شعار قسم ميدان

"خيال رخيص".. الرمزية والمعنى والعدمية بفيلم كوينتن تارنتينو

midan - pulp fiction

العدمية مصطلح يصف غياب المعنى والقيمة عن حياة الأفراد. وحينما أعلن نيتشة "موت الإله"، كان قد عنى بذك أن اليهودية-المسيحية (Judeo-Christianity) قد فقدت مكانتها بوصفها القوة الدافعة في حياة الأفراد، وأن لا شيء يمكن أن يعوض غيابها. حينما توقف العالم الغربي عن الإيمان بالأسطورة في الديانة اليهودية المسيحية، كنتيجة للثورة العلمية، فقدت الأخلاقية اليهودية المسيحية دورها كنظام تشريع ملزم في حياة الأفراد. وبالنظر إلى مركزية الدين في حياتنا لآلاف السنين، حينما لا يستبدل هذا النظام التشريعي الأخلاقي بآخر، سنواجه مزالق العدمية؛ حيث الظلمة المطبقة، ولا شيء له قيمة فعلية، لا معنى لحياتنا بعد الآن، وكل أساليب الحياة سواء؛ لأن لا معيار شامل تقاس عليه الأحكام.

 

فيلم كوينتن تارنتينو Pulp Fiction بالب فيكشن (خيال رخيص) من أغرب الأفلام. فهو عبارة عن سردية تامة ظاهريا مقسمة إلى حكايا وسرديات قصيرة أعيد ترتيبها سويا بطريقة أحجية(Puzzle).  فيلم عصابات حيث لا وجود فيه لشرطي واحد. شريط سينمائي من الشخصيات الغريبة، بدءا من رجل عصابات يضع خلف رأسه الأصلع لصاقة جروح، إلى متخلفين منحرفين جنسيا، ومن أتباع عصابات بالبدلات السوداء يخوضون حديثا حول مسميات الأطعمة السريعة الأمريكية في أوروبا إلى حلال مشاكل يحضر حفلات العشاء في الصباح الباكر مرتديا بزة رسمية. إذن، ما الذي يدور حوله الفيلم؟ بشكل عام، يمكن القول إن الفيلم يدور حول العدمية الأمريكية.  في البداية سنلقي نظرة خاطفة على الفيلم:

 

الجزء الأول
 (صورة من الفيلم)
 (صورة من الفيلم)

رينجو وهانيباني [حبيبان] يقرران السطو على مقهى. جولز وفينسنت [أعضاء في عصابة] يناقشان اسم الكوارتر باوندر مع الجبن [نوع من الهامبرغر] في فرنسا. ويحصّلان معا حقائب جلدية لمارسيلس والاس، من براد، ومارفين وآخرين. قبل أن يقوم جولز [أحد رجال والاس]بقتل براد، يقتبس عبارة من العهد القديم. يطلب مارسيلس والاس من فينسنت اصطحاب زوجته ميا إلى عشاء، ويصاب فينسنت بالذعر لأنه يعرف غيرة  والاس على زوجته، الأمر الذي يدفع بفينسنت إلى شراء الهيروين وتناوله، يطلب من ميا الخروج معه إلى سهرة عشاء في مطعم، وهو مكان يعجّ برموز الثقافة الشعبية الأمريكية: بادي هولي، مارلين مونرو، إيد سوليفان، إلفيس بريسلي، ويفوزان سويا بمسابقة رقص. تخطئ ميا جرعة مفرطة من الهيروين على أنها كوكايين، وعلى فينسنت أن يقوم بحقنها في الصدر بجرعة من الأدرينالين لئلا تموت.

 

الجزء الثاني
 (imdb.com)
 (imdb.com)


يوافق بوتش على الخسارة في نزال ملاكمة من أجل مارسيلس والاس (مقابل مبلغ من المال). يتلقى بوتش في صغره ساعة يد من صديق والده، ملازم في الجيش خبأ الساعة من  الجنود الفيتناميين الذين كان أسيرا لديهم في مخيم للحرب. يخدع بوتش مارسليس (ولا يخسر النزال كما جرى الاتفاق)، ويقتل خصمه على الحلبة. على بوتش العودة إلى الشقة للحصول على ساعة يده، بالرغم من أن رجال مارسيلس يبحثون عنه، وهناك في شقته يصادف فينسنت ويقتله. يحاول بوتش دهس مارسيلس؛ يتصادمان وينتهي بهما المطاف في متجر مع زد، وماينارد والأعرج، وثلاثتهم متخلفون منحرفون جنسيا. يحاصر هؤلاء والاس وبوتش، محاولين الاعتداء على والاس. لكن بوتش يفك قيده وينقذ  والاس بقتل متخلف وجرح آخر بسيف الساموراي.

 

الجزء الثالث
 (صورة من الفيلم)
 (صورة من الفيلم)

بالعودة إلى مشهد الافتتاحية، يحاول أحد الفتية الذين يجمع جولز وفينسنت منهم الحقائب إطلاق النار عليهما برشاش كبير؛ يفشل الفتى، ويعتبر جولز ذلك تدخلا إلهيا. يأخذ جولز وفينسنت مارفين [وهو أحد الفتية الناجين]وحقيبته؛ وفي السيارة بينما يتحدثان إليه يطلق فينسنت عليه النار عن غير قصد،[ الأمر الذي يبعثر دماغ مارفين في كل  السيارة] ويجعلها ملطخة بالدم وغير قابلة للاستخدام. يتوقف جولز وفينسنت عند منزل جيمي، ويرسل مارسيلس إليهما وينستون وولف لإصلاح الوضع والتهدئة من روع جيمي وإسكاته. ينتهي المطاف بجولز وفينسنت في مقهى حيث يقوم رينجو وهانيباني بالسطو عليه. يريد رينجو الاستيلاء على الحقيبة الجلدية، لكن جولز لا يسمح بذك. يقتبس جولز عبارة من الكتاب المقدس مجددا أمام رينجو ويخبره أنه يقتبس هذه  العبارة أمام كل شخص قبل أن يقتله. هذه المرة، مع ذلك، لن يقوم جولز بقتل رينجو. يأخذ رينجو وهانيباني المال من المقهى، ويستعيد جولز وفينسنت الحقيبة.

 

كما أشرت سابقا، بشكل عام، يتناول الفيلم العدمية الأمريكية. وبشكل خاص، يتناول الفيلم تحولات شخصيتين هما: جولز (صمويل جاكسن) وبوتش (بروس ويلس). في مطلع الفيلم، يعود فينسنت (جون ترافولتا)  من مكان إقامته في أمستردام، ويدور بينه وبين جولز حديث حول اسم البيغ ماك والكوارتر باوندر [أنواع هامبرغر] في أوروبا، وفونزي Fonzie  من مسلسل هابي دايز Happy Days، وأرنولد من مسلسل جرين آكرز Green Acres، وفرقة موسيقى البوب فلوك أوف سيجلزFlock of Seagulls، وكاين من فيلم كونغ فوKung Fu، الخ. هذه الإحالات السخيفة تبدو للوهلة الأولى نوعا من المتنفس، معد لمواجهة العنف التلفزيوني. لكنه ليس مجرد متنفس هزلي. الفكرة ههنا هي الطريقة التي ترتبط فيها هذه الشخصيات في حياتنا: أيقونات ورموز الفن الشعبي، الراحلين. في زمان و/أو مكان آخرين كان ليرتبط الناس بالحياة من خلال شيء أكبر منهم، ألا وهو الدين، الذي وفر المعنى والإحساس في تحديد قيمة الأمور من حولنا. 

وهذا مفقود في أواخر القرن العشرين في أمريكا، وبالتبعية غائب عن حياة فينسنت وجولز. ولهذا تظهر رموز الفن الشعبي بوفرة في الفيلم: نقاط الإحالة هذه هي ما نفهم من خلاله أنفسنا والآخرين، نحن فارغون وفانون مثلهم بالضبط. أيقنة الفن الشعبي هذه تتجلى أكثر ما تتجلى حينما يزور فينسنت وميا  (أوما ثورمن) جاك رابيت سيم (مطعم) حيث يتقمص المضيف شخصية إيد سوليفن [مذيع]، والمغني يتقمص شخصية ريكي نيلسن [مغني شهير]، والنادل يتقمص شخصية بادي هولي[مغني]، ومن ضمن النادلات مارلين مونرو[مغنية] وجاين منسفيلد [ممثلة].  رموز الفن الشعبي هذه تقف بشكل صارخ في مواجهة فقرة من العهد القديم، إيزاكيل 25:17 (في الواقع، أن تارنتينو في الغالب هو من ألفها بنفسه):

 

إن طريق الرجل المستقيم محاصرة من كل الجوانب بظلم الأنانيين واستبداد الرجال الأشرار. باسمه المقدس، باسم المحبة والإرادة، سأرعى الضعيف خلال وادي الظلام، ومن حفظ أخاه بصدق، وملهم الأطفال الضائعين، وسألقي بعقابي الشديد وغضبي العارم على أولئك الذين يحاولون تضليل وتدمير أخوتي. وستعرف أن اسمي هو "الرب"حينما أصبُّ نيران غضبي على هؤلاء. 

 

يقتبس جولز كلام الكتاب المقدس هذا قبل أن يقتل أحدهم. والفكرة ههنا أن هذه الفقرة تحيل إلى نظام من القيم والمعاني يمكن لها أن تسيّر حياة المرء وقراراته الأخلاقية. ومع ذلك، فإنّ هذا النظام مفقود من حياة حياة جولز وهو الأمر الذي يجعل هذه الفقرة عديمة المعنى بالنسبة له. ولاحقا في الفيلم نراه يخبرنا: "لقد كنت أقول هذا الهراء لسنوات، ولو سمعته – كان ليعني قتلك. لم أعر اهتماما حقيقيا لمعناه – خطر لي أنه هراء مرعب سيكون من الجيد أن أقوله للعين الذي أنوي قتله".

 

إن غياب أي نوع من الأساس يستند إليه في الأحكام القيمية، والافتقار إلى معنى أكبر في حياتهم، يخلق لديهم نهما للسلطة. في ظل غياب أي معيار آخر ينظم حياتهم، يسقط الأفراد في هرمية السلطة، حيث مارسيلس والاس في أعلى الهرم وهم في أدناه كأتباع. وتبدأ الأشياء في اكتساب المعنى في حياتهم حينما يعلن والاس عن ذلك. ما يريد إنجازه، عليهم القيام به. وتكتسب الأشياء قيمتها بالنسبة لهم مما يريده والاس ويصبح بالتالي موجها لتصرفاتهم في الحال، إلى أن تكتمل المهمة بأي أسلوب كان. وهذا متمثل بذكاء في الحقيبة الغامضة التي يطلب من جولز وفينسنت إعادتها إلى مارسيلس. هي غامضة لأننا لا نرى فعليا ما فيها على الإطلاق، غير أننا نرى ردود أفعال أشخاص حيالها بوصفها غرضا بالغ القيمة والأهمية. يبزغ السؤال دائما: ماذا يوجد في الحقيبة الجلدية؟ ومع ذلك، فهذا السؤال خدعة. الإجابة في الحقيقة: لا يهم. ما يوجد في الحقيبة الجلدية لن يشكل أي اختلاف. كل ما يهم هو أن مارسيلس يريدها، وبالتالي لهذا الغرض أهمية. لو كان لدى فينسنت وجولز قاعدة للقيمة والمعنى في حياتهما، لكان بوسعهما تحديد ما إذا كانت الحقيبة الجلدية ذات قيمة نهائية، ولأمكنهما تحديد ما إذا كان كل ما بذلاه في سبيل استرجاعاها مبررا.  في ظل غياب هكذا قاعدة، فإن الحقيبة الجلدية تصبح قيمة نهائية في ذاتها ولذاتها، تحديدا لأن مارسيلس يقول ذلك، وعليه فإن أي وكل سلوك بغرض حيازتها يصبح مبررا (بما فيه، كما هو واضح، القتل).

صورة من الفيلم.
صورة من الفيلم.
 

بالإضافة إلى أيقنة رموز الفن الشعبي في الفيلم، فإن الخطاب المتعلق باللغة ههنا مرتبط بتسمية الأشياء. ماذا يدعى البيج ماك؟ وماذا يسمى الكوارتر باوندر؟  (فينسنت لا يعرف:  فهو لم يذهب إلى مطعم برجر كينغ). حينما ينادي رينجو (تيم روث) على النادلة "جرسون"،  تخبره أن: "جرسون" بالفرنسية تعني ‘فتى.’ وأيضا، حينما تشير صديقة بوتش إلى وسيلة تنقله على أنها "دراجة نارية"، ويصر على أن يصحح لها قائلا: "إنها ليست دراجة نارية بل تدعى المروحة"  [نوع آخر من الدراجات النارية]. ومع ذلك –  وهنا يقع التباس – حينما تسأله سائقة أجرة لطيفة عن معنى اسمه، يجيب بوتش: "هذه أمريكا؛ يا عزيزتي؛ أسماؤنا لا تعني شيئا." والفكرة واضحة: إنه غياب أي قاعدة، دائمة للقيمة والمعنى، لغتنا لا تعود تشير إلى أي شيء عداها. أن ننعت أي شيء بالشرير أو الطيب يقدمه على النحو الذي ننعته به، بالنظر إلى غياب سلطة عليا أو معيار للحكم على الأفعال. يقتبس جولز من الكتاب المقدس قبل تنفيذ إعداماته، لكن في وسعه أيضا الاقتباس عن فونزي أو بادي هولي.

 

لقد كنت أضع العدمية نقيضا للدين بوصفه نظاما موضوعيا أو أساسا للقيم والمعنى، لأنها المقارنة ذاتها التي يضعها كوينتن تارانتينو نفسه في الفيلم. ثمة أنظمة موضوعية أخرى للأخلاقيات، مع ذلك. قد نقارن العدمية مع الأخلاقيات الأرسطوطالية على سبيل المثال. يقول أرسطو أن للأشياء جوهرًا أو طبيعة وأن أفضل ما يمكن القيام به هو ‘تحقيق’ أو إدراك الشيء لجوهره. وفي الحقيقة فإنه أيا كان ذلك الذي سيساعد الشيء على استيفاء طبيعته فإنه سيكون بالتعريف جيدا. البطّ طير مائي. لديه أرجل مفلطحة تساعده على تحقيق جوهره كسبّاح. وبالتالي، فمن الجيد أن يكون للبط أرجل مفلطحة. والكائنات الإنسانية أيضا لها طبيعة تتألف من عدد من القدرات، قدرات تؤهلنا للقيام بالأمور. ثمة الكثير من الأشياء التي في وسعنا القيام بها: العزف على البيانو، تشييد الأبنية، المشي والكلام، هلم جرا.  لكن قدرة الكائن الإنساني الجوهرية هي في قدرة التفكير، بما أن العقل هو ما يفصلنا عن بقية الكائنات الحية. المنفعة الأسمى، أو الحياة الأفضل، للكائن الإنساني، بالتالي، تكمن في إدراك المرء لقدراته، وبالتحديد أكثر القدرة على التفكير. إن مفهوم المنفعة الأسمى، مع مفهوم أرسطو يضيفان إلى نظام أخلاقي موضوعي يستطيع الإنسان وفقا له أن يزن ويقدّر معنى وقيمة الأشياء، ويزن ويقدر الوسائل التي قد يستخدمها الإنسان ليحقق هذه الأشياء.

 

للإعادة، إن هذا النوع من الأنظمة، سواء كانت قائمة على الدين أو العقل، هو غائب كليا عن حياة جولز وفينسنت. في غيابه، الثقافة الشعبية هي مصدر الرموز ونقاط الإحالة التي يتواصل من خلالها الاثنان ويفهمان بعضهما بعضا؛ ودون الرمز الديني أو المنطقي لتحديد قيمة ومعنى الأشياء في حياتهما، نرى أن مارسيليس والاس يقوم بتلك المهمة. إن نقص أي نوع من السلطة العليا يصور في الفيلم من خلال الغياب الصريح لأي وجود للشرطة. إنه فيلم عصابات حيث يقتل الناس بالأعيرة النارية، ويتعاطى آخرون المخدرات، ويقودون بتهور، إلخ، ثمة حوادث سيارات، ولا يوجد هنالك شرطي واحد حتى. مجددا، يمثل مارسيلس اسثناء صغيرا وحيدا لكل هذا، وهو ما سأشير إليه بعد هنيهة.

 

يتناول هذا الفيلم في جزء منه تحول جولز. حينما يطلق أحد ضحاياه النار عليه هو وفينسنت من مسافة قصيرة، يفرغ الرشاش، ويخطئ كليا، يفسر جولز ذلك على أنه تدخل إلهي. إن أهمية ذلك لا تكمن في كونه كان بالفعل تدخلا إلهيا، وإنما في أن الحادثة تدفع بجولز للتفكير فيما هو مفقود. ويرغمه الأمر على التفكير في معنى العبارة الإنجيلية التي كان يقتبسها لسنوات دون أن يتفكر في معناها. يبدأ جولز بالفهم – وإن كان مشوشا في البدء – بأن الفقرة التي يقتبسها تشير إلى نظام موضوعي للقيم والمعنى هو غائب عن حياته. إننا نرى بزوغ هكذا فهم حينما يخبر فينسنت بأنه سيقدم استقالته، ولاحقا (الأكثر أهمية)حينما يكرر الفقرة أمام رينجو في المقهى ويفسرها له. قائلا: "لقد كنت أقول هذا الهراء لسنوات، وإن سمعته – كان ليعني قتلك. لم يحدث أن فكرت كثيرا في معناه – لقد خلت وحسب أنه هراء مخيف لقوله لأي لعين قبل أن أقتله. لكنني حينما رأيت معجزة هذا الصباح جعلني الأمر أفكر مرتين.  كما ترى، الآن أنا أفكر، أنه لربما يعني: أنك الرجل الشرير، وأنا الرجل الطيب، والمسدس هنا – هو الراعي الذي يحميني خلال وادي الظلام. أو أنه قد يعني: أنك أنت الإنسان الطيب، وأنا الراعي وهذا العالم هو الشرير والأناني. الآن، كنت لأود ذلك، لكن هذا الهراء ليس حقيقيا. الحققية هي: أنك أنت الضعيف وأن استبداد الرجل الشرير. لكنني أحاول يا رينجو، إنني أحاول بصعوبة أن أكون الراعي."

 

يعرض جولز التفسيرات الثلاثة الممكنة للفقرة. التفسير الأول يتلاءم مع كيفية عيشه لحياته. أيا كان ما يقوم به (كمأمور من مارسيليس) هو مبرر، وبالتالي هو الرجل الطيب، بمسدسه الذي يرعاه، وأيا كان ما يقف في طريقه هو سيء أو شرير  بحكم التعريف. التفسير الثاني مثير للاهتمام ويبدو وأنه يتفق مع موقف جولز شبه الديني تبعا لما يفسره بوصفه خبرة إلهية (إنه يخبر فينسنت، أن يتذكر، بأنه أراد أن يجوب العالم مثل كاين في فيلم كونغ فو). في هذا التفسير العالم شرير وأناني، ومن الواضح أنه دفع جولز للقيام بكل الفظاعات التي يعلن أنه قد انتهى منها.

 

لقد أصبح الآن الراعي، وسيقوم بتخليص رينجو (الذي يكون ضعيفا وفق تعريف عصابات القتال، لأنه يسرق المقاهي، الخ) من هذا الشر. لكن هذه ليست الحقيقة، كما يدرك. الحقيقة هي أنه هو نفسه الشرير الذي كان يعظ حوله (دون أن يدرك) لسنوات. رينجو ضعيف، ليس جيدا بما يكفي ليكون مستقيما، أو قويا بما يكفي ليكون شريرا مثل جولز وفينسنت. وجولز يحاول تحويل نفسه إلى الراعي، ليقود رينجو خلال وادي الظلام. بالطبع، من المثير للاهتمام، أن الظلام هو من صنع جولز الشخصي، وهكذا نضال، لأن يكون الراعي هو نضال جولز نفسه لئلا يعود إلى الشر. في هذا الظلام، يشتري حياة رينجو. يجمع رينجو المحفظات من الزبائن في المقهى، بمن فيهم جولز، ويسمح له جولز بكسب مائتي وخمسين دولارا من الأمر. يدفع له جولز هذا المبلغ ليأخذ المال من المقهى ويغادر ببساطة، بحيث لا يضطر (جولز) لقتله. لاحظوا أن هكذا تحول لم يحدث لفينسنت، الذي يقول، " جولز، إنك تعطي ذلك اللعين 250 دولار، وأنا سأقتله وفقا للمبدأ العام." المبدأ العام بالطبع هو أنه أيا كانت الوسائل الضرورية لتحقيق النهاية فهي مبررة، النهاية (مجددا) يحددها في الغالب مارسيليس والاس. هذا الموقف لفينسنت نراه بوضوح في رد فعله على الجرعة المفرطة لميا. إنه يحاول بيأس أن ينقذها، ليس لأنها كائن بشري له قيمة جوهرية، ولكن لأنها زوجة مارسيليس، وهو (فينسنت)سيكون في مأزق حقيقي إن ماتت. تكتسب ميا قيمتها من كون مارسيليس جعلها كذلك، ليس لأجل أي مزايا أو خواصّ موضوعية أو جوهرية قد تكتنف عليها.

على النقيض من سيف الساموراي (الأجنبي)، الساعة الذهبية هي نوع من الأملاك الموروثة التي تنتقل من جيل لآخر داخل العائلات (الأمريكية). إنها تمثل نوعا من تقاليد الشرف والرجولة.
على النقيض من سيف الساموراي (الأجنبي)، الساعة الذهبية هي نوع من الأملاك الموروثة التي تنتقل من جيل لآخر داخل العائلات (الأمريكية). إنها تمثل نوعا من تقاليد الشرف والرجولة.
 

التحول الآخر في الفيلم هو من نصيب بوتش. إن ثمة تطورا واضحا في المعنى واتصاله بالعنف في القصة. في البداية، نرى أن القتل مجاني كليا: براد ورفاقه، وبالتحديد مارفين، الذي ينال رصاصة في رأسه ببساطة لأن السيارة قفزت فوق مطب فأطلق المسدس طلقته. هنالك أيضا، تزييف حكاية مقتل طوني روكي، الدافع في هذا القتل مخفي عن الجميع، ما عدا والاس. مجددا، الدليل على أن مارسيلس نفسه يوفر المعنى والتبرير للأشياء، والأسباب – مثل الإله – مخفي عنا. (وقد يكون هذا في الحقيقة ما تمثله الضمادة اللاصقة : حقيقة أن دوافع مارسيليس وأسبابه مخفية عنا. لاصقة الجروح لا تساعد وحسب على وقف النزيف، لكنها أيضا تخفي تحتها الندبة البشعة التي لا نريد أن يراها الناس.) خلو العنف من المعنى يتلخص أيضا في مباراة الملاكمة. يقتل بوتش منافسه. حينما تعلمه إزميرالدا فيلا لوبوس (سائقة التاكسي) بذلك، يكون رد فعله لا مباليا كليا. يهز كتفيه. وأيضا، حينما يركب بوتش سيارته فرارا من مارسيلس بعد خيانته، في البداية يقرر أن طريقة الخلاص من هذا الأمر هي في أن يصبح مثل غريمه، عديم الرحمة. وبالتبعية يصيب ويقتل فينسنت، ويحاول لاحقا قتل مارسيليس بدهسه. يصبح الوضع معقدا حينما يحاول مارسيليس وبوتش، قتل بعضهما بعضا دون تردد، ليجدا نفسيهما في موقف لا يحسدان عليه.

يؤخذان كرهائن لدى زوج من المتخلفين الذين يقرران ضربهما والاعتداء عليهما [جنسيا]. لقد لاحظت سابقا الغياب الواضح لرجال الشرطة في الفيلم. لكن الاستثناء المثير في هذا،  هوَ زد. يؤخذ مارسيليس كرهينة، يقيد ويكمم. حينما يظهر زد في زيّ حارس أمن، ما يعطيه مظهر شخصية سلطوية. إنه حارس أمن وحسب، وليس شرطيا حقيقيا، ومع ذلك، هذا هو دليلنا على جبروت السلطة. في السياق العدمي الذي توجد فيه هذه الشخصيات، في غياب نظام موضوعي للقيم لتحديد الصحيح، العدالة والخير، مارسيليس والاس هو مشرع القيم، والسلطة المطلقة. في هذا الوضع، مع ذلك، انتزعت سلطته منه. يضع زد مسدسه جانبا، ويأخذ هذا الانتزاع إلى حده الأقصى بالاعتداء الجنسي على مارسيليس.

 

مثلما حظي تحول جولز بلحظة حاسمة، ألا وهي، حينما يطلق عليه النار دون أن تصيبه أي رصاصة، حظي تحول بوتش أيضا بلحظة حاسمة. وهي حينما حاول الهرب، باستيلائه على السيف، لكنه يعود لإنقاذ مارسيلس. كما قلت، مبدئيا فالعنف مجاني ولا معنى له. مع ذلك، حينما يعود بوتش إلى الزنزانة لمساعدة مارسيليس، فإن العنف لأول مرة يكتسب تبريرا: كبادرة شرف وصداقة، ينقذ مارسيليس، الذي كان غريمه، من رجال هم أسوأ منهما بكثير.

 

إن تحول بوتش يتمثل في اختياره الأسلحة في المتجر: مطرقة، مضرب بيسبول، منشار كهربائي وسيف ساموراي. يلقي نظرة إلى الأسلحة الثلاث الأولى ويستقر على الرابع. لماذا؟ يبرز السيف بوصوخ في القائمة. أولا، هو سلاح أصلا، بينما الآخرون ليسوا كذلك، وسأناقش هذا في هنيهة. لكنه يفضله على الآخرين أيضا لأن أول أداتين ( أول أداتين بالتحديد) هي رموز لأمريكانا. إنها رموز العدمية التي يتركها بوتش وراءه، بينما سيف الساموراي يمثل ثقافة محددة حيث هناك (أو حيث كان)مكان له نظام أخلاقي صلب، ذلك النوع من الأساس الموضوعي الذي كنت أقول أنه مفقود من حياة هذه الشخصيات. يمثل السيف بالنسبة لبوتش ما تمثله فقرة الكتاب المقدس لجولز: لمحة عن ثقافة تتعدى الثقافة العابرة، لمحة تتعدى الهاوية الشاسعة لأسلوب الحياة العدمي، أسلوب تفكير، حيث ثمة معيار أخلاقي موضوعي، حيث ثمة معنى وقيمة، وحيث تتجاوز اللغة نفسها.

 

على النقيض من سيف الساموراي (الأجنبي)، الساعة الذهبية هي نوع من الأملاك الموروثة التي تنتقل من جيل لآخر داخل العائلات (الأمريكية). إنها تمثل نوعا من تقاليد الشرف والرجولة. ولكن فلنفكر  في كيفية تناقل الساعة في هذه الحالة، يقتنيها جد بوتش الأكبر في نوكسفيل قبل سفره للقتال في الحرب العالمية الأولى، وبما أنه نجا من الحرب، فقد مررها إلى ابنه. يتركها جد بوتش مع ابنه قبل ذهابه للقتال في الحرب العالمية الثانية والموت هناك. والد بوتش، وهو أسير في مخيم حرب فييتنامي، يخفي الساعة قبل موته ويجدها صديقه في الجيش الملازم (كريستوفر والكن) الذي يخفيها. بعد العودة من الحرب، يجد الملازم بوتش كطفل ويقدم له الساعة كهدية. لكن هذه الهدية خالية من المعنى، لماذا هي كذلك؟ لذات السبب الذي كانت لأجله فقرة الكتاب المقدس خالية من المعنى أيضا: إنها رمز بلا مرجع. حيث أن ما تشير إليه مفقود.

 

يكتسب السيف أهميته، من كونه على عكس الساعة الذهبية (إرث وصل بوتش من أبيه الغائب، كونه الطرف الأصغر في العائلة)،حيث يربط بوتش بالخط الذكوري في عائلته. الرجال في عائلته محاربون، جنود في حروب مختلفة. اختيار السيف يحول بوتش من ملاكم، وشخص منفصل يتجه إلى الحلبة وحيدا، إلى جندي، محارب، متصل بتاريخ وتقليد، والذي يوجّه تصرفاته تشريع سلوك صارم حيث الشرف والشجاعة أهم القيم.

 

أخيرا، لاحظوا كيف يعود بوتش دائمًا. يبدو وأنه محكوم عليه بالرجوع، ربما أن يكرر الأشياء، إلى أن يتأكد من أنها تسير في الطريق الصحيح. عليه أن يعود إلى شقته ليأخذ ساعته. هذه العودة مرتبطة بقراره أن يصبح مثل غريمه. وهناك عودته إلى الزنزانة لإنقاذ مارسليس، حينما يفك أسره، ويقبض على السيف. وهنالك عودته إلى نوكسفيل. تذكروا أن جده اقتنى الساعة أصلا في نوكسفيل، وإلى نوكسفيل خطط بوتش للهرب بعد الإخلال باتفاقه حيال النزال. بعد أن يختار السيف وينقذ مارسيليس،يستطيع بوتش العودة بحق إلى نوكسفيل، بما أنه مرتبط الآن بخط نسق، عضوا حقيقيا في طبقة من المحاربين. 

 

المقال مترجم عن: https://goo.gl/RM7qxQ

المصدر : الجزيرة