوى الأرض أن تقتل سريعا كل براعم الأمل قبل أن تنمو وتصير حقيقة. وعندما وصل أخيرا إلى وجهته، نيويورك أرض ميعاد الصبية الحالمين، لم يجد هنالك في استقباله أذرعا مفتوحة، بل فقط المرأة في تمثال الحرية واقفة رافعة يديها في غير مبالاة كعادتها لكل من رهنوا الأمل والمستقبل بها؛ وليحيى خصيصا وجهت نظرة ساخرة وضحكة مُتهتكة كشفت عن عجوز بدت كعاهرة شمطاء تتحداه بوقاحة أن ينتصر عليها. (1)

        

كانت تلك هي اللقطة الأخيرة في فيلم "إسكندرية ليه" الذي لم يكن سوى الفصل الأول في حياة بطله المديدة، يحيى شكري مراد أو يوسف جبرائيل شاهين، الاثنان ليسا سوى الشخص نفسه حقا، واحد عاش وجوده بكل ما فيه من انكسارات وإحباطات وانتصارات أيضا، ثم عاد ليعريه على الشاشة بعد أن قطع في المونتاج ملل الأيام المعتاد وبلور فقط لحظات الصخب والنشوة.

    

أما فيلمه الآخر "حدوتة مصرية"، فقد اختار شاهين أن ينهيه بكلمة "البداية" بدلا عن "النهاية"؛ فأفلامه في الحقيقة لا تنتهي تماما، حيث تحمل كل نهاية بذرة لبداية جديدة وتتابع آخر من عوالم وشخصيات وأحداث، وفي كل فيلم فكرة أو قضية لا يمكن أن يسدل الستار عليها في ساعتين، بل تستمر وتستمر وإن لم يكن على الشاشة. ويوسف شاهين كأفلامه، لم يستطع الموت الذي باغته وباغتنا منذ عشر سنوات في يوليو/تموز 2008، أن ينفيه بشكل تام عن الوجود، فيظل كيانه حاضرا كواحد من أهم مخرجي الوطن العربي على الإطلاق، ويطول الحديث عنه ولا ينتهي أبدا.

       

undefined

      

إسكندرية ليه

أبى يوسف شاهين أن تكون حياته وراء الشاشة محض تتابع ثقيل من كلمات جافة مصمتة وتواريخ بليدة -"وُلَد، عاش في، انتقل إلى، تزوج من، صنع أفلام، حاز على جوائز، مات"- ففعل كما اعتاد أن يفعل دائما وسحب تلك الحياة نفسها أمام عدسة الكاميرا لتتكشف في تداعيات هذيانية شكّلت رباعية سيرته الذاتية: "إسكندرية ليه"، "حدوتة مصرية"، "إسكندرية كمان وكمان"، "إسكندرية نيويورك". وكان أول تلك التداعيات فيلم "إسكندرية ليه"، حيث صوّر عامه الأخير في المدرسة قبل التخرج فيها، وقد اختار لنفسه اسم "يحيى" بدل يوسف، ومحسن محيي الدين الشاب الموهوب ليجسده على الشاشة.

    

يعجز شاهين أن يروي أي قصة منفردة، حتى وإن كانت تلك هي قصة حياته نفسها؛ فتتشابك عنده قصة البطل بقصص المحيطين به التي يتأثر بها ويؤثر عليها، ويسيطر على هذا وذاك اللحظة التاريخية والبيئة والمجتمع والسلطة؛ فتبدو أفلامه دائما كمقطع طولي يُشرّح فيه الآخرين جنبا إلى جنب مع الذات، ومعهم الحياة في وقت معين بمكان معين بكل ما فيه من تفاصيل، ليعطينا لقطة بانورامية نكاد نشعر فيها بطعم اللحظة الزمنية متجسدا على حواف وعينا. وتظهر تلك الحالة الجماعية بداية من ملصقات أفلامه نفسها، حيث كثيرا ما يظهر زحام من خلفيات وشخصيات لكل منها ماضٍ وتاريخ وقصة.

       

وفي "إسكندرية ليه"، أول أفلام الرباعية وأهمها، تسيطر تلك الحالة منذ اللحظة الأولى وإلى الأخيرة. فلا يقتصر الفيلم على رواية قصة يحيى، الشاب المنتمي إلى أسرة من الطبقة المتوسطة والراغبة في الارتقاء إلى درجة أعلى فتدخل ابنها مدرسة "فيكتوريا كوليدج" البريطانية حيث يُدرّس أبناء علية القوم، والشغوف أيضا لدرجة يصعب وصفها بالسينما والتمثيل. بل تلعب فيه أوركسترا كاملة من الشخصيات دور البطولة، وفي الخلفية، تعطي لحظة الفيلم الزمنية في أربعينيات القرن العشرين بمدينة الإسكندرية في نهايات الحرب العالمية الثانية لكل شيء النغم والإيقاع والمعنى.

     

undefined

    

بجانب يحيى، نتابع إسماعيل (أحمد زكي)، المثقف الذي يعمل في مصنع ويقع في حب سارة (نجلاء فتحي) اليهودية ابنة المثقف السياسي الأرستقراطي والمعادي لإسرائيل (يوسف وهبي). ونتبع أيضا رفاق إسماعيل من جنود وطنيين مؤمنين تماما أنهم يستطيعون وحدهم أن يضعوا النهاية للحرب العالمية الثانية وللاستعمار الإنجليزي بقتل تشرشل الذي يظنونه سيأتي الإسكندرية عمّا قريب. يساعدهم في مخططهم شاكر (عزت العلايلي)، السارق والتاجر خفيف الظل الذي يوافق أن يسرق لهم حقيبة جندي إنجليزي لكنه يرفض أن يعطيها لهم عندما لا يمدونه بالأجر المتفق عليه. ففي اليوم السابق، استطاع أن يجني مئة جنيه كاملة باصطياد عسكري نيوزلندي وتسليمه لعادل بك، الأرستقراطي الشاب والعاطل بالوراثة الذي يود أن يثبت وطنيته أمام نفسه بقتل أحد عساكر المحتل دون أن يتحمل عناء أي شيء سوى إطلاق رصاصة الموت عليه، لكن ما يحدث في الحقيقة هو أنه تأخذه الرأفة به وتنشأ بينهما علاقة. أما زوج أخته فليس سوى ثري حرب وصاحب مصنع يعطي ابنه محسن (عبد الله محمود) في اليوم الواحد راتب عاملين لمدة شهر. أما ابنه، فهو في الحقيقة صديق يحيى الحميم وزميله في مدرسة فيكتوريا كوليدج. وفي بيت يحيى، نجد درجة قريبة من تشابك وتعقيد العلاقات بين الشخصيات التي يظهر في صدارتها الأب (محمود المليجي)، والأم (محسنة توفيق).

     

مع كل هذا الزخم من الأحداث والشخصيات، يروي لنا شاهين قصة الشاب الحالم والبريء الذي كانه، وقصة مدينة واسعة لا يطوقها سوى اتساع البحر وأفق السماء احتوت سكانها وضمتهم على اختلافاتهم، وقصة أولئك السكان الآتين من كل مكان -أبو شاهين نفسه من أصول لبنانية وأمه من أصول يونانية(2)– والذي لم يصنع تباين خلفياتهم وثقافاتهم منهم سوى مزيج جريء ومتلاحم أمام القدر والحياة وأعداء الوطن والحرية.
  

شاهين، عبر عن كل هذا بعناية باستخدام لغته السينمائية المميزة جدا؛ فتسيطر اللقطة المتوسطة والواسعة والتي تبرز زخم الشخصيات والأحداث، والكادر المقسوم إلى مقدمة وخلفية كل منهما يحمل قصصا منفصلة ومتصلة، والمونتاج الحاد الذي يستخدمه في لقطات محورية يقطع فيها بين الخاص والعام، فيقطع مثلا في أحد المشاهد من يحيى الذي يصرخ غاضبا ومعترضا أمام مدير مدرسته الإنجليزي، وإلى مقاطع أرشيفية من الحرب تنطلق فيها الدبابات وتطلق المدافع قذائفها؛ كل هذا إلى جانب المقاطع الكثيرة المنتشرة على طوال الفيلم من أرشيف "الصحيفة المرئية"* (newsreel)، التي نقلت أخبارا ومشاهد من الحرب العالمية الثانية ومعركة العالمين في الإسكندرية لتعطي الأحداث سياقها الزمني.

   

أفلام الهزيمة

شاهين لم يقصر أفلامه على ذاته، فقبل أن يصنع رباعية الإسكندرية التي شرح فيها تلك الذات، توجه إلى كيان أضخم بكثير. كان هذا الكيان هو الوطن؛ ذاك الوطن الذي أعطاه وأعطى أبناء جيله مذاقا سريعا وحلوا للأمل، ثم لم يلبث أن استرده وظل يجرّعهم بدلا منه علقم الخيبة والهزيمة. ومن ثم فقد هوت سريعا الآمال العالية التي جسدها شاهين في "الناصر صلاح الدين"، والذي كان أكثر شبها بعبد الناصر من صلاح الدين التاريخي، لتأتي بعدها ببضعة أعوام ثلاثية الهزيمة: "الاختيار"، "العصفور"، "عودة الابن الضال".
    

ولا يبتعد شاهين هنا كثيرا عن المزج بين السياقات؛ فبالإضافة إلى قطعه بين سياق الشخصيات الخاص والوضع العام للبلد، يدمج أيضا بين سياق فساد الحكومة الخفي الذي يظل يتراكم في الكواليس لينفجر أخيرا في سياق هزيمة يونيو/حزيران 1967.

     

  

يظهر هذا بوضوح في اللحظات الأولى من فيلم "العصفور"، حيث تنطلق أغنية "مصر يا أما يا بهية" الشهيرة للشيخ إمام في الخلفية وتظهر في الصورة عناوين الصحف التي يتتابع فيها استعدادات مصر للحرب قبل يونيو/حزيران 67، وقضية فساد تتبعها الشخصيات في الفيلم. ويحدث التوازي بين سياق الفساد الحكومي وبين سياق الهزيمة على مُستوى الشخصيات أيضا، فاختار شاهين لإحداها أن يكون شرطيا مسؤولا عن الإمساك بأبي الخضر، المجرم الهارب والمتهم بالسرقة من القطاع العام، ولأخيه أن يكون جنديا يقف على الحدود في سيناء.

   

أما الهزيمة العسكرية، فتأتي إرهاصاتها في سياق الفساد الداخلي أولا، فيحارب إبراهيم الصحفي المعارض ليكشف للجميع أن أبا الخضر هذا ليس سوى آخر حلقة في سلسلة طويلة من سرقة أصحاب السلطة أنفسهم من القطاع العام لتصب الأرباح في جيوبهم الشخصية؛ وعندما يُواجَه إبراهيم بالتهديد والحبس وكتاباته بقرارات عدم النشر، يظهر بوضوح أن ضعف البلد قد جاء نتيجة للفساد الذي أخذ ينخر في مفاصلها وأن الهزيمة جاءت من الداخل قبل أن تأتي من الخارج.

    

  

فيما يرتبط بالنصر، فلم يأت من هيكل الحكومة العاجز أو حتى من فوق هرم سلطتها، بل من أسفل تماما، حيث الجموع والجماهير التي رفضت أن تستسلم عندما استسلم قائدها وتنحى، حيث "بهية" في الفيلم التي انطلقت في الشوارع تصرخ كالممسوسة "هنحارب"، مقاومة الهزيمة في إصرار وغضب وتحدٍّ. والجدير بالذكر أن فيلم "العصفور" أُنتج عام 1972، قبل عام واحد من حرب أكتوبر/تشرين الأول التي تحققت فيها رغبة بهية أخيرا في حرب جاء النصر فيها من نصيب مصر. أما الأغنية الأشهر التي أُذيعت بعد النصر، "رايحين شايلين في إيدنا سلاح"، فقد لحنها علي إسماعيل قبل الحرب بعام كامل لتكون في الأصل ضمن الموسيقى التصويرية لفيلم "العصفور" في التحام بليغ بين الفن والواقع. (3)

   

لكن تلك الروح المتوثبة للتحدي والمليئة بالأمل تخفت كثيرا في "عودة الابن الضال"، آخر أفلام الثلاثية وأكثرها قتامة. وفيه يتصارع جيلان وعدة أطياف من الماضي؛ جيل "طُلبة" الصارم والظالم الذي يأبى أن يستمع لأحد ولا يهمه سوى أن تبقى الآلات في مصنعه تدور، وجيل "إبراهيم" ابنه الذي يحلم بالسفر للفضاء ولمس القمر. وربما لا تظهر الهوة السحيقة بين الجيلين وسمو آمال واحد بجانب فجاجة طموحات الآخر في حوار أفضل من الحوار الذي يدور بين إبراهيم وأبيه عند ظهور نتيجة الثانوية العامة وحصول الابن على مجموع عال.

      

undefined

  

يقول الأب: "المعهد البيطري اللي جنبينا بيقبل من ستين في المية"، ليرد عليه الابن: "مينفعش. أنا هدرس بره، هدرس علم الفضاء، هتخصص في جيولوجيا القمر". ويأتي كلام الأب لا مباليا بما سمع، فيرد: "الزريبة اللي عندنا هنوسعها، وهنجيب أنواع جديدة وأنت اللي هتمسك ده كله. ودي رغبتي، يعني رغبتك أنت كمان".

 

يظل إبراهيم من بعدها، مثله كبقية أهالي القرية، ينتظر عودة "علي" أخو "طُلبة" الغائب منذ اثني عشر عاما ليأتي ويخلصه من ظلم أبيه. الكل ينتظر لأسباب مختلفة، لكن تبقى الآمال كلها متعلقة به. لا نعرف حقا الكثير عن علي سوى أنه كان شخصا عادلا وطموحا يساعد الجميع، ثم ترك القرية إلى المدينة ولم يسمع عنه أحد من بعدها شيئا.

     

  

يعود علي أخيرا، يعود بعد أن كسرته المدينة وغيرته وجعلته لا يختلف عن طُلبة في الشيء الكثير. تتهاوى الأحلام بعدها ويكتشف الجميع زيف أمانيه. يؤمن الجيل الجديد، جيل إبراهيم وحبيبته تفيدة، أن الخلاص لن يأتي على يد طيف غائب، أن المستقبل ملك لأولئك الذين يهربون من وحل القرية الظالمة إلى مكان أكثر رحابة. تأتي النهاية بسفر الجيل الأصغر للإسكندرية، مدينة الأمل والحلم عند شاهين، وقتل طُلبة وعلي بعضهم بعضا ليموت الماضي بقهره وظلمه ووعوده الكاذبة وبريقه الخادع. قرب النهاية، تقف تفيدة تغني، تشدو من كلمات صلاح جاهين وكل جيل الحلم والنكسة:

        
"آدي اللي كان، وآدي القدر وآدي المصير

نودع الماضي وحلمه الكبير

نودع الأفراح.. نودع الأشجان

راح اللي راح ومعدش فاضل كتير

إيه العمل دي الوقت يا صديق

غير إننا عند افتراق الطريق

نبص قدامنا، ع شمس أحلامنا

نلقاها بتشق السحاب العميق"

    

رحل الماضي ولا بد أن نضعه وراءنا إذن، وحلّت الألفية الجديدة بتفسخ وفساد كل ما كان. هبّت ثورة بريئة وقصيرة بعدها، لكن سرعان ما حلّ بجيلها هزيمته الخاصة. وبعد بعض المقاومة التي لم يسفر عنها سوى انسحاق تام، ابتلع المهزومون خسارتهم بلا صخب أو ضجيج، لتبقى ثورتهم وهزيمتهم دون أن يظهر بينهم يوسف شاهين آخر يؤرخ في السينما لها؛ فالسينما الآن، مثلها ككل شيء آخر، خاوية وقبيحة.