شعار قسم ميدان

عبد الهادي الجزار.. رسّام الفقراء والمهمشين

midan - عبد الهادي الجزار
نشأ الفنان التشكيلي المصري عبد الهادي محمد عبد الله الجزار (14 مارس 1925 – 8 مارس 1966)، في حي القباري في الإسكندرية؛ وهو حيٌ شعبيٌ بالقرب مِن الميناء، وقد كان لهذا الحي بالغ الأثر في تشكيل البنيَة الفنّية للجزار فيما بعد.

 

فقد ألفت عينا الجزار -منذ الصغر- مشاهد معاناة البُسطاء مِن العمال والشيَّالين الكادحين، وقصص الكفاح والصبر الطويل، كما أحبَّ الجزار اللهو على الشواطئ ومناظِر الشروق والغروب وعنفوان البحر، حتى إنّ عددا مِن أعماله الفنية -لاحقا- كانت مستوحاة مِن البحر والقواقع.[1]

 

عاش الجزار طفلا في تلك البيئة المشحونة بكافة أطياف المعاناة؛ مما ساهم في تفجُّر طاقات الإبداع لديه منذ الصغر، فقد فاز الجزار بالمركز الأول في مسابقة الرسم بين المدارس الثانوية عام 1938، وعلى الرغم من ميل الجزار للرسم منذ كان يافعا؛ إلا أنه التحق بكلية الطب (عام 1944) إرضاء لوالده فقط؛ قبل أن يتركها بعد ستة أشهر؛ ليلتحق بكلية الفنون الجميلة.[2] 

 

لوحة تكريم عمال قناة السويس  عبد الهادي الجزار - 1965
لوحة تكريم عمال قناة السويس  عبد الهادي الجزار – 1965
 

بُعيد قبوله في كلية الفنون التحق الجزار بجماعة الفنّ المعاصر التي أسس لها الأستاذ حسين يوسف أمين،[3] وقد توسعت مدارك الجزار الفنية في الجماعة حيث ساهم -مع رفاقه أعضاء المجموعة- في تحويل الاتجاهات الأكاديمية للفنانين المصريين إلى الاتجاهات الحديثة؛ فاهتمت الجماعة بدراسة أصل الإنسان ونشأته وعلاقته بالطبيعة، وفي تلك الفترة ظهرت بواكير أعمال الجزار الفنية وهي الكهف والإنسان البدائي وآدم وحواء.

 

وفيما بعد تحوّل الجزار عن الشكل الأكاديمي الغربي للفن، واهتم بالتعبير عن الحياة الشعبية للمصريين ومعاناة الطبقات الكادحة، وقد حاول من خلال أعماله في تلك الفترة الوقوف على أحلام ورغبات وتطلعات الأحياء الشعبية؛ فحملت أعماله طابعًا فلكلوريا خصبا بل وبدت أعماله سريالية أحيانا؛ حيث اهتم بالأساطير مثل الجن والزار والسحر، كما مست أعمال الجزار الناس بصدق في تلك الفترة لكنها مست السُلطات أيضًا.

 

تُعتبر قصة اعتقال الجزار مِن قِبل السلطات الملكية في أول معرض فني له [4] مِن أهم المحطات الفنية في تاريخه، فقد قدم الجزار في المعرض أعمق وأدق آلام المصريين في لوحات حتى صار موضوعًا للدهشة في الأوساط الفنية في داخل مصر وخارجها.

 

تبدأ القصة عندما رسم الجزار لوحة بعنوان "الجوع" وحملت أيضًا اسم "الكورس الشعبي" عام 1948، وقد أتت اللوحة شديدة الرمزية عاكسة لمأساة المهمشين والكادحين وفاضحة للنظام الملكي أيضًا.
 

ويظهر في اللوحة طفل مع عدد من الرجال والنساء يرتدون جميعهم ملابس نسائية شعبية بالية، تنطوي فكرة تقديم الرجال بملابس نسائية هنا على حس عالٍ من الرمزية؛ لأنها تدل على عجز الرجال وضعفهم.
 

لوحة الجوع للفنان عبد الهادي الجزار (مواقع التواصل)
لوحة الجوع للفنان عبد الهادي الجزار (مواقع التواصل)

وهناك أيضًا امرأة من النساء تقف عارية تماما كرمز للانتهاك وعدم وجود ستر، وأمام الـمُشاهِد يقف الجميع في الطابور بملامح ذليلة أمام صحون فارغة، ويضم أفراد اللوحة أيديهم لأنفسهم بطريقة شديدة الانكسار، ومن النظرة الأولى للوحة نلمس حالة التهميش والفقر المدقع التي تُعانيها الطبقات الكادحة، وما زاد الأمور اشتعالا هي الجملة التي أرفقها الجزار باللوحة "هؤلاء هم رعاياك يا مولاي".

لقد وجَّهَت الجُملة التي أرفقها الجزار بالمشهد أعين المشاهد مِن بعد اللوحة للملك مباشرة، فالرمزية التي تنطوي عليها اللوحة لم تعد مجالا للتفسير والتأويل بعد تلك الجملة، وعلى الفور أعطى الملك أمرًا باعتقال الجزار واعتقال أستاذه حسين أحمد أمين، ومصادرة اللوحة وإغلاق المعرض، وصار الجزار وأستاذه أول رسَّامين يتم اعتقالهما بسبب لوحة.[5]

وبعد وساطة الفنانيْن التشكيليّيْن محمود سعيد (1897 – 1964) ومحمد ناجي (1888 – 1956) تم تلإفراج عن الجزار وأستاذه بعد شهر من الاعتقال، لكن الجزار خرج من السجن وقد صار محل إعجاب وتقدير العديد من متابعي الفن ونقاده؛ حتى إن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أبدى إعجابه بالجزار، عندما زار معرض الفن الحديث أثناء زيارته لمصر مع رفيقته الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بفوار.[6]

تخرج الجزار من كلية الفنون الجميلة عام 1950 وكان الأول على دفعته بامتياز مع مرتبة الشرف وعُيّنَ مُعيدًا في قسم التصوير في نفس العام، درس الجزار الموسيقى على يد الموسيقار عبد المنعم عرفة، فتعلم الغناء والعزف على العود وكتابة الأشعار، وبدا الجزار في هذه المرحلة من حياته فنانًا شاملا وصاحب حسٍّ فني شديد الثراء.
 

لوحة
لوحة "المجنون الأخضر" رسمها الجزار عام 1950 (مواقع التواصل)

وبعد تجربة الاعتقال تفتح فكر وعقل الجزار على ظروف مصر ومأساتها القاسية في ظل الاستعمار والإقطاع، فقد عاش بعد انتقاله للقاهرة في حي السيدة زينب يرى يوميًّا الكادحين والمهمشين في بحر من المعاناة يُضمِّدون جراحهم وآلامهم بتقاليد عفا عليها الزمن، ويعلقون عجزهم على شماعة السحر والحسد والأعمال، فانغمس بكل جوارحه في حل تناقضات هذا العالم وما وراءه، وأتت لوحاته (القدر والمقسوم وفرح زليخة والمجازيب وقارئ البخت والمجنون الأخضر والعروسة والرفاق على مسرح الحياة) في طابع أصيل ووثيق الصلة بألم المصريين ومعاناتهم؛ حتى أُطلق عليه فنان الأساطير الشعبية.[7]

"دعني أعيش في عالمِ السحرِ الذي أحبّه؛ فإنّي لا أريدُ أن أعرفَ ما هي الأشياء.."[8]

                                                                         (عبد الهادي الجزّار)

في أواخر حياته الفنية حملت أعمال الجزار طابعًا مأساويا، يرجع ذلك لوعيه بخطورة مرضه وأنّه اقترب من الموت، فتصبَّغت أعمال الجزار بصبغة حزينة ومواضيع دينية ميتافزيقية تستحضر الموت

ولعل من أبرز الأعمال الشاهدة على ذلك هي لوحة "المجنون الأخضر" التي رسمها عام 1950، ومزج فيها الأساطير الشعبية بالمدرسة السريالية، والمجنون الذي تصوره اللوحة هو شخص ينتشر في الأضرحة والمقامات المصرية يتبرَّك به الناس عندما يدور بينهم بالبخور.
 

وتنطوي اللوحة على عدد من الرموز أبرزها رسم البشرة باللون الأخضر، عوضا عن اللون الطبيعي للبشرة، للتدليل على أنه شخص غير طبيعي أو مبروك، أيضًا الخمسة وخميسة التي تظهر على جانبي الرأس كحجاب ضد الحسد، لقد عكست اللوحة بقوة طغيان الأساطير على الواقع في مجتمع الجزار.

قِيلَ عنه

كَثُرت الأقاويل في مدح الجزار حيًّا وميّتًا وقد صال وجال في تحليل أعماله العديدون مِن روّاد الأواسط الثقافية أمثال الفنّان التشكيلي المصري التركي حسين بيكار؛ والناقد والفنّان التشكيلي المصري مختار العطار؛ ورسّام الكاريكتير المصري جورج البهجوري، والفنّانة التشكيليّة المصريّة جاذبيّة سري، وغيرهم..
 

"كنت أعتبره من أنضج الفنّانين المحدثين، وإحدى دعائم الحركة الفنية المعاصرة، ومن أعمق من أمسك ريشة من المصوّرين فكرا وفنّا وإنتاجًا."[9]
(حسين بيكار)

"اتخذ الجزار الرسم رسالة اجتماعيّة وإنسانيّة تُشعلها وتُضرم نارها المُقدّسة موهبة غزيرة واستعدادات نادرة وثقافة واسعة فوصل فنه إلى مستوى رفيع اندمج فيه الشكل بالمضمون الإنساني العميق، لقد تبلورت عظمته في ارتباطه بآمال شعبه وآلامه ومخاطبته الجنس البشري عامة."[10]
(مختار العطار)

"رائد الفنّ المعاصر عندنا"[11]
(جورج البهجوري، 1964)

"قطعنا شوطًا كبيرًا في الحياة معًا ويحزّ في نفسي توقفك في مقتبل العمر والأمل، ولكنّك حيٌّ إلى الأبد بفنك الذي بصمَ الحركة الفنيّة والحياة الفكرية في مصر بطابعك الفريد العميق – تحيّة من صديقة وزميلة ومُعجبة وحتّى نلتقي."[12]
 (جاذبيّة سرّي، ديسمبر 1971)


جاءت لوحة
جاءت لوحة "الدوامة" في السنوات الأخيرة مِن حياة الجزار قاتمة ومأساوية (مواقع التواصل)


وفي أواخر حياته الفنية حملت أعمال الجزار طابعًا مأساويا، وقد يرجع ذلك لوعيه بخطورة مرضه وأنّه اقترب من الموت، فتصبَّغت أعمال الجزار بصبغة حزينة ومواضيع دينية ميتافزيقية تستحضر الموت، لقد استهواه عالم الميتافزيقيا الغامض كليا وانتمى إليه بكل حواسه؛ حتى بدت آثار الموت جلية في اللوحات الأخيرة مثالٌ على ذلك لوحة الدوامة.

جاءت لوحة "الدوامة" في السنوات الأخيرة مِن حياته قاتمة ومأساوية، ففي أعلى يسار اللوحة يظهر جسد صغير للغاية مقارنة بحجم الدوامة في اللوحة، ويظهر هذا الشخص فاردًا ذراعيه وكأنه يحاول المحافظة على توازنه وهو يعبر صراطا حادًّا؛ ومِن أمامه ومن تحته تظهر الدوامة ضخمة وتشغل معظم مساحة اللوحة.
 

ونلمس في اللوحة إحساسا واضحا بخوف الشخص من العبور، ووهنه الشديد مقارنة بالموقف المُقدم عليه، كمت استخدم الجزار في اللوحة لونين اثنين فقط هما الأسود والرمادي وألوان زيت على قماش، و تنتمي اللوحة للمدرسة التعبيرية وهي إحدى مدارس الفن الحديث، وتعتمد على نزيف الألوان على القماش دون تمثيل الأشياء بحدود واضحة.

ومنذ وفاته في مارس عام 1966 لا يزال الجزار علما بين الفنانين والنقاد والمهتمين بالفن بشكلٍ عام، وبالرغم من حياته الفنية القصيرة التي لم تتعد العشرين عاما، جاء إنتاجه الفني منتميا لمدارس عدة؛ فقد صنفت بعض اللوحات على أنها واقعية، البعض الآخر صُنف سرياليا ورمزيا وتعبيريا، وقد حملت معظمها طابعًا مأساويا، وكانت بحق تعبيرا عن الواقع المصري شديد البؤس والتعقيد، كما كان الجزار نموذجا للفنان صاحب القضية، وقد تبوأ فنه مكانة فريدة خلال حياته وحتى بعد موته.

المصدر : الجزيرة