شعار قسم ميدان

كيف يبدع النقص الإنساني فنًا وجمالًا؟

paint
 

"إن الدافع الكبير المسيطر عليّ هو أن أتعلم كيفية تصوير النقص لا الكمال"

 – فنسنت فان جوخ

تَطرح النقاشات حول عبقرية فنسنت فان جوخ الصارخة وتأثير حالته النفسية والعقلية على رؤيته للمناظر التي كان يرسمها، سؤالا مثيرا، هل من الممكن أن تكون لوحات فان جوخ وأسلوبه نابعين من مرضه العقلي؟ هل أثّر هذا المرض العقلي على الطريقة التي كان يرى بها العالم؟ هل من الممكن أن يكون فان جوخ قد رأى العالم كما رسمه، ولوحاته لم تكن إبداعا فريدا بقدر ما كانت محاكاة للطبيعة كما رآها؟

لا تهمنا كثيرا الإجابات العلمية حول هذا السؤال بقدر أهمية ما يطرحه من احتمالات مدهشة حول الطرق المختلفة التي يمكن أن يرى بها كل شخص العالم، أن نقرأ العالم أو نراه في كتابات ولوحات المجانين أو المصابين بعلة ما فكرة عظيمة وملهمة، في عالم يدفعنا بقوة نحو البحث عن الكمال، يدفعنا لكي نكون نسخًا متطابقة تؤدي أدوارا محددة مسبقا، لا مكان فيه لوجود نقص أو اختلاف أو تفرد.

لوحة
لوحة "حقول القمح" للرسام فنسنت فان جوخ.
 

إن عيوبنا هي التي تجعل كل فرد فينا مميزا عن الآخرين، فإذا كنا جميعا بلا عيوب ولا نقائص، سنصبح مجرد نسخ متطابقة تبعث على الملل، وهذا أيضا ينطبق على الفن؛ لو أن مجموعة من طلاب الفنون الجميلة لديهم نفس القدرات والمهارات وطريقة الرؤية رسموا نفس المنظر كما رأوه بالضبط، سنشاهد مجموعة من اللوحات تشبه تماما الصور الفوتوغرافية، مجرد تخيل الأمر يشعرنا بملل وضجر لا يطاق.

عندما ظهر التصوير الفوتوغرافي حرر الفنانين من قواعد الرسم التي وضعت لمحاكاة الطبيعة، وبدأ الفنان يرسم ما يراه هو، وما يشعر به، فقدم الفن الحديث تنوعا كبيرا في الموضوعات والأساليب الفنية، ومن اللافت أن الكثيرين من فناني العصر الحديث ربما كانوا بالفعل يرون العالم بطريقة مختلفة عما نراه بسبب قصور ما في الإبصار.

جمال الرؤية غير المكتملة
لقد أجريت الكثير من البحوث على تأثير الإبصار على التعبير الفني خاصة الرسم، على سبيل المثال، تشخص العين المصابة بقصر الإبصار الأجسامَ القريبة بوضوح، لكنها لا تتمكن من رؤية الأشياء البعيدة إلا كانطباعات، وتمثل الاستكمايزما (اللابؤرية) خللا شائعا في الرؤية، يضيف عاملا له خصوصيته وتأثيره على المعلومات البصرية التي تصل إلى الدماغ، حتى الانحرافات الطبيعية للإدراك اللوني لها أثرها على المدى البعيد على الصور الذهنية، وبالتالي كم ستكون الفروقات كبيرة خصوصا مع حالة مثل عمى الألوان إذا طلب من أحدهم أن يرسم لونا ما كما يراه هو.

ومن الأمثلة المبكرة على ذلك، الفنان جون كونسبتال (1776-1837) وهو أحد أهم فناني الحركة الرومانسية في بريطانيا، اشتهر بلوحاته التي رسم فيها الطبيعة والريف في بلاده، والتي لم تشهد إنجلترا لوحات في جمالها قبله، وتعد لوحة عربة القش (1821) أحد أشهر أعماله، عرف جون كونسبتال بعبقرية استخدامه المذهل للون الذي يُعزا سببه إلى إصابته الجزئية بعمى الألوان.

منذ سنوات عدة حصلت لوحة عربة القش (1821) في استطلاع رأي على المركز الثاني كأكثر لوحة محبوبة في بريطانيا؛ لأنها تصور بدقة بالغة الجوهر الحقيقي لما يعنيه الريف الإنجليزي، يرجع هذا المشهد لمنطقة في قرية شرق إنجلترا تتميز بجمالها الشديد وأراضيها الخضراء النضرة، رُسمت هذه اللوحة في بداية القرن التاسع عشر مع بزوغ الثورة الصناعية في لندن، عندما كان كونسبتال يشهد تآكل الريف أمام الثورة الصناعية.

لا تصور اللوحة جمال الاسترخاء الذي نشعر به في الريف، بل تصور العمل، العربة بالأحصنة تحاول المرور عبر النهر، وهناك أمام المنزل امرأة تباشر عملها المنزلي، لكن مع ذلك يظل المكان هادئا وآمنا ويحمل الكثير من مشاعر الحنين.

لوحة
لوحة "عربة القش" للرسام جون كونسبتال.
 وكذلك أثر الزيغ البصري على قدرة الفنان وليام تيرنر (1775-1851) على الرؤية، مما جعل لوحاته تحمل هذا الطابع الضبابي الغامض الذي تظهر من خلاله بالكاد عناصر اللوحة.

في لوحته المطر وقطار الغرب العظيم (1844) يرصد تيرنر التغير الكبير الذي يحدث في المجتمع، لقد تغيرت وسائل النقل، وتغير مفهوم السرعة تماما، جعلنا تيرنر نشعر بالسرعة الرهيبة للقطار المتجه نحونا، الأمطار تقصف القطار والجسر، فيزداد شعورنا بسرعة القطار الهارب بعيدا، لقد جعلنا نشعر برطوبة الجو في ذلك اليوم، وأن نسمع صوت القطار الصاخب وصوت المطر الذي يصطدم به.

بالمقارنة بوسائل النقل والمواصلات في ذلك الوقت، كان هذا الوحش الحديدي الجديد يعتبر مثالا مذهلا على السرعة، رسم تيرنر القطار يسير مخترقا الحقول الخضراء من حوله، في إشارة للمواجهة التي بدأت بين القوة الصناعية التي ابتكرها الإنسان وبين الطبيعة.

يستخدم تيرنر أسلوبا فريدا في الرسم، يميل للتجريد الذي استخدمه بشجاعة قبل ظهوره بشكله المعروف الآن، لقد استخدم الألوان والتجريد بطريقة ملحمية أوبرالية، تجعل لوحاته تحمل طبقات متعددة من الانفعالات والمشاعر الجياشة التي لا تلبث أن تغمرنا وتبتلعنا مع أول نظرة للوحة.

  

لوحة
لوحة "المطر وقطار الغرب العظيم" للرسام تيرنر.

ولقد كان كلود مونيه (1840-1926) أول فنان يجعل من النظرة المحيطية سمة مميزة لأعماله، والتي هي الميزة الأساسية للمدرسة الانطباعية، كان الرجل يعاني عتمة العدسة (Cataract) الأمر الذي أرغمه على الاعتماد على ذاكرته في استخدام عصارات اللون المناسبة، لأن عينه كانت تعيقه عن استعمال اللون المناسب.

ولقد استنتج ج. رافين من خلال مراسلات مونيه مع طبيب العيون أن مرض عتمة العدسة المزدوج الذي أصاب الفنان هو الذي جعله يستخدم اللون الأزرق بكثرة في أواخر حياته، وفي 1920 عندما كان مونيه في الثمانين، أصبحت أكثر الأشكال التي يرسمها ضبابية، وعندما نجحت عملية عتمة العدسة 1923 حاول تصحيح لوحاته الأخيرة، لكن الحق أننا لا يجب أن نحزن على ما رسمه مونيه في تلك الفترة، لأنه ليس سوى جمال خالص.

عند النظر لسلسلته زنابق الماء، ينتاب الناظر شعور بالتأمل، يضفي عليها حسا من الجدية التي نتوقع رؤيتها في السياق الديني، لقد كان لدى مونيه رغبة متعطشة جدا لتصوير الجمال من حوله. إن ما يجذب الانتباه إلى لوحاته هو شدة اللون وجمال تناغم الألوان، الأمر الذي يجعل اللوحة أجمل مما هي عليه في الحقيقة.

جزء من سلسلة لوحات
جزء من سلسلة لوحات "زنابق الماء الطويلة" للرسام كلود مونيه.

 أما فنسنت فان جوخ فالحكايات حوله غريبة ومثيرة تماما مثل حياته الغامضة التي تحيطها عشرات الأسئلة حتى الآن، لقد كان لشخصية فان جوخ تأثير بالغ على أعماله بشكل عام، ولقد وجد في رسائله الشهيرة إشارتان حول حالة عينيه، في الرسالة المؤرخة 16 أكتوبر 1888 وهي رقم 554 والتي كتبها لأخيه ثيو يقول: "ما زالت عيناي متعبتين".

وفي رسالة أخرى بعثها إلى غوغان يقول: "كتبت إليك مؤخرا عن الإرهاق الغريب في عينيّ، حسنا لقد ارتحت ليومين ونصف ثم عدت إلى العمل مجددا، لكني لا أملك الجرأة على الخروج"، لم يكن فان جوخ في ذلك الوقت في حالة صحية جيدة، يضيف في الرسالة نفسها: "في أحيان كثيرة لا أعلم ما أقوم به، لأنني أعمل غالبا كالماشي في نومه".

بخلاف الانطباعيين، لم يكن فان جوخ مهتما برسم ما يراه، لكنه أراد أن يخترق الموضوعات التي يرسمها بشكل أعمق، لقد كافح كثيرا في لوحاته الأولى من أجل إظهار المعنى الداخلي لما كان يرسمه.

لقد كان فان جوخ مصابا بالصرع وكانت هناك نبتة معينة تستخدم في علاج الصرع في ذلك الوقت، من المعروف طبيا أن آثارها الجانبية تتضمن حدوث تشوش بصري وظهور الأشياء باللون الأخضر والأصفر، وهناك مجموعة كبيرة من الدلائل الأخرى التي تشير للقصور والتشوش الذي أصاب حالة الإبصار لدى فان جوخ.

  

لوحة الدكتور كاخيت أمامه نبتة الصرع للرسام فان جوخ - 1890م (مواقع التواصل الاجتماعي)
لوحة الدكتور كاخيت أمامه نبتة الصرع للرسام فان جوخ – 1890م (مواقع التواصل الاجتماعي)

في الحقيقية الكثير من الفنانين الذين سطروا تاريخ الفن كان لديهم خلل وقصور في الإبصار، عانى كاميل بيسارو اضطرابًا في حدة الرؤية، وكان مصابا بقصر النظر لكن بشكل أقل من إدغار ديجا، وكان سيزان يعاني قصر النظر أيضا والشيء نفسه ينطبق على رينوار ومعظم الانطباعيين، وكان آل كريكو يعاني الاستكماتيزما وبالتالي تختفي الصفة المميزة للصوره عندما ننظر إليها من خلال عدسة مصححة.

إن هذا الجمال المكسور والآلام والأخطاء هي ما أوجدت لنا الفن الذي نستمتع به، إن فكرة الكمال تبدو أقرب لمؤامرة كبرى صممت لتجعلنا نشعر دائما بأننا نفشل، وأن مستقبلنا يتداعى، لقد خلقنا لنخطئ ونتقبل نقصنا وتصيبنا الفوضى أحيانا، ثم نخلق من قلبها نظامنا الخاص، لقد خلقنا لنجد الجمال والحب ولنبحث عن النعمة بداخل آلامنا.

المصدر : الجزيرة