شعار قسم ميدان

توم كروز.. البطل الأسطوري للمهام المستحيلة

أول فيلم سينمائي في الفضاء بطولة توم كروز

اعتقد الإغريق أن البطل هو كائن خارق للطبيعة متصل بالآلهة ويستمد منها قوته، وكانوا يعتقدوا أيضا أن البطل هو شفيع بقية البشر العاديين عند الآلهة، لذلك لا تخلو الميثولوجيا الإغريقية من أساطير الأبطال الخارقين الذين يحاربون الشر، والوحوش، والآلهة أحيانا[1]. والعالم الإبداعي لا ينفصل بحال عن عالم الأساطير، فهو المنبع الذي يستمد منه خياله ويسعى لتطويره ومعالجته في واقع مختلف. يقول الكاتب الفرنسي يير برونيل: "لا وجود للأسطورة الأدبية دون تقمص يحييها في عصر تكون قادرة فيه على التعبير الأفضل عن مشاكله".[2]

 

          

من هو إيثن هانت؟

لا تقتصر معرفتنا بالبطل الدرامي أو الأسطوري على بطولاته فحسب، فأسطورة أي بطل تبدأ بظروف ميلاده والتي غالبا ما تكون استثنائية، وكذلك أبطال السِّير الشعبية وحتى قصص الأبطال الخارقين في عالم "DC" أو مارفل مثل سوبر مان وسبايدر مان وغيرهم، لا بد أن تبدأ بميلاد البطل مرورا بحياته كاملة، أو على الأقل تحمل معلومات نستطيع منها أن نعرف من هو هذا البطل الذي سنتورط في بطولاته، وما حكايته؟ لكن معلوماتنا عن "إيثن هانت" بطل سلسلة أفلام "Mission: Impossible" مختلفة، فهي قليلة جدا لحد أننا بعد 22 عاما وعلى مدار 6 أجزاء من السلسلة سنجد أننا لا نعرف عنه شيئا، وهذا يختلف عن السمات التي تميز أي بطل والتي تعتبر جزءا من رسم شخصيته.

 

في الجزء الأول من السلسلة نتعرف على إيثن هانت كجاسوس تابع لوكالة استخبارات يعمل بالتحديد في قسم العمليات المستحيلة "IMF"، شاب من مواليد 18 أغسطس/آب 1964، التحق بالجيش الأميركي ثم عُيّن في وكالة "IMF"، مما يعطينا ملمحا أنه شاب لا يملك حياة اجتماعية خاصة، فأصبح رئيسه "جيم فيلبس" بمنزلة أب له، وزملاؤه في وحدة المهام المستحيلة -تحديدا لوثر وبينجي- هم أصدقاءه الذين يقضي وقته معهم، فنحن لا نرى أحدا من معارفه خارج عمله، مما يعني أنه بلا حياة في الخارج. يقول المسرحي الأميركي آرثر ميلر إن "الشعور التراجيدي يتولد بداخلنا عندما نجد أنفسنا في موقع شخصية على استعداد للتضحية بروحها"[3]، ذلك لأنه بشكل أو بآخر يُذكّر الفرد منا بصراعاته الحياتية، فيتحول انتصار البطل الدرامي إلى انتصار حقيقي يشعر به المشاهد ويسقطه على حياته، لذلك عندما نعلم منذ البداية أن "هانت" عضو فريق المهام المستحيلة، فنحن إذن أمام بطل حقيقي يستطيع تجاوز المستحيل.

 

يلعب "هانت" في مساحة مختلفة لا ينافسه فيها أحد، فهو يتميز بصفات تؤهّله للتقدم في أي مقارنة مع غيره من أبطال الجاسوسية، وإن كان منافسه الأقوى هو "جيمس بوند" فإن الجمهور يستطيع أن يقارن بين البطلين ويجد أن رجل المهام المستحيلة هو النموذج المثالي للبطل الذي يحب، فهو الأذكى والأكثر لياقة، يملك فريق عمل جيدا، يملك أفضل أدوات تنكّر، وأفضل أساليب قتال والأكثر تنوعا[4]. كما أن "جيمس بوند" هو عدد من الممثلين بداية من باري نيلسون، شون كونري، ودانيال كريج، وروجر مور، أما "إيثن هانت" فهو فقط توم كروز.

 

   

"سمعت عنك بعض القصص ولكن يصعب تصديقها"

(Mission: Impossible Rogue Nation)

  

ما يعطي مغامرات الأبطال في الأساطير ثِقلا، مثل: هيراكليس، أخيل، أوديسيوس، ثيسيوس، وغيرهم، أن هناك هدفا لكل بطل منهم هو دافعه لخوض مغامراته هذه، سواء كان هذا الهدف فرديا، أو هدفا قوميا، أو هدفا إنسانيا عاما[5]. الحال نفسه ينطبق على "إيثان هانت" الذي تتبدل أهدافه بين الثلاثة، فإذا كان هيراكليس خاض رحلته المعروفة باسم الأعمال الخارقة الاثني عشر[6] التي تطلّبت منه أن يصارع الأسود والوحوش ويسافر في كل مكان ليقاتلها، فإن "هانت" يفعل الشيء نفسه، يسافر في كل بلد يُطلب منه السفر إليه من أجل إنجاز المهمة المطلوبة منه، لذلك يرى "توم كروز" أن الرحلة التي يخوضها "إيثن هانت" وفريقه أنها "أوديسا"[7]. فمثلا البنية الأسطورية لـ هيراكليس تتكوّن من سلسلة متصلة من القصص/المغامرات القصيرة، وهي قصص أساسية بفقد إحدى حلقاتها يختل البناء الدرامي للأسطورة، وهو ما يتشابه مع البناء الدرامي لأي فيلم في السلسلة، فهو سلسلة من المهام المتتالية التي تؤدي كل منهما إلى الأخرى، تتحقق في كل حلقة نجاحات البطل ثم تنتهي بالنهاية السعيدة بنجاح البطل في المهمة المطلوبة، مثل ما حدث في نهاية رحلة هيراكليس ومغامراته الاثنتي عشرة.

   

وأهداف المهام في "Mission: Impossible" تتفرع من جانب سياسي واضح، فمهمة الجزء الثاني مثلا كانت تدمير الـ"كايميرا" وهي اختراع يستخدم في الحرب البيولوجية، وهذا تزامن بشكل أو بآخر في الواقع مع انتشار الجمرة الخبيثة والتي استُخدمت لاحقا في أعمال الإرهاب البيولوجي في هجمات 2001 في الولايات المتحدة[8]، والجزء السادس "Mission: Impossible fallout" الذي استهدفت مهمته عرقلة عملية بيع ثلاثة أجسام بلوتونيوم حيث تسبب بيع أعداد منه في زيادة عدد الهجمات الإرهابية في عدد كبير من البلدان وانتشار حالة الثورة في عدد من البلاد في تزامن مع ما يحدث في الواقع أيضا من حالة الثورة في البلاد العربية وازدياد عدد العمليات الإرهابية في أوروبا وأميركا وغيرها من الدول. "هانت" يسعى لإنقاذ العالم بأهداف سامية، وهذا المُخلّص الأنيق يمجد صورة البطل الأميركي الذي يسعى لخدمة البشرية بإقدام دون أن يكترث بحياته ودون أن تحميه أيدولوجيا معينة، يعرف جيدا الحدود بين الخير والشر فيستجمع قواه ويضع الخطط للتصدي للأخطار القادمة من عالم الشر.

   

لوحة هيراكليس يصارع الأسد للرسام نيكولو فيسينتينو  (يمين) - مقابل مشهد من فيلم mission: impossible rogue nation (مواقع التواصل)
لوحة هيراكليس يصارع الأسد للرسام نيكولو فيسينتينو  (يمين) – مقابل مشهد من فيلم mission: impossible rogue nation (مواقع التواصل)

   

"تلقّى هيراكليس منذ نعومة أظافره جميع أنواع الفنون. علّمه والده "أمفتريون" كيف يقود عجلة السباق وكيف يسير في المنحنيات دون أن يبطئ من سرعته، درّبه "كاسترو" على المبارزة، علّمه استخدام جميع أنواع الأسلحة، درّبه على ركوب الخيل والقيام بالمناورات وعمليات الكر والفر. لقّنه "اوتولوكوس" ابن رسول الآلهة "هرميس" دروسا في الملاكمة والمصارعة، علّمه "يوروتوس" الرماية إن لم يكن الإله أبولون نفسه هو الذي علمه ذلك. لكن هيراكليس فاق معلميه جميعا في كل تلك الفنون"

(أسطورة هيراكليس)[9]

 

لم يكن هيراكليس مجرد بطل أسطوري لأنه نصف إله ونصف بشر، لكن ما ترويه الأسطورة بالتفصيل عن مغامراته الاثنتي عشرة هو بالتحديد ما يزيد من الصفات البطولية له، كيف يجيد المبارزة ويمتلك من الدهاء والقوة ما يكفي لتقع في شباكه أشرس الحيوانات، وكذلك يمكننا أن نعتبر مصدر بطولة "إيثن هانت" يكمن في اعتماده على أفضل أدوات تنكّر، ويملك أساليب قتالية ماهرة، بل إنه بارع فيها كلها. في الفيلم الأخير "Mission: Impossible fallout" نستطيع القول إنه أفضل أفلام السلسلة، ذلك لتنوع مشاهد الهروب والتي أتقنها توم كروز ببراعة مثل تسلق الطائرة بالحبل، والقفز من فوق أسطح البنايات، والقفز من بوابة الطائرة، والهبوط على سطح الفاتيكان. وقد أفرد المونتاج لكل مشهد فترة زمنية طويلة ليتحول من مجرد قتال لاهث إلى مشهد فني يحبس الأنفاس وينغمس المشاهد في متابعته على تروٍّ كأنه درس فني في فنون الأكشن يمكن اقتطاعه من سياقه ومشاهدته بشكل منفرد من أجل المتعة البصرية.

 

  

وتزداد متعة الفيلم بزيادة مشاهد المطاردات التي تنوّعت بين المطاردة بالسيارات وبالدرّاجات البخارية، حتى إن "كروز" قاد طائرة هليكوبتر ليلاحق الجاسوس "أوجست لوكر" في واحد من أمتع مشاهد الفيلم والتي نُفّذت بحرفية عالية. كل هذا يضفي سمات خاصة لـ"هانت"، فهو البطل ذو المهارات واللياقة العالية التي تُمكّنه من النجاح في أداء مهامه، وما يكلل ذلك ليست فقط مهاراته الفردية بل استناده بالأساس إلى فريق عمل جيد يعاونه في إتمام المهام، لذلك نجد أن الجزء الأخير الذي اجتمع فيه كل المحيطين بـ"هانت" وحتى انضمام زوجته السابقة في النهاية، كل هذا ساعد في إنجاز المهمة التي بدت في الجزء الأخير من الفيلم مستحيلة بالفعل.

 

يهتم جمهور أفلام الأكشن بمشاهدة كواليس تصوير أخطر المشاهد ليجيبوا عن تساؤلات طالما شغلتهم مثل: هل اعتمد المخرج على دوبلير للبطل؟ وهل كانت المشاهد في مواقع تصوير حيّة أم إستوديو؟ هل المطاردات حقيقية أم أنها مجرد خدع سينمائية؟ كلها تساؤلات تدور في عقل الجمهور، وفي واقع الأمر أن الإجابة تُشكّل نقطة فارقة في التلقي، والإجابة في سلسلة "Mission: Impossible" هي أن كل شيء فيها كان حقيقيا تماما، وهذا على جانب آخر يزيد نجاح توم كروز لأنه يعتمد على نفسه بشكل كامل في تنفيذ المشاهد. ويعمد صناع الفيلم إلى نشر فيديوهات خلف الكواليس "Behind the scene" مما يكسبه شعبية أكبر تؤثر في تلقي الجمهور للفيلم، فلا يشعرون بالزيف بقدر ما يبهرهم مدى حقيقية كل ما ظنوه غير حقيقي، وهنا أيضا يتحول توم كروز على مدار 22 عاما إلى بطل حقيقي لا ينافسه أحد.

 

    

هل إيثان هانت بطل خارق، أم أنه مجرد محظوظ؟

صفة وحيدة في "إيثن هانت" تجعله دائما عُرضة للخطر وهي تهوره الشديد، وفريق هانت وحتى المشاهدون الذين يضعون ثقتهم فيه منذ البداية تخونهم هذه الثقة في بعض المواقف ويشعرون بأنه سيتعرض للفشل وسيُخفق، لكنه في النهاية يُفاجئ الجميع وينجو بحياته وينجح في مهمته. ما يجعل هانت بطلا هو أنه يخوض مهام مستحيلة، والنجاح في أداء هذه المهام يجعل منه بطلا بالتأكيد، لكن هل ينجح لأنه جاسوس جيد وبطل حقيقي أم لأنه محظوظ؟

 

عندما سُئِل توم كروز عن الأمر أجاب أن "هانت" هو الاثنان معا، هو متفانٍ جدا في عمله لذلك هو يحتاج إلى القليل من الحظ ليساعده في نجاح مهامه[10]، وما يراه أيضا مخرج الجزء الخامس والسادس من السلسلة "كريستوفر كويري" أن الحظ يلعب دورا كبيرا مع هانت في حين أنه يُلقي بنفسه بتهور شديد في المهمة وهو يعلم أنه سينفّذها بنجاح[11]. هنا تتماس الحدود بين مدى إدراك "هانت" لنجاحه وبين ثقته في مساعدة الحظ له، لكنه في جميع الأحوال يملك ثقة لا يمكن زعزعتها، كما أنه أيضا يملك من الصفات الشخصية ما يجعله نقيا لم تلوّثه الحياة، فتحول إلى أيقونة البطل ذي الصفات التي ينشدها الجميع لأنها سهلة التحقق، فهو إنساني للغاية، ذكي، شجاع لأبعد حد، يملك مهارات -غير خارقة- تساعده على تجاوز المهام المستحيلة والتي ينجزها في النهاية بنجاح حتى لو كان ذلك على حساب نفسه وحياته، هذه المساحة يحافظ "هانت" على الوجود فيها دون أي زعزعة وإلا سيصبح مجرد بطل لا يمكنه الانتصار على قوى أكثر تفوقا منه وهي المرحلة التي يسميها آرثر ميلر "مرحلة الإشفاق"[12].

  

توم كروز يبلغ الآن الـ56 من عمره وإيثن هانت يصغره بعامين، ترى هل سيحافظ كروز على لياقة هانت ونجاحه ليستمر في تقديم سلسلة مهامه المستحيلة؟

     

undefined

المصدر : الجزيرة