هل للفن جدوى في حياتنا؟
قد لا تكون -عزيزنا القارئ- أحد هؤلاء؛ لكنك ربما تساءلت يوما -خلسة بارتباك- عن الجدوى الحقيقية للفن؛ مع أن الكثيرين يخشون طرح هذا السؤال؛ لماذا تُمنح أعمال الفنانين كل هذه القيمة؟ وهل الزحام -غير المسبوق- أمام المتاحف الكبرى؛ يعني أن الناس يعرفون القيمة الحقيقية للفن؟ في النهاية؛ لا أحد يطرح السؤال بشكل مباشر؛ لأن الجميع يتوقع أن الإجابة معروفة مسبقا، وإذا تم طرحه، يسود الجميع صمت مشرب بحرج وارتباك.! لقد عمل مؤرخ الفن "جون أرمستورنج" مع الفيلسوف "آلان دو بوتون" للإجابة عن هذا السؤال في كتاب "الفن كعلاج"، وتكمن مركزية طرحهما في أن غرض الفن الرئيس هو تعويضنا عن الشعور بالنقص النفسي، وإسكات هواجس عدم الكمال، فالفن أداة معقدة تملك إمكانية توسيع قدراتنا، وتعزيزنا بقدرات أكبر من التي منحتنا إياها الطبيعة.
إن معظم الأعمال الفنية الشهيرة والمحبوبة في العالم تصور الأشياء الجميلة؛ الزهور في الربيع، والسماء الصافية، والأشخاص المتحمسون والسعداء؛ مثلا، حققت البطاقات البريدية المطبوع عليها لوحة "كلود مونيه" (زنابق الماء) أعلى المبيعات في العالم، وعندما يفكر الأشخاص في تزيين منازلهم، يحضرون لوحات للأزهار والربيع والسماء الصافية والعصافير المغردة..
لكن هذا الاهتمام من جانب غالبية الناس بالجاذبية والجمال بمعناه البسيط؛ يسبب القلق للنقاد الجادين، الذين يعتقدون أن الحماس تجاه هذا الجمال، ربما يعبر عن استجابة سيئة وذوق متدني، ويرجع قلقهم إلى سببين، الأول أنهم يعتقدون أن الصور الجميلة تغذي العاطفة، والتي تعد أحد أعراض عدم الانخراط الكافي في التعقيد، وبالتالي عدم القدرة على استيعاب جوهر المشكلات التي يمتلئ بها العالم؛ والسبب الثاني هو الخوف من التأثير المخدر لهذا الجمال؛ والذي قد يجعلنا غير قادرين على رؤية الظلم والشرور في العالم. لكن "جون أرمسترونج" و"آلان دو بوتون" يريان أن هذه المخاوف ليست في محلها؛ لأن هذا الجمال لا يعكس سطحية في فهم المشكلات؛ إنما يمنحنا "الأمل" الذي هو مهارة نفسية تساعدنا في السعي نحو حياة أفضل.
إن غالبية الناس لديهم الكثير من المشكلات في حياتهم؛ لأن الألم والمعاناة جزء أساسي من تجربة الوجود، لذا فنحن نحتاج ما يذكرنا بالجانب الآخر، والذي هو في الغالب أقل حضورا بينما تغلب المشكلات على حياتنا؛ لذلك لا يقدر الأطفال الورود كثيرا، لأنهم لم يختبروا الألم الحقيقي، إن الإنسان لا يمكنه تقدير قيمة الأزهار الجميلة دون أن يختبر المعاناة. إن المخاوف التي يفترض النقاد الجادون وجودها قد تعني أن الفنانين الذين يرسمون اللوحات الجذابة لم يعرفوا حقيقة الألم والمعاناة في حياتهم، لكن هذا الافتراض بعيد تماما عن الحقيقة.
إن "رينوار" الذي يطلق عليه النقاد الفنان السعيد، والذي كانت معظم لوحاته تصور نساء شديدي الجاذبية وأِشخاصا سعداء، إنما عانى كثيرا في بداية حياته مع الفقر والفشل، وفي نهايتها مع المرض الشديد والعجز، ومع ذلك كان مصرا على رسم هذه الموضوعات، لقد كان يرسم العالم الذي كان يأمل في وجوده. إن اللوحات الجميلة لن تجعلنا ننسى أطفال سوريا، أو نغض الطرف عن الظلم والوحشية، إنما ستسعى لتذكيرنا بالجانب الأفضل من الحياة والذي نستحقه جميعا.
"كلما زادت صعوبة حياتنا، كلما زادت قدرة الزهور على تحريك مشاعرنا، إن الدموع هي استجابة لجمال الصور وليس للحزن فيها ، ويالجمال هذا."
– كتاب الفن كعلاج
ويرى "دو بوتون" أن التفاؤل والحماسة تعدان إنجازاً، وبسببهم نسعى إلى ما نريد بجد، فالحماس مكوّن هام من مكوّنات النجاح؛ على سبيل المثال، لا يبدو أنّ الراقصين في لوحة "ماتيس" الشهيرة يرفضون التعامل مع مشاكل كوكبنا، لكن وانطلاقاً من علاقتنا الناقصة والمتنازعة مع الواقع، يمكننا أن ننتبه قليلاً إلى تصرّفهم التحفيزيّ الذي يجمعنا مع جزء مبهج من ذاتنا، لا تقترح الصورة أن كل شيء على ما يرام بقدر ما ترينا إمكانية أن يساعدنا الترابط في جعله على ما يرام.
لكن لوحة مثل لوحة "إدوارد هوبر" هذه التي تقف فيها المرأة وحيدة وحزينة بينما يشاهد الجميع الفيلم في سعادة واستمتاع، تذكرنا بأننا جميعا في هذه المعاناة، إننا لسنا وحدنا الذين نعاني هذه الآلام الداخلية والحزن والأسى والوحدة، فتعمل اللوحة على جعل معاناتنا عادية ومقبولة، ومرئية للجميع، وتقلل خوفنا وذعرنا من أن نكون نحن وحدنا الخاسرين والفاشلين والتعساء. عندما سأل أحد المذيعين "مارك روثكو" ما الذي تعنيه لوحاتك؟ أجاب أن كل ما يريده هو أن يضع حزنه في اللوحة؛ ثم يأتي المشاهد ويضع حزنه -أيضا- عند رؤيتها؛ فيصبحون سويا أقل وحدة، وربما هذا تحديدا ما يقوم به الفن.!
يرى "دو بوتون" أن كل ما نراه يمكن أن يؤثر علينا، ويعكس ذلك خياراتنا في تصميم منازلنا والأثاث الذي يعجبنا، فيشي ذوقنا في الاختيار بالكثير عن شكل حياتنا الحالي، يقول "دو بوتون" عن نفسه إنه لطالما أحب الأثاث شديد البساطة، والتصميمات الهادئة والتى تشبه صفحة فارغة أو بيضاء، ويفسر هذا بكون حياته مليئة بالعمل والأحداث اليومية والزحام الشديد؛ لذلك فالمنازل الهادئة والفارغة تعيد إليه التوازن.
إن الإعلام يركز على إضفاء البريق على الشهرة والثراء، وأحدث صيحات الموضة، وأحدث موديلات السيارات، فيجعلنا نشعر بالسخط على حياتنا، والضجر من كل ما نقوم به، بينما يركز الفن على قيم أخرى تجعلنا أكثر تقديرا لحياتنا اليومية. لقد رسم "جون كونسبتال" السماء والسحاب، وكان مفتونا بهما، فأضفى بريقا على شيء نستطيع أن نشاهده ونستمتع به كل يوم في حياتنا، وصورت عشرات الأعمال الفنية الفواكه التي نحضرها جميعا لبيوتنا، صورت أيضا الهدوء، وصورت الطيبة والحنان والسلام؛ فأضفت بريقا على قيم أخرى غير تلك التي يصدرها لنا الإعلام.
لقد ظل "آلان دو بوتون" و"جون أرمستونج" حريصين على التأكيد أن نظريتهما لا تسعى لفرض تصور معين على الآخرين، أو توجيههم عن كيفية التعامل مع حياتهم، أو فهمها؛ كما تفعل آلاف الكتب التي تسمى كتب المساعدة الذاتية وما شابه، إنما ما يهمهم بحق؛ هو اقتراح طريقة مختلفة لرؤية الفن؛ طريقة تسمح للفن أن يتواجد في حياتنا اليومية بصورة أكثر فاعلية.