شعار قسم ميدان

سحر طوكيو الناعم.. لماذا نعشق الأنمي الياباني؟

استمع للتقرير

أعطت تلك البلاد الطافية فوق المحيط الهادي أقصى شرقي آسيا العالم الكثير من الاختراعات؛ فكان من اليابان أن جاء الهاتف الخلوّي ذو الكاميرا والأقراص المُدمجة والحواسيب المحمولة إلى الوجود(1). وبالرغم من أننا نستخدم كل تلك الأشياء في حياتنا اليومية، إلا أن أحدًا منها لا يرتبط ببلده الأم في أذهاننا بشكل مباشر. فالابتكار الذي حمل اسم وروح اليابان إلى أقاصي الأرض لم يكن مُكوّن من دوائر كهربية وإلكترونيات، بل من ألوان وخطوط جذّابة والكثير الكثير من الخيال.

صار الأنمي (Anime) هو وجه اليابان الأكثر شهرة. ففي عام 2004، عندما بعثت اليابان للعراق بشاحنات مياه للإغاثة، رأى العراقيون المتطوعون في العملية أن علم اليابان المرسوم على جوانب الشاحنات لن يُميّزه الكثيرون؛ وبدلًا منه، اقترحوا وضع ملصقات كبيرة للكابتن ماجد فوق الشاحنات كطريقة أفضل حتى يعرف الناس من أي بلدٍ جاءت. (2)

تحول الأنمي إذن لما يشبه اللغة العالمية التي يتقنها الشباب والأطفال من شتى أنحاء العالم. وبالرغم من أن الرسوم المتحركة الأمريكية سبقته للوجود، إلا أنها، وعلى شهرتها الواسعة، لم تجن مثل تلك القاعدة الجماهيرية الواسعة والشغوفة التي يتمتع بها الأنمي.  في كتابه "قلعة الأنمي"، يُرجِع الباحث طارق الخواجي ذلك التفوّق لأسباب عدّة، أهمها انحصار الرسوم المتحركة الأمريكية في فئة عمرية معينة، مقابل التنوع الكبير الذي تقدمه مسلسلات الأنمي؛ وقد أدى ذلك الانحصار بدوره إلى: "ضيق المواضيع التي يناقشها الكارتون، وإلى التوحد القريبي والنسبي في آلية الشكل والمضمون". (3)

أما الأنمي على الجانب الآخر، فهو عالم واسع له هويته المميزة شكلًا ومضمونًا، ويحمل شتى أطياف التنوع سواء في المراحل العمرية التي يخاطبها، أو أنواع المشاهدين الذي يتوجه إليهم. وعبر تلك الأنواع نفسها، يناقش مواضيع عدّة ذات ثقلٍ وأهمية تقف رأسًا برأس مع الإنتاجات الجادة لعوالم الأدب والسينما. فكيف جاء الأنمي للوجود؟ وما هي أهم أنواعه وأبرز مواضيعه؟

بدايات الأنمي

يدين الأنمي بوجوده لشقيقه الأكبر "المانجا"، والذي تعود أكثر أشكاله بدائية للقرن الثاني عشر الميلادي، فقبل أن نرى شخصياتنا المفضلة تقفز وتجري على الشاشات، وقفت ثابتة على أوراق المانجا المرسومة بالأبيض والأسود. وقبل أن تصبح لتلك الشخصيات خلفيات وتواريخ، كانت مجرد رسوم عابرة خطّها راهب ياباني يُدعى "توبا سوجو". وتظهر في تلك الرسومات المنسوبة للراهب مجموعة من الحيوانات منخرطة في أفعال بشرية، فنراها في إحدى اللفائف تستعد لحفل، وفي أخرى تتصارع، وفي ثالثة تطارد قردًا سارق محاولة الإيقاع به. (4)

أما الأنمي، فتعود بداياته لأوائل القرن العشرين؛ فحين سافرت الرسوم المتحركة من أمريكا وروسيا وفرنسا لليابان، انبهر الناس بها، وحمل مجموعة من الفنانين على عواتقهم مُهمة إنتاج رسوم متحركة تحمل روح البلاد وتراثها المميز. وبالفعل، استلهمت أعمال الأنمي الأولى الفلكلور الياباني، متخذة من قصصه حبكاتها؛ أو على الأقل، هذا ما شهدناه في الأعمال القليلة التي وصلتنا بعد أن نجت من زلزال 1923 المُدّمر الذي ضرب إقليم كانتو في اليابان وأدى لفقدان معظم أفلام الأنمي الأولى. (5)(6)

لكن الفنانون لم يبقوا أحرارًا طويلًا في اختيار مواضيعهم؛ فبحلول الثلاثينيات، دخلت اليابان في حروبٍ طويلة مع الصين، تلاها اشتراكها في الحرب العالمية الثانية، لتعلو النعرة القومية والروح العسكرية وتسيطر على ما عداها، وتوجه السلطات الأنمي وتحصره في أعمال البروباجندا، ما سيحول دون تطوره وازدهاره.  ولم يكن سوى بعد أن وضعت الحروب أوزارها أن ظهر من سيحدث ثورة وتغيير غير مسبوقين في عوالم المانجا والأنمي. (7)

أوسامو تيزوكا (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان هذا الشخص هو "أوسامو تيزوكا"، والذي درج المؤرخون والنقاد على تسميته بـ"الأب الروحي للمانجا والأنمي". ففي عام 1947، وهو بعدُ طالب في الجامعة يدرس الطب وعمره لا يتجاوز التسعة عشر عامًا، أطلق تيزوكا "جزيرة الكنز الجديدة"، أول أعماله، والذي سيصنع فيما بعد مفهوم الـ"التانكابون" أو الرواية التصويرية. وبالرغم من صفحاتها التي وصلت لـ190 صفحة، حقق عمل تيزوكا الأول مبيعات تخطت الـ400,000 نسخة، وهو الأمر الذي لم يكن متوقعا أو اعتياديًّا في بلادٍ دكتها الحرب وكسرت روحها القنبلة النووية وضرب أهلها الفقر المُدقع. (8)(9)

استلهمت رسومات تيزوكا التقنيات السينمائية، من تقريب ومباعدة، ولقطات قريبة، وتصوير من أعلى، وتحديد الكادر على الشخصية، فلم يكن من المُستغرب أن يتجه بعدها لتحويل بعض من أشهر أعماله لمسلسلات أنمي أنتجها الاستوديو الذي أنشأه وقام هو نفسه بإخراجها.(10) وقد كان مسلسل "الذرة القوية" أو ما عُرَف في الغرب لاحقًا بـ"أسترو بوي"، هو العمل الذي يعود له الفضل في بداية شهرة الأنمي عالميًا وانتشاره خارج حدود اليابان بعد أن حقق شهرة مُدوية في اليابان نفسها، فكان يشاهده 40% من السُكّان الذين امتلكوا أجهزة تلفزيون حينها. عُرضَت أول حلقات المسلسل عام 1963 في اليابان، وفي سبتمبر من العام نفسه، اشترت شبكة الـ NBC الأمريكية حقوق عرضه في الولايات المُتحدة. (11)

فتح تيزوكا آفاقًا جديدة أمام الأنمي والمانجا لم يكن أحد ليتخيلها، وبلغا معه شهرة وانتشارًا لم يصلا إليها من قبل. نشأ جيل كامل من الأطفال اليابانيين على حب أعماله، وكبروا وكبر معهم حبهم لهذين الفنين؛ وقد تطلب نضج ذلك الجيل وبلوغهم الشباب، نضجًا موازيًا في الأعمال المُقدَمة. وبهذا، تحرّك الأنمي من فئة الأعمال المناسبة للصغار ليتناول مواضيع أكثر عُمقًا وثيمات أكثر تعقيدًا. (11)

تقع أحداث فيلم "أكيرا" في مدينة "نيو طوكيو" المُتخيلة، حيث تسكن الشخصيات في عالم كابوسي تسيطر عليه الاضطرابات والقلاقل السياسية والعزلة الاجتماعية وفساد السلطات. (مواقع التواصل الاجتماعي)

وقد فتح الباب لهذا التطور عمل عظيم آخر: فيلم "أكيرا" لكتشيرو أوتومو القائم على مانجا تحمل نفس الاسم. تقع أحداث الفيلم في مدينة "نيو طوكيو" المُتخيلة، حيث تسكن الشخصيات في عالم كابوسي تسيطر عليه الاضطرابات والقلاقل السياسية والعزلة الاجتماعية وفساد السلطات. وقد تكلف إنتاج فيلم "أكيرا" بليون ين، ما يجعله أحد أغلى أفلام الأنمي على الإطلاق، وعُرَض عام 1988 ليلقى نجاحًا نقديًّا وجماهيريًّا ساحقًا في اليابان وخارجها، ويحتل إلى الآن مرتبة مرتفعة باستمرار في قوائم النقاد لأفضل أفلام الخيال العلمي في التاريخ. ولم يتوقف تأثير أكيرا عند أفلام الأنمي، فقد ألهم أيضًا العديد من أفلام الخيال العلمي الشهيرة مثل "المصفوفة" (The Matrix)  و"استهلال" (Inception). (12)

ولا يمكننا أن نتناول أعمال الأنمي ذات الموضوعات والثيمات الناضجة دون أن نأتي على ذكر أفلام "هاياو ميازاكي" و"إيساو تكاهاتا"، المخرجين العظيمين ومؤسسَيْ استوديو غيبيلي، أحد أهم استوديهات الأنمي في اليابان. فتأتي أفلام كلٍ منهما مزاوجة بين روعة وجمال الرسوم، وعمق وحساسية القصص والشخصيات. وقد كان فيلم ميازاكي "المخطوفة" (Spirited Away)، أول فيلم أنمي على الإطلاق يفوز بجائزة الأوسكار في عام 2003، ما ساهم في فتح أعين الكثير من الجماهير الغربية على ذلك الفن.(13) وبالرغم من تطوره الكبير عبر تاريخه الطويل الحافل بالأحداث، ظلت الكثير من الأشياء في عالم الأنمي ثابتة لا تتغير. أحد أهم هذه الأشياء هي تصنيفاته الأساسية، والتي ورثها وظل يتشارك فيها إلى الآن مع المانجا.

كان فيلم ميازاكي "المخطوفة" (Spirited Away)، أول فيلم أنمي على الإطلاق يفوز بجائزة الأوسكار في عام 2003. (مواقع التواصل الاجتماعي)

أنواع الأنمي

لمسلسلات الأنمي تصنيفاتها الخاصة التي تكونت بشكل أساسي بحسب عُمر وجنس الجمهور المُتلقي، فأنمي "الشونن" و"السينن" على سبيل المثال موجهان للذكور من المراهقين والرجال. ونجد نظيريهما عند الإناث في الشوجو للصغيرات، والجوسي للشابات والسيدات. (14)

وقد ساهمت تلك التصنيفات بدورها في تشكيل المواضيع التي يتناولها كل نوع من أنواع الأنمي. فيتمحور أنمي الشونن –كلمة شونن تعنى "فتى" باليابانية – حول معارك ونزالات يقودها البطل، والذي غالبًا ما يكون صبيًّا، برفقة أصدقائه في سبيل هدف معين. قد تتخذ تلك النزالات شكلًا حرفيًّا يتعارك فيه البطل وجماعته مع العدو إما باستخدام الأسلحة أو الفنون القتالية، أو تكن أكثر تجريدًا فتنسحب تحت غطاء المباريات الرياضية. وفي كل الأحوال، تتميز أعمال الشونن بإيقاعها السريع وحبكاتها الحافلة بالأحداث المتلاحقة التي تجعلها من أكثر أنواع الأنمي تشويقًا وانتشارًا بين الجماهير. فتفوق أنميهات الشونن ما عداها شهرة بكثير، لنجد أن مسلسلات مثل "دراجون بول"، و"بليتش"، و"وان بيس"، و"ديث نوت"، و"سلام دانك"، و"الكابتن ماجد" كلها تنتمي للشونن.  (15)(16)

أما الشوجو، والتي تعني "فتاة" باليابانية، فغالبًا ما تتناول مواضيع عاطفية ورومانسية، لتصور قصة وقوع بطلتها المراهقة في حب فتى وسيم وتتتبع مراحل علاقتهما معًا. لكن مانجا وأنمي الشوجو لم يبقيا محدودين بالخط الرومانسي فقط، فسرعان ما انطبعت عليهما التغيرات الفكرية والثقافية التي طرأت على اليابان نفسها، وعلى صناعة الأنمي التي أخذت تصير أكثر تطورًا وانفتاحًا بمرور السنوات، لتتفرع عن الشوجو أنواع أخرى تناولت مواضيع أكثر ثراءً وتعقيدًا.(17)

 ولعل أهم وأشهر تلك الأنواع الفرعية هو "الماهو"، أو الفتيات الساحرات. يدور ذلك النوع حول مجموعة من الفتيات اللواتي يظهرن جميلات الهيئة وواسعات العيون في ملابس أنيقة مزكرشة، لكنهن تحت هذا المظهر التقليدي، يخفين قوى سحرية وقدرات خارقة يحاربن عبرها قوى الشر وينقذن الضعفاء. ويُعد أنمي "سايلور مون" من أشهر أعمال الأنمي التي تنتمي لنوع الفتيات الساحرات. (18)(19)

ولا يمكننا بالطبع أن نغفل الـ"كودومو"، وهو الأنمي الموجه للأطفال الصغار. بعض من أهم أعمال الكودومو مُقتبسة عن روايات وقصص غربية أنتجها ستوديو نيبون ضمن سلسلة "روائع المسرح العالمي" وذيع الكثير من مسلسلاتها في العالم العربي مثل "هايدي" و"دروب ريمي" و" سالي" و"عهد الأصدقاء". (20)

دروب ريمي (مواقع التواصل الاجتماعي)

هنالك أيضًا أنواع أخرى من الأنمي والمانجا لا يحددها الجنس والفئة العمرية للمتلقي، مثل "الميكا" –مختصر لفظة "ميكانيك"- والذي يُعرف أيضًا بأنمي الروبوت. يُعرف طارق الخواجي ذلك النوع من الأنمي كالآتي: "يعتمد هذا الصنف من الأنمي في قصته على آلة متطورة تقنيًا، وبشكل يفوق القدرات الأرضية، تتخذ هذه الآلة على الدوام هيئة رجل بشري لكن بحجم كبير للغاية. ومن الأنماط الثابتة لهذه القصة الشاب المراهق الذي يقود هذا الآلي المدرع هائل الحجم". وقد لاقت تلك الأعمال رواجًا خاصًا العالم العربي، فانتشرت مسلسلات مثل "جراندايزر" و"مازينجر" و"أجنحة الكاندام" بشكل كبير بين أبناء جيلي الثمانينيات والتسعينيات الذين شاهدوها في طفولتهم على شاشات التلفاز.( 21)

لكن ليست كل أنواع الأنمي بريئة تمامًا؛ فاليابان، المعروفة بالانفتاح الجنسي الكبير لثقافاتها حتى مقارنة بالغرب، وبتقبلها لشتى الميول والممارسات الجنسية بين الأفراد، لم يكن غريبًا أن نجد في فنها الأشهر تمثيلًا لتلك العلاقات. (22) فهنالك نوعين من الأنمي مخصصين بشكل كامل للعلاقات المثلية، فيصور "اليوري" تلك العلاقات بين النساء،(23) بينما يتبع "الياوي" العلاقات بين الذكور(24). هذا بالطبع دون التطرق للـ"حريم"، والذي يصور العلاقات التعددية(25)، ولا أن ندخل في تفاصيل الـ"هانتاي"، وهو مقابل الأنمي للأفلام الإباحية.( 26)

undefined

بعالمه الواسع من مسلسلاتٍ وأفلام، وقصصه الذكية التي تطرق لشتى القضايا والمواضيع، خلق الأنمي لنفسه قاعدة جماهيرية واسعة من المحبين في كل بقاع الأرض، يتابعون أعماله الجديدة بشغف، ولا يتوقفون عن مناقشة وتحليل كلاسيكياته الأعظم في منتدياتهم ومجتمعاتهم على شبكة الانترنت. فبالتعدد الشديد الذي تشمله إنتاجاته، وبالجودة العالية التي تخرج بها الكثير من أعماله، وبالطبقات المُركبة التي تأتي بها حبكات عدد ليس قليلًا من مسلسلاته وأفلامه، أسر الأنمي قلوب معجبيه، وفتح لهم نافذة على عوالم أخرى مليئة بالسحر. ومع كل ما يقدمه هذا الفن، فليس من الغريب حقًا حالة الولع العالمية به، ولا أن يكون هو المنتج الثقافي الأشهر لبلده اليابان. وستظل ملايين العيون تطلع في كل عام إلى الشرق، منتظرة أن تشاهد أحدث إنتاجات فنها الأثير، فوحدها عوالم الأنمي تجعلها تتفتح على اتساعها في سرورٍ ودهشة.

المصدر : الجزيرة