شعار قسم ميدان

قُبلة.. لتذهب الوحشة عن وجه العالم

ميدان - رسم

عِناقٌ حميمي بين حبيبين فيما تغمر الزخارف العالم من حولهم، وعِوَضًا عن الوقوف في مشهدٍ داخلي، كبيتٍ أو غرفة نوم، فضّل الرسّام أن يقف الاثنان في مشهد رمزي، في روحهما من الداخل. "القُبلة"، 1908، هي إحدى اللوحات الأيقونية للرسّام النمساوي غوستاف كليمت (1862 – 1918)، وإحدى أبرز لوحات الفترة الذهبية، وقد رسمها في سن الخامسة والأربعين، وهي أيضا أكثر أعماله شهرة.(1) واليوم، نجد بأنَّ القُبلة أمست إحدى أشهر اللوحات الأيقونية في القرن العشرين ككل.

 
امرأةٌ مُستغرقةٌ بكل حواسها مع حبيبها الذي يضُمها إليه ويقبض على رأسها بكلتا يديه ويطبع على خدها قبلة. يتخلل كلاهما الآخر، يكون قلبها/ قلبه قلبهما، جسدها/جسده جسدهما. يرتديان بعضهما البعض، ويذوبان في عناقٍ واحد، يتشاركان فرحهما/حزنهما بروح واحدة، فيظهران ما هما عليه من الداخل فقط، بلا أي إضافات.

  
وفيما يحتوي الرجل المرأة بمُعظم جسده تظهر هي أصغر وأقل في القوة البدنية، لكن مُنسجمين وغارقين في نفسيهما. لذلك أتت الزخارف المنقوشة على لباسي الرجل والمرأة مُعبرة للغاية عن المحتوى الجنسي الكامن وراء القُبلة، فثوبُ المرأة المليء بالدوائر يقابله ثوب الرجل المليء بالمستطيلات.

 
"إذا لم تستطع أن تُرضي الجميع بفنك وأعمالك، فأرضِ قلة"(2) 

(غوستاف كليمت)

 

undefined   

النقد الذي وُجّه للقُبلة لم يكن هيّنّا، لكن كليمت استمات في الدفاع عن محتوى لوحاته، خاصة لوحات الفترة الذهبية التي تميزت بدلالاتها الجنسية الصريحة والتي اعتبرتها الأوساط الفنية جريئة للغاية. هذا المزج للرموز -الذي اُعتبر  "حديثا" (Modern) في تلك الفترة- دافع عنه كليمت قائلا أيضا: "كفى رقابة… أريد أن أتحرر".(3)

 
أما بقية الزخارف التي تملأ اللوحة فهي نتيجة لرفض كليمت لأي شكل من أشكال الديكور الداخلي للبيوت، فيما كان تأثره واضحا بنقوش الفيسفساء الإيطالية والبيزنطية الواضحة في السجادة المليئة بالزهور التي يقف عليها الحبيبان. في اللوحة، نرى أيضا إعلاءً لقيمة الذكورة المُتمثلة في حجم الرجل الأكبر من المرأة والثوب الأطول، والذكورة هنا ليست تعبيرا عن ميل جنسي فقط، بل كحالة من حماية الرجل للمرأة والتي تظهر في تعلق المرأة في رقبة الرجل بيدها اليُمنى فيما تمد يدها اليسرى لتمسك يده اليُمنى.

 
في القبلة، يرسم كليمت الإثارة الجنسية الرمزية مُستخدما النقوش المعمارية، وتلك الدلالات الجنسية الواضحة لا تجعل من المرأة هدفا للمتعة وفقا لنظرية الفريسة والصيّاد، بل على العكس، فعنوان اللوحة والحميمية الصادقة في العناق والاحتواء تعطي المرأة حالة مِن الخصوصية، كحبيبة، بعيدا عن أن تكون مجردة أداة قصيرة الأجل للمُتعة.

 
فالرجل والمرأة هنا يظهران بوصفهما زوجين أو حبيبين يتعانقان في حقل من الذهب، وهو ما يفرد مساحة أوسع للنظر في المحتوى الروحي للوحة كما المحتوى الإيروتيكي. رأس الرجل ينتهي عند سقف اللوحة تماما وكأنه هو سقف اللوحة، وكل ما يقع تحت رأسه يستظل بظله بما في ذلك المرأة. اليوم، بعد ما يقارب القرن على وفاة كليمت لا يزال حضوره الذهبي موضوع الكثير من معارض الفن. ورغم أنه لم يتزوج أبدا فإنه كان أبا غير شرعي لما يقارب الأربعة عشر طفلًا. لكن امرأةً واحدةً رافقته طوال حياته ويُرجح أنها بطلة القُبلة.

  

أوصى كليمت أن ترث إيميلي نصف ثروته ويذهب النصف الباقي لأفراد عائلته. إيميلي فلوغ التي لم تكُن قط زوجته، كانت دائما الشخص الأكثر حضورا في أعماله طوال حياته (مواقع التواصل)
أوصى كليمت أن ترث إيميلي نصف ثروته ويذهب النصف الباقي لأفراد عائلته. إيميلي فلوغ التي لم تكُن قط زوجته، كانت دائما الشخص الأكثر حضورا في أعماله طوال حياته (مواقع التواصل)

 
هذه المرأة هي إيميلي فلوغ (1874 – 1952)، مُصممة أزياء نمساوية وسيدة أعمال رافقت كليمت طوال حياته ولم تتزوج بعد وفاته، كانت بطلة العديد من لوحاته ولها معه أشهر صورة فوتغرافية والتي ترتدي فيها ثوبا أشبه بثوبها في لوحة القُبلة، لكن على عكس اللوحة فإن فلوغ أطول نسبيًا من كليمت.(4) تعرف كليمت على إيميلي عام 1819 عن طريق أخيه الذي كان زوجا لأخت إيميلي الكُبرى. بعد وفاة أخيه، ظل كليمت يتردد على المنزل وكانت إيميلي في الثامنة عشر من عمرها وتصغره باثني عشر عامًا.(5)

 
في 11 (يناير/كانون الثاني) 1918 توفي كليمت بسكتة دماغية، وكان آخر ما تردد على لسانه -بعد حياة طويلة حافلة بالأعمال الفنية والشهرة والنجاح والنساء الجميلات والأربعة عشر طفلا- جملة واحدة فقط: "أحضروا إيميلي(6) / Get Emily". ظلَّ يرددها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

  
أوصى كليمت أن ترث إيميلي نصف ثروته ويذهب النصف الباقي لأفراد عائلته. إيميلي فلوغ التي لم تكُن قط زوجته، كانت دائما الشخص الأكثر حضورا في أعماله طوال حياته، والشخص الأقرب لحظة وفاته. وخلّد كليمت حضورها بأكثر لوحاته شعبية "القُبلة". قُبلة لتذهب الوحشة عن وجه العالم.

المصدر : الجزيرة