شعار قسم ميدان

جيت أوت.. هل فكرت يوما أن يتحكم بجسدك آخرون؟

midan - get out

وصل كريس وروز إلى تلك المرحلة في علاقتهما التي صار يجب فيها أن يقابلا أهل بعضهم بعضا. يبدأ الفيلم بكريس الذي يحزم أمتعته استعدادا لمبيته بضعة أيام في بيت عائلة روز، لكنه يشعر في هذا ببعض التوتر. فما لا تعرفه عائلة روز أن صديق ابنتهم البيضاء الجديد هو في الحقيقة أسود.

 

في فيلمه الأخير، "Get Out"، يطرح المُخرج والمؤلف جوردن بيل خواطره وهواجسه الشخصية حيال وضع الأميركيين من أصل أفريقي في الولايات المُتحدة. يمتزج السياسي في تلك الهواجس بالاجتماعي لينسجا معا حبكة الفيلم التي تأتي في إطار الرعب. لكنك لن تحتاج إلى أن تكون أميركيا أو أسود لتشعر بالخوف عند مُشاهدتك الفيلم، فعُنصر الرُعب في هذا الفيلم لا يعتمد على أي موروث عرقي أو ثقافي، بل يعتمد على خوف إنساني أصيل: خوف أن يُسيطر عليك آخر أقوى منك ويسلبك قدرة التحكم في جسدك. يقدم جوردن بيل هذا الرعب الإنساني في مجاز قصصي، توّد فيه عائلة روز الاستيلاء على جسد كريس الذي يصيبونه بالشلل عن طريق التنويم المغناطيسي، ليضعوا فيه بعدها مُخ رجل أبيض سيصير هو المالك الفعلي للجسد بينما يتوارى وجود كريس للهامش.

  

ويمكننا أن نفهم ذلك المجاز على مُستويات عدّة، منها الوضع السياسي والاجتماعي المُلتبس لأصحاب البشرة السوداء في الولايات المُتحدة الأميركية الذي يحاول بيل أن يُبيّن عبر فيلمه أنه ما زال مُسيرا من قِبل العنصرية، ومنها المعنى الإنساني الأوسع الذي يطرح الانسحاق التام الذي يشعر به المقهورون عندما يسلبهم الجُناة السيطرة على أجسادهم.

    

    

عُنصرية ترتدي قناع الحداثة

لفّ الضباب المشهد السياسي في الولايات المُتحدّة الأميركية فقد الكثير معه القدرة على تحليل ما يحدث. فبعد أن تولى الرئاسة لثماني سنوات أول رئيس من أصل أفريقي، بدأت صيحات التفاؤل تصدح في الأفق بأن أخيرا ولّى زمن العنصرية والتمييز، بأننا نطأ عتبات عهد جديد لا وجود فيه للتفرقة بين أبيض وأسود. لكن سرعان ما انقلبت الآية لتجد تلك الجموع المُستبشرة نفسها أمام واحد من أكثر الأشخاص عُنصرية يحلّ ساكنا جديدا على البيت الأبيض.

  

لكن جوردن بيل لم يكن من أولئك الذين شعروا بالارتباك تجاه ذلك الانقلاب المفاجئ. فلم يكن بيل يرى من الأساس في تَغيُّر سياسي كتولّي باراك أوباما الرئاسة سببا كافيا لتتغير معه رؤى الناس حيال العرق والعنصرية. فحتى في أزهى عهود الاحتفاء بأصحاب البشرة السوداء، رأى هو تحت هذا الاحتفاء طبقات عميقة من العنصرية لا تزال ترقد. تلك الطبقات هي ما وضعها تحت عدسة كاميرته ليُريها للناس كما رآها: مُجرد نوع آخر مُختلف قليلا من العُنصرية. (1)

  

فالمُبالغة بالاحتفاء بك بسبب لون بشرتك لا يختلف كثيرا عن ازدرائك للسبب نفسه، ففي الحالتين تتم مُعاملتك طبقا لشيء بيولوجي بحت لا يد لك فيه، وهو ما يخفي بداخله نظرة لك تخلو من الإنسانية وتجنح للتشييء. تصبح مُجرد "شيء" من صفاته أن بشرته سوداء، ومن مزايا تلك البشرة أنها ستُضفي على طبقة المُحتفين مظهرا من الحداثة والتَفتُّح عند مُبالغتهم في الحديث عن عظمة أصحابها. (2)

      

undefined

    

وهذا ما نراه بشكل واضح في كثير من مشاهد الفيلم التي يثرثر فيها البيض عن انبهارهم ببعض الرياضيين السود كالعدّاء جيسي أوينز الذي "لقنّ هتلر العنصري درسا لن ينساه" على حد قول والد روز، ولاعب الجولف تايجر وودز الذي يتحدث عجوز أبيض عن عظمته بشكل يُبطن بعض الغيرة. في تلك المشاهد، يعلو الارتباك وجه كريس، الذي نرى عبر تعبيراته شعورا جليا بعدم الارتياح وسؤال تطرحه قسماته وهو: "لماذا يصر أولئك الأشخاص على اختزالي لمُجرد شخص أسود؟". وفي احتفاء البيض في الفيلم بالرياضيين بالذات من السود لمحة ذكية من بيل عن نظرة أولئك الأشخاص لذوي البشرة السوداء كمُجرد أجساد قوية، وهو ما يتضح أكثر بشكل واضح بتقدُّم الأحداث. (3)

 

رعب ألا تمتلك جسدك

تأتي أكثر المشاهد رُعبا في الفيلم عندما تُنوّم أم روز كريس وتسلبه في هذا قدرته على الحركة. ندخل إلى عقل كريس حينها ونراه يهوي في فضاء أسود تتباعد فيه رؤيته للواقع ليصير مُجرد ظلال بعيدة تتساقط من سطح عالم مُختلف. ما زال إدراك كريس بذاك العالم موجودا، لكنه فقد قدرته على التحكم في جسده فيه أو التفاعل معه. يزيح هذا وجود كريس للهامش، فقد فَقَدَ السيطرة الفعلية على جسده الذي صار الآن مِلكا لوالدة روز، وهنا يكمن الرُعب الحقيقي.

   

ففي تهاوي كل الدفاعات الأخرى، يقف الجسد كخط فاصل أخير بين الجاني والضحية. لكن عندما يسيطر الأول القوي على جسد الآخر الضعيف، يعلن ها هنا هيمنة كاملة عليه، يتوارى بعدها وجود الضحية لكواليس وعيه بحيث يصير مجرد طيف يعي ما يحدث حوله دون أن يملك فعل شيء. (4)

  

وبالنظر إلى الواقع الفعلي للعالم، سندرك أن ما يطرحه المخرج والمؤلف جوردن بيل في مجاز سيطرة الجاني -الأبيض- على جسد الضحية -الأسود- في فيلم "Get Out"، أبعد ما يكون عن خصوصية ثقافية تقف حدودها عند الشعب الأميركي وحده، فالأمر مُتكرر الحدوث عبر التاريخ وفي مختلف الثقافات بأشكال كثيرة قد تختلف فيما بينها لكنها تحتفظ بجوهر واحد وهو سيطرة الجاني المُنتصر على جسد الضحية المغلوب.

   

undefined

   

قد نجد لهذا أمثلة كثيرة في البُعد الاجتماعي مُتمثلا فيما تمارسه مختلف المجتمعات الذكورية من سيطرة على جسد الأنثى، والذي يتخذ أشكالا عدّة منها إرغامها على الزواج -وبالتالي ممارسة الجنس الذي تتبدى فيه أكبر أشكال السيطرة- في سِنّ صغيرة أو من شخص لا ترضاه، أو في شكل البطش الاجتماعي الأبسط المُتمثل في التحرش الجسدي بها وما يعنيه هذا من خضوع جسدها لتحكم آخر غريب قد يشلّها الرعب أثناءه عن الحركة ويمنعها عن اتخاذ أي موقف، تماما كما يحدث لكريس عندما يُنومه البيض ويسلبونه القدرة على الهرب، أو قد يتعدى الأمر هذا ويصل إلى حد الاغتصاب المُباشر والذي لا داعي لذكر ما هو معروف بداهة من شعور الضحية هنا بالانسحاق الكامل تحت سيطرة مُغتصبها.

  

أو قد يتخذ هذا بُعدا سياسيا ينعكس أكثر ما ينعكس على أجساد المقهورين مما نراه من علامات طُغيان الأنظمة التي تترك آثارها على أجسام ضحاياها في هيئة عُنف جسدي تُمارسه على معارضيها. والأمثلة على هذا كثيرة ومتشعبة وقديمة قدم التاريخ نفسه، ربما من أفضلها ما رواه "خالد فهمي" في كتابه "كل رجال الباشا" عن محمد علي ولجوئه إلى العقاب الجسدي المُفرِط في قسوته في مشاهد علنيّة لإرساء دعائم سيطرته في أذهان الجميع.

   

يكتب خالد فهمي عن هذا ويقول: "إن منطق العقوبات العلنية ومشهدها الاستعراضي لم تُملِه فقط الحاجة إلى إخضاع المشاهدين بإرهابهم، ولا الحاجة إلى تحقيق رابطة بين الجريمة والعقاب، ولكن أملاه أيضا هدف تذكيرهم بالهوة التي تفصل جسم المُذنب الهامشي المُعرض للتدمير عن الجسد المُقدس المركزي للعاهل. ولهذا السبب قال فوكو بأن العقوبات الاستعراضية العامة يجب أن تُعتبر طرفا واحدا من طرفي مُعادلة شعائر السُلطة، أما الجانب الآخر فيتكون من الشعائر التي يستعرض فيها العاهل مجده العظيم مُجسدا في جسمه هو أمام رعاياه، مثل احتفالات التتويج وإخضاع الرعايا المُتمردين ودخول المُدن المفتوحة، إلخ. وكان محمد علي واعيا بالسلطة التي تمتلكها هذه الشعائر، فالكثير من العقوبات الاستعراضية التي كانت تجري في شوارع وميادين القاهرة كان يرجع إلى تأكيد أن جسم محمد علي هو القانون، وبالتالي مركزية هذا الجسم وضرورته للحفاظ على النظام في عالمه، وأن جسم المُجرم بالمقابل يجب أن يُستخدَم في تذكير الناس ليس فقط بوفرته وهامشيته ولكن أيضا بالأهمية المركزية لجسم محمد علي".(5)

  

وبخلاف سيطرة الأنظمة السياسية المُستبدة على أجساد مُعارضيها، نرى الشكل الأبشع لإخضاع جسد المغلوب مُنعكسا في ضحايا الحروب من مدنيين. فقد حفرت حرب فيتنام نفسها في الذاكرة الجمعية للعالم في صورة الطفلة الصغيرة التي تجري عارية هربا من الجنود بعد أن أُصيبت بالنيران التي أحرقت جلدها بالكامل، وربما ستحفر حرب اليمن أيضا نفسها في ذاكرتنا بالعقود القليلة القادمة في صورة الأجساد الهزيلة للأطفال الراقدين في الأسرّة بين الحياة والموت بعد أن سرق الطاعون من جسمهم صحته ومنع عنهم طُغيان الحُكّام العلاج.

  

في كل الحالات السابقة يختزل الجاني جسد الضحية لأداة يبرز عبرها سيطرته وتفوقه. وربما هنا بالذات يكمن ذكاء مُخرج الفيلم ومؤلفه جوردن بيل، فقد استعاض عن أشكال السيطرة الحرفية التي قد يمارسها البيض على أجساد السود في الماضي والحاضر -من سُخرة وعبودية جنسية وتعذيب مُتمثل في الصورة الذهنية التقليدية للسياط التي تنهال على الجسد الأسود في العصور السابقة، للتمييز العنصري مُتعدد الأشكال الذي يقع عليهم حاليا- بمستوى آخر رمزي يُبرز عبره شعور الضحية المُنوّمة بالعجز والهيمنة التي يملكها الجاني عليه في مرحلة التهيئة للعملية، لسحق كيان الضحية بالكامل وتحويلها إلى مجرد شبح يعي ما حوله ويعجز عن أن يفعل حياله شيئا بعد الانتهاء من نقل الجسد. في هذا الشكل الرمزي الواسع، استطاع بيل أن يحوي شعور كل المقهورين الخانق بالعجز عن السيطرة عن اللحظة الراهنة أو المصير أو حتى الجسد، دون أن يحد هذا بشكل واحد من أشكال القهر، ما يحرر ما يريد قوله من قيود ثقافة أو مكان أو زمان بعينه، ويخلق من رمزيته المُرعبة شهقة خوف تتردد في صدر كل مُتلقٍّ بغض النظر عن خلفيته.

    

undefined

    

أدوات لا بشر

يُكرّس بيل بصريا لثنائية الضحية والجاني وما يمثله كُلٌّ منهما من شعور بقلة الحيلة في حالة الأول وهيمنة كاملة في حالة الثاني مُنذ بداية الفيلم. فيكشف الحوار اختزال الفئة المُهيمنة، المُتمثلة هنا في عائلة روز وجيرانها من البيض، الآخر المُستضعف، المُتمثل هنا في كريس وغيره من السود، لمُجرد أجساد ينبهرون بها تارة ويريدون استغلالها تارة، في ظل غياب تام لأي مُعاملة عادية لأصحاب تلك الأجساد كبشر لا كمجرد أدوات.

 

فتدهس روز التي تقود السيارة في الطريق لمنزل أبويها غزالا وتتركه يموت على قارعة الطريق. وعندما يترجل كريس من السيارة ليتفقد الغزال، تتحرك الكاميرا من عينه لعين الحيوان الجريح ناقلة ما يتردد في كليهما من شعور بالعجز. تصبح تلك الحادثة من أول الأشياء التي يدور حولها الحوار عندما يصل الثنائي إلى منزل العائلة. ويفصح حينها والد روز عن كراهيته للغزلان ورغبته لو تُباد كلها، لنرى بعدها على الحائط رأس غزال مُحنط، في إشارة واضحة إلى الهيمنة على جسد الغزال وما يرمز إليه عادة من براءة ووداعة وتحويله إلى أداة زينة تُبرز للرائي القوة والسيطرة التي يمتلكها صاحب البيت.

  

وفي التجمع الذي تقيمه عائلة روز ويدعون إليه كل جيران الحي، نرى كل المدعوين يصلون في سيارات سوداء ويرتدي معظمهم ثيابا سوداء في إشارة إلى انبهارهم بلون الجسد الأسود يفصح عنه بعدها حديثهم مع كريس الذي يقولون له فيه أشياء من نوع: "ما شعورك كشخص أسود؟"، "الأسود هو الموضة تلك الأيام!"، ويصل الأمر إلى ذروته عندما تقترب منه امرأة تتفقد قوة ذراعه ثم تسأل روز إن كان الرجال السود حقا أفضل جنسيا.

  

في ذلك المشهد، وقبل أن نصل إلى التصاعد المُرعب الذي يكتشف فيه كريس أن عائلة روز تود الاستيلاء على جسده، نجدنا أمام رُعب مُصغّر مُتمثِّل في الشعور الجارف بالخوف والاغتراب حيال الوقوف وحيدا وسط جمع ضخم من أفراد الآخر الأقوى والأكثر سيطرة. وهذا الشعور لا يتوقف فقط على الشخص الأسود وسط البيض، بل هو خوف يحفظه أي فرد في أقلية أو فئة مغلوبة عن ظهر قلب.

  

استطاع جوردن بيل أن يلعب ببراعة على وتر المخاوف الإنسانية من الهزيمة المُتمثلة في احتلال الجسد ممزوجة بما يعنيه هذا بشكل خاص لأبناء عرقه من السود الأميركيين الذين عانوا من هذا بشكل صريح لقرون، وبشكل أكثر خفاء في السنوات القليلة الماضية. وقد نجح أيضا في وضع تلك الإسقاطات والهواجس في إطار فيلم رعب ممتع تتخلله من آنٍ لآخر لحظات فكاهة مرحة تخفف من وطأة ما يطرحه وتُنقذه من الانغماس التام في سوداوية ثقيلة. وبهذا، استطاع تحقيق المُعادلة الصعبة بأن نال نجاحا جماهيريا كبيرا ترجمته إيراداته التي تخطت حاجز الـ 200 مليون دولار، وفي الوقت ذاته حظي باحتفاء نقدي واسع جعل البعض يمنحه لقب "أفضل فيلم في 2017"(6)، وسط تكهنات بأن ينال نصيبا جيدا في ترشيحات الأوسكار القادمة. (7)

    

undefined