شعار قسم ميدان

fullmetal alchemist: brotherhood.. التضحية كوسيلة لتجاوز الذات

midan - رئيسية انيمي
استمع للتقرير

 

لم تفارق رؤى الخلق البشر منذ الأزل. ففي أسطورة "بيجماليون" التي وصلت إلينا عبر الشاعر الروماني أوفيد منذ ما يزيد على ألفي عام، يقع النحّات البارع بيجماليون في حب تمثال صنعه لامرأة باهرة الجمال، يفوق حسنها كل النساء التي رأتها عينه. وعندما يدعو "الربّة" أفروديت في عيدها على استحياء أن تبث الروح في منحوتته، ثم يعود لبيته ليقبلها، يجد الحجارة قد استحالت لحما ودما وبرودة العاج قد سرى فيها دفء الحياة. يتحرك خطوة للخلف مبهوتا ليرى التمثال الذي صنعته يداه وقد استحال امرأة تتنفس.(1)

   

لكن حلم الخلق ذاك لم يبق على عذوبته طويلا، فمع ذهاب عهود الأساطير إلى غير رجعة، ومجيء عهد العلم والآلة، هُيّئ لفيكتور فرانكشتاين، طالب الأحياء وبطل رواية ماري شيلي "فرانكشتاين"، أن سر الحياة قد صار قاب قوسين أو أدنى منّا نحن البشر وأن الخلق بعدها لن يصبح بالشيء العسير. يتبع فكرته المجنونة في مختبره ويحاول أن يبعث عبر التفاعلات الكيميائية والبيولوجية الحياة في كتل مُصمتة من المادة. لكن ما تصنعه يداه في النهاية يبتعد كثيرا عن رؤاه الوردية، فتُخلّف تجاربه وحشا مخيفا قبيح الهيئة يبعث الرعب في نفس كل من يراه. (2)

    

   

لم يَقِلّ المخلوق الذي خلّفته تجربة الأخوين إدوارد وألفونس بطلا مسلسل الأنيمي "الخيميائي الفولاذي" (Fullmetal Alchemist) قبحا عن مخلوق فرانكنشتاين. لكن بينما كان يحاول فرانكنشتاين أن يخلق شيئا من العدم إشباعا لفضوله البحثي، لم يرد إدوارد وألفونس، اللذان لم يكونا قد تخطيا بعد طور الطفولة، من تجربتهما سوى أن يبعثا مجددا بوالدتهما التي ماتت عنهما إلى الحياة؛ لم يريدا أكثر من أن يروها تبتسم مرة أخرى وتمسك بيديهما الصغيرتين من جديد. لكن عوضا عن كل هذا، فشلت التجربة، وانفتحت بوابات الحقيقة الجهنمية من دونهما، لتسلب إدوارد ساقه، وألفونس جسده بأكمله. يهرع إدوارد لينقذ أخاه، فيعقد مع الحقيقة صفقة يضحي على إثرها بذراعه لقاء أن تعود روح ألفونس مرة أخرى لعالمنا، ويربطها إدوارد بدرع من حديد. بجسد نصف أطرافه مبتورة وآخر صناعي لا يشعر ببرد أو دفء، ينطلق الأخوان في رحلة لاستعادة هيئتهما السابقة مجددا عبر الخيمياء. وفي الطريق، تتبدى ملامح الصراع الأكبر الذين يخوضانه والذي يتخطى مجرد كونه صراعا بين أفراد.

    

ما بين إدوارد والأب

قد يكون خطأ "إدوارد إلريك" التراجيدي هو ظنه عند نقطة ما أنه يستطيع إعادة ترتيب المكونات المادية المصنوع منها الجسد البشري عن طريق الخيمياء لتصير إنسانا حيًّا يربطه بروح أمه الراحلة. وبالفعل، فالقدرات التي نراها للخيمياء في الحلقات الأولى حقا باهرة، فهي علم يستطيع تفكيك وإعادة تركيب أي من المواد لأي من الأشكال. لكن إدوارد يعلم منذ اللحظة الأولى أنه يحط بقدميه في أرض وعرة، فمحاولة الخلق هي أكبر محذور لعلم الخيمياء.

  

وبالرغم من هذا، فبسبب نيّاته الطيبة للغاية، لا أحد يستطيع أن يلوم إدوارد حقا على ما فعل. هو إذن أقرب شيء للبطل التراجيدي، ذاك الذي يقوده مزيج من الجهل والطموح اللامحدود إلى مصير مؤلم؛ تماما مثل إيكاروس الذي شبّه إدوارد نفسه به في إحدى الحلقات، الإغريقي الذي صنع لنفسه أجنحة من ريش وشمع وطار عاليا في قلب السماء، وعندما اقترب من الشمس، أذابت أجنحته وحطت به في جوف البحر. على النقيض تماما منه يقف "الأب"، الشرير الرئيسي طوال أحداث المسلسل.

  

في كتابه الشهير "القصة" يقول روبرت مكّي: "لن ترقى شخصية البطل وقصته لتكون باهرة فكريا ومؤثرة عاطفيا سوى بشدة الصّعاب التي يواجهها من قِبل العدو". (3) وهو بالفعل ما نجده على مدار أحداث "الخيميائي الفولاذي"، فتساهم قوى الأب الخارقة وشروره في صقل شخصية إدوارد ونحت مساره؛ كما يقف "الأب" وأعوانه بطموحاتهم وأطماعهم على النقيض تماما من إدوارد وألفونس وأصدقائهما وما يسعون إليه، ليخلق المسلسل عبر وضع هذين الفريقين المختلفين في كل شيء جنبا إلى جنب حالة من الطباق تساهم في إبراز ما يمثله كل منهما.

    

undefined

   

يطل هذا التناقض الشديد برأسه منذ البداية. فبينما بعث بإدوارد لهذا المصير رغبته في بث الحياة فيما هو ليس حيًّا، فما يحرك الأب ويمده بقوته هو سلبه للحياة من الأحياء وتركيزها في مادة مُصمتة تسمى "حجر الفيلسوف" تعطيه وأعوانه قواهم الخارقة. فقد جاء الأب للحياة قبل أربعمئة عام من بداية الأحداث وظل في هيئة مادة هُلامية محبوسة داخل إناء زجاجي، ولم يهرب منه ويمتلك جسدا سوى بسلب أهل بلد كامل أرواحهم وتركيزها في حجرين، واحد احتفظ به لنفسه وصنع من خلاله جسدا، والآخر أعطاه لعبد العالِم الذي اخترعه وأمدّه بالحياة الأبدية.

 

تتقاطع طرق الأب وإدوارد مبكرا، فإدوارد في بحثه عمّا يستطيع أن يُرجِع له ولأخيه أجسادهم يتعرف على مفهوم حجر الفيلسوف ويتحرك في السعي للوصول إلى أحد تلك الأحجار. لكنه عندما يكتشف أن المُكوّن الأساسي لتلك الأحجار هي الأرواح البشرية، يتراجع في ذعر ويقسم ألا يستخدم أبدا شيئا ملعونا هكذا في الوصول إلى ما يريد.

 

وهنا، يظهر تناقض آخر بين إدوارد والأب، فإدوارد رغم رغبته في هدف إنساني بسيط جدا هو أن يمتلك هو وأخوه أجسادا طبيعية، يأنف أن يستخدم شيئا أُزهقت أرواح الآخرين لصناعته. أما الأب، فبسبب طمعه الذي لا حدود له للوصول إلى أقصى حد ممكن من القوة، لا يرى في البشر سوى عتبات يخطو فوقها بكل أريحية حتى يصل إلى طموحه الدموي.

 

نجد في موقفي إدوارد والأب تمثيلا لموقفين أخلاقيين معروفين بين الفلاسفة، فموقف إدوارد هو تمثل لفلسفة كانط التي تقول: "عش حياتك كما لو أن كل تصرف من تصرفاتك سيصبح قانونا عالميا". (4) أما موقف الأب فيقف كمزيج ما بين الفلسفة البراجماتية والداروينية الاجتماعية في أكثر تجلياتهما برودة وبُعدا عن الإنسانية، فغاية الأب في الحصول على القوى المطلقة تبرر وسيلته في إزهاق ملايين الأرواح للوصول إليها، ورؤيته للبشر مجرد أشكال من الحياة أقل تطورا لا مانع في سحقها لخلق الشكل الأكثر تطورا يبعث في الذهن بالمقولة التي خلّفت رعبا لا نهائيا في عصور الإمبريالية والحرب العالمية الثانية عندما تم تطبيقها بالفعل على البشر: "البقاء للأصلح".

   

    

لا يُبقي المسلسل تلك الصلة خفية، بل تتردد تلك الجملة الأخيرة على لسان أكثر من شخصية في معسكر أعوان الأب على مدار الأحداث.

 

ما يُحرّك الأب إذن هو منطق حسابي بارد وبحت، يرى في كل روح مجرد رقم يضيفه حتى يحقق معادلة القوة اللامحدودة لنفسه، في كل نفس قطرات إضافية من الطاقة التي ستمده بما يسعى إليه. وتماديا منه في التخلص من كل ما هو إنساني، جرّد الأب نفسه من كل من الخطايا السبعة المتمثلة في الشهوة والحقد والطمع والغضب والشره والكسل والغرور، وركّزها في كائنات جعلها خالدة مثله اسمها الهيومنكالي واتخذ منهم أعوانه الأساسيين.

 

كما نجد هذا الفرق في تقدير النفس الإنسانية منعكسا في تصرفات كلٍّ من الفريقين؛ فإدوارد يحرص في كل معاركه حتى المميت منها على ألا يُزهق روح الخصم، أما الأب وأعوانه فلا يبالون حقا بالتخلص حتى من أتباعهم إذا وجدوا أنه صار عبئا عليهم. وهكذا، فبالتدريج يفقد الجانب الآخر، حتى البشر منهم، إنسانيتهم، ويتصرفون أكثر وأكثر كآلات قتل، وهو ما نجده بوضوح في كلمات أحدهم عندما اتُّهم بالدموية: "عندما تسير ويمر بعض النمل على الأرض، فهل تقف حتى وتفكر إذا ما كنت ستدهسه أم لا؟".

 

يضع إدوارد هدفه الشخصي جانبا عندما يكتشف مخطط الأب في تحويل أهالي البلد بأكملهم إلى حجر فيلسوف عملاق ويسعى لإيقافه، لكننا نعلم منذ اللحظة الأولى أن الصراع بين هذين الاثنين لن يكون متكافئا أبدا، فأحدهما يحد نفسه بعشرات الدوافع الأخلاقية وبتعاطف جياش نحو كل بني الإنسان، والآخر ليس إلا آلة دمار خالية من المشاعر ستسحق أي شيء للوصول إلى هدفها. الصراع إذن بين هذين الاثنين وفريقيهما ليس مجرد صراع بين أفراد، بل صراع بين رؤى وأفكار، فهل تنتصر قيم الخير والإيثار، أم أن الأنانية والمنفعة المطلقتين ستكون لهما اليد العُليا؟

 

الصراع بين المنطق البارد والتعاطف والتضحية

undefined

   

لا يقتصر الاختلاف بين إدوارد والأب على التنافر الفكري، بل يمتد إلى أساسات روحيهما. فيُمثّل أحدهما المنطق المجرد المُسلّح بالذكاء والمتجرد من العواطف، ويمثل الآخر الإنسانية في أحد أكثر تجلياتها حبا للآخرين واستعدادا للتضحية في كل لحظة في سبيل سعادة البقية. ينبع تعاطف إدوارد في الأساس من حساسيته التي تجعله يشعر في قلبه بكل ما يشعر به الآخر من آلام، وأنانية الأب في عجزه عن الشعور بأي شيء على الإطلاق. وبالرغم من أن ديكارت قد جعل من الفكر أساسا للوجود، فإن ميلان كونديرا كان له رأي آخر: "أنا أُفكر إذن أنا موجود هي مقولة مفكر يحط من شأن ألم الأسنان، أنا أشعر إذن أنا موجود هي حقيقة أعمّ وأشمل وتنطبق على كل ما هو حيّ". (5)

 

فالفكر المجرد هو ما يجعل الأب وأعوانه في رغبة مستمرة لزيادة مكاسبهم دون أي نوع من أنواع الخسائر، ويوقعهم في تناقض مع قانون التبادل المكافئ المؤسس لعلم الخيمياء والذي ينص على أنه إذا أردت أن تحصل على شيء، فعليك أن تدفع مقابله شيئا آخر مساويا له في القيمة. والأب يريد أن يحصل على كل شيء دون أن يدفع أي شيء، ما يجعله يتحايل على القانون ويصل إلى ما يريد بعد أن يدفع ضحاياه الثمن كاملا.

 

وعلى الرغم من أن حسابات الأرقام تقف في صف الأب لا محالة، فإن إدوارد وأصدقاءه يراهنون على ما يعجز الحساب عن سبر أغواره، على قوى الحب والإيثار. يدرك إدوارد تماما قانون التبادل المكافئ الذي تنص عليه الخيمياء، ما يجعله في كل وقت على أتم استعداد أن يضحّي بأي شيء في سبيل من يحبهم. نفس تلك الروح تحرك رفاقه، الذين يسعون دائما وأبدا لجعل هذا العالم مكانا أفضل.

 

التضحية إذن هي المحرك الأساسي لإدوارد ورفاقه، فبينما قد يبدو من الغريب أن يجعل أحدهم من البذل وليس الأخذ وسيلته للوصول إلى ما يريد، فإن هذا بالضبط ما تجعلنا ""، مؤلفة القصة، ندركه في النهاية. فبالعطاء وحده نستطيع أن نتجاوز ذواتنا ونصل إلى مرحلة جديدة من النضج يبدو فيها كل شيء ذا معنى أعمق.

    

undefined

   

وبهذا، تحقق شخصية إدوارد النضج الأكبر على مدار الأحداث، فبينما تظل شخصية الأب أسيرة لرغبتها في الحصول على أكبر قدر من المعرفة يمكن أن يحصل عليها بشر، فإنها تظل تبحث عن تلك المعرفة خارج حدود الذات كشيء مجرد يمكن الاستيلاء عليه من الآخرين، حيث سبق وفرّغ الأب نفسه من كل خطايا البشر، ما جعل ذاته مجوفة وفارغة لا سبيل لصقلها بالصراعات الداخلية. ولهذا، فإنه بالرغم من سنوات وجوده التي تخطت الأربعمئة، وبالرغم من وصوله إلى ما يريد عند نقطة ما، فإنه لم يحقق أي تطور عمّا كان عليه منذ البداية، وتظل المعرفة التي يحصل عليها فارغة مصمتة لا فائدة منها، وهو ما يؤدي إلى هزيمته في النهاية.

 

نفس ذلك المعنى نجده مترددا في كلمات الحقيقة للأب بعد هزيمته النهائية: "أنت لم تؤمن يوما بنفسك، وأخذت تسرق قواك من الآخرين وتتمرد على أصلك البشري. هل ظننت حقا أنك ستصبح أفضل من البشر بتخلصك من الخطايا السبعة؟ لا تجعلني أضحك!".

 

ظل الأب رافضا للبذل فلم يحقق التجاوز. وعلى الجانب الآخر، فإدوارد وسائر شخصيات العمل لا يحققون ما يريدون سوى بالتضحية بشيء مهم بالنسبة إليهم، ولا يصلون إلى مرحلة أفضل سوى بتقبّل ذواتهم الحافلة بالعيوب لا محالة كونهم بشرا، أو كما يقول إدوارد: "درس بلا ألم هو درس بلا معنى، فإنك لا تستطيع أن تجني أي شيء دون التضحية بشيء آخر في المقابل، لكنك متى تجاوزت ذلك ووصلت إلى ما تريد، ستكتسب قلبا قويا، قلبا من فولاذ".