شعار قسم ميدان

"18 يوم".. فيلم مستعجل عن ثورة لم تكتمل

ميدان - 18 يوم فيلم
بعد مرور ست سنوات على أحداث ثورة 25 يناير المصريّة عاد الجميع للتكلّم عنها من جديد، لا من باب المناكفات ولا إحياء ذكرى سنويّة لحلم لم يكتمل. لم يكن الدافع تصريح سياسي من أحد المسؤولين ولا كشف وثائق قديمة تدين أو تبرئ جهة ما، كما لم يكن قراراً لقاضٍ في محكمة هنا أو هناك. لربما صار الحديث عن ثورة يناير ثقيلاً على قلوب الكثيرين، خصوصاً الذين رأوا فيها مشروعاً لحياة مختلفة عما اعتادوا عليه وأخذوا على عاتقهم ملء الشوارع وإنهاء حكم الرئيس مبارك وهو ما نجحوا فيه بالفعل.

 

إن ما حصل فعلاً كان تسريب فيلم "18 يوم" الذي أشيع أنه ممنوع من العرض داخل مصر(1) منذ عام 2011  لأسباب سياسيّة. فيلم لم يره إلا عدد محدود من البشر في عروض خاصة في عدد من المهرجانات حول العالم، صار اليوم على كل لسان حاصداً أكثر من مليون مشاهدة بعد يومين من تسريبه على الإنترنت. وكأنّه تعطش لرؤية الممنوع، وكسر الرقابة، واستكمال لحالة الرفض ومؤازرة الصوت المناهض للنظام هذه المرّة إلكترونياً، وهو ما لم يخفه المخرج يسري نصر الله عندما صرّح على حسابه الشخصي على موقع فيسبوك أنه سعيد لتسريب الفيلم، هذا التصريح الذي لم يأت صدفة خصوصاً مع إعلانه مسبقاً في أحد اللقاءات(2) قبل أربعة أشهر فقط أنه يناقش مع بقية صناع الفيلم إمكانية عرضه على الإنترنت.

 

فيلم عن الثورة أم فيها؟

يحتوي الفيلم، على غير المعتاد، عشرة أفلام قصيرة تتناول بطرق مختلفة قصصا تتعلّق بثورة 25 يناير، تتوزع أحداث معظم الأفلام بين يومي 25 يناير و11 فبراير 2011، وكما كانت الثورة، يشكّل الفيلم تعاوناً بين فنانين يتفاوتون فيما بينهم بطرق الإخراج والكتابة والتمثيل وحتى في موقفهم من الثورة نفسها- كما علّق مُشاهدون على موقع يوتيوب.

 

يمكن تقسيم الأفلام العشرة إلى قسمين رئيسيين، الأول هو الذي ينطوي على مواجهة مباشرة بين معسكري الثورة، المؤيد والمُعارض، أمّا الثاني فهو ما يمكن أن ندعوه أفلاماً في الثورة لا أفلاماً عن الثورة، تروي أحداثاً تجري لأشخاص يعيشون في زمن الثورة، حياتهم طبيعية وليسوا بالضرورة أصحاب قرار شخصي إمّا في الوقوف مع أو ضد ما يحدث أمامهم في الشارع، ولكنهم موجودون تحت مظلة التأثير اليومي للثورة.

  

بوستر الفيلم (مواقع التواصل)
بوستر الفيلم (مواقع التواصل)

 

تنتمي أفلام "احتباس، خلقة ربنا، 1919، تحرير 2-2" إلى الفئة الأولى، ويأتي ترتيبها في العرض: الأول، الثاني، الثالث والسابع، على التوالي. في "احتباس" نجد توظيف مكرر للمكان كأحد شخصيات الفيلم المتعددة، فنحن في غرفة لمرضى نفسيين في إحدى المستشفيات. وبمحض الصدفة، كانوا جميعهم عدا واحد منهم مرضى بتوجهات سياسية مناهضة للنظام أتوا من خلفيات اجتماعية متعددة، ما بين شخصيّة الشاب المتديّن، والمذيع المناهض للحكومة وآخرين بين مدرس تاريخ وعقيد في الشرطة وأحد رجال الأعمال وغيرهم.

 

إن أبرز ما يمكن ملاحظته حول هذا الفيلم على الرغم من جودة الحوارات من شريف عرفة إلا إن المعالجة بقيت سطحية، فالتركيبة بحد ذاتها، والتي تعتمد على الزج بكافة الأطياف السياسية والاجتماعيّة في مكان واحد وخلق مواجهة فيما بينهم، باتت مستهلكة وكان من الممكن أن تكون مقبولة في زمن يسبق الثورة لا في عصر ما بعدها.

 

يتأثر الفيلم بأجواء رواية 1984 لجورج أورويل من خلال تواصل إدارة المستشفى -الأخ الأكبر- مع المرضى عبر مكبرات الصوت والتي يقررون من خلالها إغلاق كل من التلفزيون والشبابيك لمنع أي تأثير خارجي على نفسيات النزلاء. لا يستطيع المشاهد استيضاح هذا التأثّر إلا في المشهد الأخير حين ينهمك النزلاء في تنظيم أمورهم بينما ينسون أنهم تحت مظلّة الدولة العميقة، وبهذا فإن الفيلم الذي يخرجه شريف عرفة أيضاً، لا ينجح إلا في أن يكون سكيتش مسرحي لفنانين تحت التدريب.

 

"ازاي تتحركوا في 8 محافظات، في نفس الساعة ونفس الهتافات وكلكم في نفس السن؟!"

 

كما قد يتوقع المشاهد، نجد في فيلم 1919، إخراج مروان حامد وتأليف عباس أبو الحسن، قصّة تجمع بين السجين المتهم بتنظيم الثورة -يؤدي دوره عمرو واكد- وبين المحقق السادي ومساعده المطيع. يبدأ زمن الفيلم قبل أيام من تاريخ 25 يناير، فالموقف الذي يجمع بينهم هو علم الجهات الأمنية بوجود مظاهرات لقلب نظام الحكم، وكل ما عليها فعله الآن هو التحقيق ومعرفة من وراء هذه الدعوات والأعداد المتوقع نزولها إلى الشارع.

 

رغم الأداء القوي من قبل أبطاله، على عكس الضعف الواضح في التمثيل لدى فيلم "احتباس" كما يعلق عدد من المشاهدين على موقع تويتر، لا يعرض الفيلم مشاهد تعذيب قاسية رغم نجاح مروان حامد في خلق عالم خاص بالفيلم ضمن أجواء تجعل من تخيّل مشاهد التعذيب سهلاً. المعركة هنا جليّة بين المؤيد والمعارض، ولكنها على مستوى أعلى لدى كل منهم، بين من ينظّم التحركات وبين من يحاول قمعها وليست مواجهة عادية بين عساكر ومتظاهرين أو حتى ثوار وفلول.

 

عمرو واكد في فيلم 1919  (مواقع التواصل)
عمرو واكد في فيلم 1919  (مواقع التواصل)

 

ومع ذلك ينتهي الفيلم بمشهد يجتر العاطفة بشكل واضح، وهو مشهد لورقة أقوال السجين وقد امتلأت بكلمة "حريّة"، مشهد لا ينتمي إلى فئة الأعمال الفنيّة الأصيلة ولا ينتمي حتى للفكر الذي يحمله صاحبه، خصوصاً وأن مروان حامد كان المسؤول الرئيسي عن تقديم حملة الحزب الوطني المنحل عام 2005 بجهود تطوعية منه، فعن أيّ حريّة يتحدّث حامد. الأمر الذي يضع كثيراً من الأسئلة عن الانتهازية التي قد يتمتع بها هو وزميله شريف عرفة الذي قام بدوره بالإشراف على مقابلة تلفزيونية للرئيس المخلوع دون أن يتقاضى عنها أجرا!

 

فئات مهمشة؟

فتاة بسيطة تقرر أن تقوم بثورتها الخاصة من أجل تغيير شكلها في الوقت الذي تنتفض فيه البلاد من أجل ثورة أكبر منها بمراحل. في فيلم "خلقة ربنا"، إخراج كاملة أبو ذكرى وتأليف بلال فضل، تجد ناهد السباعي نفسها منخرطة في الفعل الثوري بمحض الصدفة، في لحظة واحدة قادتها أقدامها نحو إحدى المظاهرات في ميدان التحرير لا تخفي خلالها دوافعها البسيطة لكل أفعالها إلى أن ينتهي بها المطاف تحت هراوات رجال الأمن المركزي متحدثة لنفسها "أنا كنت بس عايزة يبقى شكلي حلو عشان أتجوّز، سامحني يا رب، عدّيهالي"، في إشارة ربما إلى قابلية أي فرد لأن يكون ثائراً في لحظة تاريخية معيّنة.

 

شاهد العالم على شاشات التلفاز أحداث موقعة الجمل في ميدان التحرير أثناء الثورة المصريّة، ولكن ما لم يعرفه العالم هو مئات القصص التي حدثت لأفراد كانوا، في ذلك اليوم تحديداً، على موعد مع الدم. يرصد فيلم "تحرير 2-2″، بطولة هند صبري، آسر ياسين ومحمد فراج، قصتين تسيران بخطين متوازيين لا يلتقيان إلا في اللقطة الأخير منه.

 

محمد فرّاج في زمن مغاير عن ذلك الذي يكون فيه آسر ياسين. فبينما يروي فرّاج -ببراعة تمثيلية- قصّة أحد أصدقائه الذي استشهد خلال موقعة الجمل، ننتقل مع عدسة مريم أبو عوف إلى أحداث ذلك اليوم تحديداً ولكن هذه المرة من وجهة نظر أحد البلطجية الذين شاركوا في قتل المتظاهرين. من المرات النادرة التي نرى فيها قصة الثورة من وجهة نظر البلطجي، وهو أمر قد يكون مستنكراً كونه يحيل إلى تساؤلات عدّة أهمها، هل هذا فيلم مع الثورة أم ضدها؟

 

على هامش الأحداث

المصلحة تحرّك كل شيء، وأينما وجدت المنفعة تجد الناس، هذه الفكرة التي كتبها بلال فضل في مشاركته الثانية بعنوان "إن جالك الطوفان"، إخراج محمد علي، وهو فيلم خال من الأحداث ولكنه مليء بالحوارات التي كان من المفترض بها أن تكون لكوميدية في تسليطها الضوء على سهولة تغيير بعض الأشخاص لمواقفهم بناء على ما يعود عليهم ذلك من مصلحة. وكأنه فيلم يصلح لأن يكون عن بعض الذين شاركوا في صنع هذا الفيلم مثلا.

 

مشهد من فيلم
مشهد من فيلم "حظر تجول" (مواقع التواصل)

 

لم يكن هذا الفيلم الوحيد الذي يتعرض لأفراد تؤثر عليهم الثورة ولا يؤثرون بها، أفلام مثل "حظر تجوّل، كحك الثورة وشبّاك" هي أيضاً تتناول الثيمة ذاتها.

 

فتى مع جدّه الذي يقود السيارة، خرجوا لتوهم من المستشفى بعد فحوصات بسيطة أجراها الجد لحفيده، وأثناء عودتهم كان حظر التجول قد صار سارياً، والطريق إلى المنزل تسدّها دبّابات الجيش الموزعة في كل مكان. كلما بدا مشهد العربات المصفحة والجنود مزعجاً للجد، كان الفتى يراها على العكس تماماً.

 

تصبح مهمة الجد في فيلم "حظر تجول"، إخراج عاطف راشد وتأليف شريف بنداري، أن يصل بحفيده سالما إلى المنزل، وهو الموقف العام لكثير ممن فضلوا النأي بأنفسهم عن مجريات الأحداث. مع مرور الفيلم تتضح دوافع الطفل الذي كل ما يطمح إليه هو أن يلتقط صورة على ظهر دبابة. يتميز الفيلم بواقعيته الشديدة، رغم موضوعه البسيط ولكنه أعاد المتفرجين إلى ليالي حظر التجول وكأنها حدثت بالأمس.

 

تحتل صورة الفنان أحمد حلمي بوستر الفيلم الرئيسي رغم أنه لم يشارك سوى في فيلم واحد بعنوان "كحك الثورة"، الذي ألّفه بنفسه وترك مهمة الإخراج لخالد مرعي. هذا الاحتفاء بأحد الفنانين المشاركين بالعمل فقده بمجرّد صدور الفيلم على الإنترنت، إذا ما لبث أن شعر بالخجل من وجوده في فيلم به الكثير من "الألفاظ النابية" ليعاود مسح رابط الفيلم من على صفحته على موقع فيسبوك.

 

قصة الفيلم أبعد ما تكون عن "الكحك" الذي يجده حلمي صدفة بعد أيام من عدم تناول أي طعام جراء حبسه لنفسه داخل محل الخياطة الخاص به وسط البلد. فالشاب الذي خرج لتوه من المستشفى لا يعلم أي فوضى مقبلة عليها شوارع وسط البلد. يتعامل مع الأمر بسذاجة المواطن المعزول بهمومه اليومية، ولكن هذه السذاجة لا تشفع له عندما يقرر الخروج والتعامل بها مع العالم الخارجي الذي يحاول تغيير مجريات الأحداث والتاريخ. فهل تشفع سذاجة حلمي له عندما قرر حذف رابط الفيلم؟

 

أحمد حلمي في
أحمد حلمي في "كحك الثورة" (مواقع التواصل)

نافذة وجهاز حاسوب ونبتة صغيرة كانت كل المقومات التي احتاجها فيلم "شبّاك"، تأليف وإخراج أحمد عبد الله. بطل هذا الفيلم، أحمد الفيشاوي، شاب مصري يعيش في زمن الثورة ولكنه يشاهد من بعيد، فرد مهتم ومتابع نَهم لكل ما يجري من حوله لكن ذلك كله لم يؤثر على نفسيته ولا على طبيعة حياته اليومية. يتعرف من خلال نافذته على فتاة تسكن أمامه هي على النقيض التام منه، فاعلة تمضي أيامها في الشارع منضمة إلى جموع المتظاهرين. فيلم يخلو من أي حوارات بل يعتمد تماما على الصورة في إيصال رسالته، وفي مشهده الختامي يطرح تساؤلاً مجتمعياً هاماً، هل يمكن لعلاقة طبيعية أن تنشأ بين شخص كان فاعلاً في الثورة وآخر اختار أن يكون متفرجاً؟

 

في الفيلمين الأخيرين "داخلي-خارجي"، إخراج يسري نصر الله، وفيلم "أشرف سبرتو" إخراج أحمد علاء الدين، قصص وتركيبات بسيطة فشل الأول في نيل إعجاب المشاهدين، إذ وصفه الناقد المصري محمود مهدي بأنه أفشل الأفلام التي ضمها "18 يوم". فيما لم ينجح فيلم أحمد علاء الدين أن يكون فيلماً قوياً على الرغم من احتوائه أكثر المشاهد تأثيراً في الفيلم على حد قول مهدي.

 

فيلم لا يمثل الثورة

أخيراً وبعد أن أصبحت مشاهدة الفيلم متاحة للجميع لم يعد من المستغرب فشل الفيلم في دخول المسابقة الرسميّة في مهرجان كان، فهو فيلم وإن كان قد حرّك بعض المشاعر لدى عدد من المتفرجين إلا أنه يتسم بصفة عامة بالاستعجال وبالحديث عن الثورة بسطحية. حيث يرى البعض أنه كان حرياً بالقائمين على هذا العمل أن لا يتعاملوا بانتهازية تجاه ثورة ضحى المصريون فيها بأرواحهم من أجل تحصيل حقوقهم اليومية "عيش حريّة وعدالة اجتماعيّة" لا دعوات واحتفالات سينمائيّة لا تمثلهم.

 

يقول المخرج المصري الراحل محمد خان: يصيب بعض السينمائيين فيروس تحقيق النجاح الذاتي والعالمية على قفا الثورة بفيلم روائي قصيرا كان أو طويلا بالاشتراك في مهرجانات دولية قد يغريها قبول أي فيلم عن الثورة

في الثاني عشر من مايو عام 2011 أصدر الفنان المصري عمرو واكد بياناً رسمياً(3) يعلن فيه عن قراره مقاطعة الاحتفال الذي خصصته إدارة مهرجان كان السينمائي للثورة المصريّة. كانت إدارة المهرجان قد أرسلت دعوة لصنّاع فيلم "18 يوم" للمشاركة بالفيلم خارج المسابقة بعد أن فشل الفيلم فنياً بفرض نفسه كمُنافس حقيقي.

 

كانت دوافع واكد للانسحاب هي اعتبار الحدث التكريمي حدثاً سياسياً بالدرجة الأولى ولا علاقة له بأي تكريم فني، واقترح سحب عرض الفيلم طالما أن أرضية العرض سياسية بهذا الشكل وأن عرضه إما أن يكون ضمن مسابقة فنيّة أو لا يكون، بالنسبة له، كأحد المشاركين في الفيلم، لا يمكن اعتبار "18 يوم" ممثلاً لثورة 25 يناير علاوة على وجود العديد من الوجوه التي شاركت في الفيلم -دون أن يعلم عنها مسبقاً- معروفة بمواقفها المعادية للثورة، إلى جانب الضعف الفني الذي تتسم به بعض الأعمال داعياً إلى إعادة إخراجها في صورة لائقة.

 

في مقال له بعنوان "ترزية سينما الثورة"(4)، يقول المخرج المصري الراحل محمد خان "يصيب بعض السينمائيين فيروس تحقيق النجاح الذاتي والعالمية على قفا الثورة بفيلم روائي قصيرا كان أو طويلا بالاشتراك في مهرجانات دولية قد يغريها قبول أي فيلم عن الثورة، وهكذا مثل الترزية تفصل بعض الأفلام في عجل للحاق بمهرجان ما أو بآخر دون تفرقة بينها تحت راية فيلم يكاد يلمس ويعجز عن اعتناق ثورة لا تزال في مهدها فتتحول رؤيتهم الناقصة إلى سلعة مغشوشة بسطحية أو مجرد ردود أفعال عشوائية أو اللجوء إلى تخيلات مفبركة".

المصدر : الجزيرة