شعار قسم ميدان

الحُريّـة تقود الشعب.. الفن في خدمة الثورة

A visitor looks at Eugene Delacroix 's painting,

"إنّ لم أقاتل مِن أجلِ وطني، فعلى الأقلِ سأرسمُ له"[1]
 (ديلاكروا)

عاشَ الرسّام الفرنسي فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا في الفترة مِن 26 إبريل 1798 حتّى 13 أغسطس 1863، وهو مِن روادِ المدرسة الرومانسيّة في الرسم، كذلك فإن لديلاكروا العديد مِن اللوحات الاستشراقيّة التي صوّرت حياة العرب والمسلمين في القرنِ التاسع عشر[2]، إلا أنّ هُناك لوحة بعينِها تُعتبر مُعرِّفة ليست فقط للرسّام ولكن لثورةِ يوليو 1830 الفرنسيّة أيضًا، هذه اللوحة هي "الحرية تقود الشعب / Liberty Leading The People".

شرع ديلكروا في رسم اللوحة في 30 يونيو 1830؛ وقد انتهى مِن رسمها بُعيد ذلك بثلاث شهور وعُرضت في صالون مايو الفني 1831، وهي تخليدٌ لثورةِ يوليو الفرنسيّة التي قادتها المعارضة الليبراليّة للإطاحة بالملك شارل العاشر لإقامة الجمهوريّة الفرنسيّة، وفي اللوحة يقف جسد الحرية متمثلًا في شكل إمرأة عاريّة الصدر تملأها الحيويّة متمردة ويبدو عليها الفخر ترفع راية الحرية وتقود الناس نحو النصر.

وهذه المرأة هي "ماريان" وتُعتبر ماريان تجسيد استعاري وتصوير لإلهةِ الحريّة، وترمُز عادة للصواب والعقل والحريّة والأمة والوطن والقيم المدنيّة ضدّ كُلّ أشكالِ الديكتاتوريّة، وهي الآن الشعار الوطني للجمهوريّة الفرنسيّة ويظهر وجهها على شعار الحكومة الرسمي، كما أن وجهها منقوشٌ على العملات المعدنيّة والطوابع البريديّة الفرنسية، وتستخدم صورتها كذلك على معظم الوثائق الحكوميّة.[3]

الفنّ كنشاط سياسي
لوحة
لوحة " الحرية تقود الشعب" للفنان ديلاكروا (مواقع التواصل)

رسم ديلاكروا اللوحة كمساهمة شخصيّة مِنه في الثورة، فعوضًا عن حمل البنادق والهتاف في المظاهرات؛ حمل فرشاته ورسم لوحة هي الآن الأشهر والأكثر تعبيرا عن الثورة وقيمها، ومِن النظرة الأولى للوحة نجد اللوحة مزدحمة بالعديد من المُقاتلين والقتلى، وهذا الزخم أتى في بناء هرمي له رمزيته ودلالته.

كانت لوحة "الحريّة تقود الشعب" ذات دلالة سياسية وعقلية رغم كونها رومانسية لها دلالة وجدانية. وقد امتد أثرها الفني لتُصبح أشهر اللوحات المُعبّرة عن الثورة الفرنسية بشكل خاص والحرية بشكل عام

فالهرم في اللوحة مُكوّن مِن ثلاث طبقات الطبقة الأولى مِن الأسفل هم القتلى اللذين دفعوا أرواحهم في سبيل مبادئ الثورة، يتمدّدون على الأرض كقاعدة يقف عليها البناء، هم وقود الثورة وأساسها الصلب، أما الطبقة الوسطى في اللوحة فهم الثوار، الذين يتبعون ماريان بكامل عتادهم للإطاحة بالملك لا يردهم عن ذلك عدد القتلى أو وعورة الطريق المقتظ بالأحجار حولهم، والطبقة العليا والأخيرة في الهرم هي ماريان الأعلى رأسًا بين الجميع، إلهة الحُرية التي تقودهم للإطاحة بالملك.

كذلك استخدم ديلاكروا ألوان العلم في رسم ملابس الثوار والقتلى كدلالة على أن قوة فرنسا في قوة شعبها، حتى أنّه استخدم لون فستان ماريان في تلوين شارات متفرقة يرتديها الثوار في اللوحة كرمز للوحدة الوطنية غير الألوان، رسم ديلاكروا صبي صغير يرتدي نفس ألوان العلم بالتدريج أزرق أبيض أحمر راكعًا أمام رُكبتي ماريان ومتطلعا نحوها.[4]

وظّفَ ديلاكروا كذلك الظلّ والنور في اللوحة بشكلٍ ملحمي درامي لإبراز ماريان كبطلة للوحة، تسليط الضوء على ماريان هو بدوره تسليطٌ للضوء على قيم العدل والحق والحرية غير ماريان، سلط ديلاكروا الضوء على جُثث القتلى أمامها وأسفل منها إذا هم الضريبة التي يدفعها الشعب مِن أجل حُريته. 

undefined

تحمل اللوحة تناغم بين شخصياتها رغم حالة الهرج والمرج. هذا التناغم ليس بسبب تشابهة الألوان فقط؛ بل بسبب وحدة المعنى الذي يسعى نحوه الجميع في اللوحة حتى مِن دفعوا أرواحهم ثمنًا لقضيتهم لا يزال وجودهم في أسفل اللوحة وقودًا مُحركًا للطبقات العُليا، فنجد على أقصى اليسار برجوازي يتبع ماريان بجواره كتف بكتف عامل مصنع يحمل سلاحه، لقد توحد الجميع تحت رايتها بغض النظر عن الفروق العمريّة والاجتماعيّة.

رسم ديلاكروا اللوحة على المذهب الرومانسي والرومانسية هي مدرسة مِن مدارس الفن التشكيلي؛ نشأت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر كرد فعل ضد الثورة الصناعية وعقلنة الطبيعة والأرستقراطية الاجتماعية التي قسمت المجتمع طبقات، تبنت الحركة موقفًا أكد على أنّ الروح والخيال هم المصدر الأصيل والرئيسي للحس الجمالي والتجربة الإبداعية؛ فمجدت الماضي والطبيعة والمشاعر الفردية الخيالية.[5]

رأي النُقّاد

undefined

ظلّت "الحريّة تقود الناس" غير متاحة للعوام حتى سنة وفاة ديلاكروا، وقد عُرضت للناس للمرة الأولى في متحف لوكسمبورج عام 1863، ثُم نُقلت بعد ذلك بـإحدى عشر عام إلى متحف اللوفر ولازالت معروضة فيه حتى الآن.

ويرى النقاد أن اللوحة مزجت بشكل فريد بين الحقيقة والخيال بين الواقعيّة والرمزيّة، وقدَّمت في مساحة 260 سم طول و325 سم عرض ملحمي يُلخص معركة "الثلاث أيام العظيمة  [Trois Glorieuse) [6).

لقد كانت "الحريّة تقود الشعب" ذات دلالة سياسية وعقلية رغم كونها رومانسية لها دلالة وجدانية، وقد امتد أثرها الفني لتُصبح أشهر اللوحات المُعبّرة عن الثورة الفرنسية بشكل خاص والحرية بشكل عام لأنها جمعت بين قوة الفكرة والشكل الحسي الجمالي، وقد أضحت واجهة لعالم الحُريات الذي لا يحده زمانه ولا مكان.

المصدر : الجزيرة