6 لوحات مبهرة جسدت جمال الليل وسكونه
في زرقة الليل يستيقظ الحالمون خفافا
ويمشون في ماء أحلامهم مرحين
(محمود درويش)
لطالما استأثر الليل بخيال الشعراء والأدباء على مر العصور، لما يُسدله من غموض وسكون يضفي بهما نوعا من الشاعرية والسحر على الحياة. في الليل تموج مشاعرنا، إذ يهدأ العالم في الخارج وتتوارى الأصوات ونجد أنفسنا في مواجهة وحدتنا، فيطفو إلى الوعي ما نشعر به واضحا ومركزا، يقول مريد البرغوثي: "أمر محير وغريب، كل العودات تتم ليلا وكذلك الأعراس والهموم واللذة والوفيات وأروع المباهج… الليل أطروحة النقائض". ويقول العقاد: "إننا نكبُر بالليل جدا.. ذلك النجم البعيد الذي تلمحه بالليل هو منظور من منظوراتك ووجود منفرد بك أمام وجودك. ذلك الصمت السابغ على الكون هو شيء لك أنت وحدك رهين بما تملأه به من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك.. وأنت تشمل الدنيا بالليل وهي تشملك بالنهار".
وفي الأزمان القديمة، قبل انتشار المصابيح الكهربائية، كان الليل موضوع الكثير من الحكايات والأساطير، كان وقتا مخيفا وغامضا، ولم تكن السماء المتلألئة بالنجوم قد اختفت، كما اختفت الآن في المدن تحت تأثير المصابيح؛ فكانت السماء السوداء المرصعة بالنجوم لغزا يثير الرهبة والجلال. وكانت الليالي التي يغيب فيها القمر، ليغرق الوجود في ظلام حالك، يسيطر الخوف والقلق على الناس ويستعدون للمخاطر التي قد تلحق بهم من القوى فوق الطبيعية، والتي نسج معظمها خيال الإنسان الذي يتسع ويصبح أكثر خصوبة في الظلام والسكون.(1)
كما أن الليل يسدل على الكون ستارا من الروحانية والصفاء، ففي الليل تعني القراءة والموسيقى انغماسا أكثر عمقا مما يفسح مجالا أوسع للتأمل والاستبصار، لذلك كان الليل موضوعا أثيرا لدى الشعراء والمفكرين. يقول غاستون باشلار: "أسهر وحيدا في الليل، مع كتاب مضاء بلهب شمعة -كتاب وشمعة- إنهما جزيرتان مزدوجتان للضياء، يواجهان عتمات مزدوجة، عتمات الروح وعتمات الليل". كما رسم الفنانون الليل كثيرا وأضفوا عليه جمالا متساميا وسحرا وغموضا، وتغيرت صورة الليل في الفن من مدرسة لأخرى ومن فترة زمنية لغيرها، وأصبحت لدينا الكثير من اللوحات التي تصور الليل، تستحق النظر والتأمل.
تأخذ لوحاته الناظر من عالمه لعالم الفنان الغارق في السكون والتأمل، الأشخاص يظهرون بأحجام صغيرة في لوحاته بالنسبة للسماء المتناهية في الكبر، والطرقات المتسعة بلا نهاية. في لوحته "تحت ضوء القمر في ليلة ممطرة" نجد أنفسنا نتساءل، هل تسير المرأة في طريقها أم أنها تنتظر أحدا أمام سور البيت الذي يبدو لها بعيد المنال؟ من نافذة البيت يتسلل ضوء خافت دافئ، لكن الطريق في الخارج مغمور بضوء القمر الدافئ أيضا، نحن لسنا متأكدين إزاء هذه اللوحة هل البيت أكثر دفئا أم الطريق المحمي بالسماء الحنونة.
وفي المدينة، لا يمكن للمرأة أن تجد نفسها وحدها في الطريق كما في القرية، فهناك الكثير من الغرباء الذين يحمل كل منهم حكايته، لكن يجمعهم السير تحت سماء نفس المدينة الضبابية التي يغطي ضوء القمر فيها على نور المصابيح، ليخلق مشهدا كما الأحلام. هكذا رسم جون غريماشوا المدينة في الليل؛ سماء تحتفظ بزرقتها ومدينة مضاءة بنور المصابيح الصفراء والبرتقالية، وماء المطر الذي يغطي الأرض، يعكس كل تلك الأضواء والألوان في مزيج فانتازي خلاب. تشعرنا لوحات غريماشو بشجن وحزن رقيق، لكنها تهدئ من روعنا وقلقنا عندما نراها، فيتسلل إلينا صدى هذا الكون الآسر داخلنا.
لا يمكننا أن نتحدث عن اللوحات التي صورت الليل وضوء القمر دون أن نذكر لوحة أرشيب كوينجي "ضوء القمر على نهر الدنيير"، والتي تعد واحدة من أشهر اللوحات التي صورت الليل. اللوحة بها حس غرائبي رغم أنها تشبه الصور الفوتوغرافية؛ ومما يذكر عنها أنها عُرضت في قاعة مظلمة مضاءة بالشموع فقط، مما أحاط اللوحة بأجواء غامضة وسحرية.
تصور اللوحة ليلة أوكرانية هادئة وشاعرية، يظهر فيها القمر واضحا بين الغيوم، يشع برفق ضوءا فوسفوريا، ينعكس على السحب من حوله وعلى الجزء الأمامي من النهر، فيظهر متلألئا ومتوهجا. الطريقة التي رُسم بها ضوء القمر في هذه اللوحة يذكرنا بالضوء الذي يحيط الأشخاص في اللوحات الدينية، ربما لهذا السبب نشعر إزاء هذه اللوحة بالرهبة التي نستشعرها في التأمل الديني. تبعث هذه اللوحة على النعاس بسبب هدوئها الشديد وبرودتها الطازجة الخفيفة.(3)
وتعد لوحة وليم تيرنر "صيادو السمك في البحر" التي رسمها عام 1796، معادلا بصريا لرواية "العجوز والبحر" لهمنغواي. هذه اللوحة على عكس اللوحات السابقة هي لوحة ملحمية؛ ملحمة من الحركة الدرامية تحت ضوء القمر، لا شيء هادئ، الغيوم على وشك الصدام، والبحر هائج والأمواج عاتية، والسفينة الصغيرة تتمايل بشدة مع حركة البحر العنيفة. يبدو ضوء القمر ضعيفا إلى جوار الغيوم والضباب الأسود الداكن الذي يشعرنا بوجود قوى شر متربصة.
هناك صراع في اللوحة بين قوى الطبيعة المختلفة من ناحية وبينها وبين قوة الإنسان من ناحية أخرى، يظهر هذا في ضعف ضوء المصباح الصغير في المركب في مواجهة نور القمر، ويبدو في النهاية أنه لا مجال للمقارنة، فالإنسان لا يمكنه مجابهة هذه القوى، فمركب الصيادين البسيط يمكن أن تقتلعه الأمواج وتمزقه الصخور ويسقط في قاع البحر في أي لحظة. تُظهر هذه اللوحة الجانب الآخر من الليل؛ الجانب الجليل والمروع، الذي تظهر أمامه الهشاشة والضعف البشري. يقول مؤرخ الفن أندرو ويلتون إن هذه اللوحة تلخص كل ما قيل عن البحر من رسامي القرن الثامن عشر.(4)
يغلب على اللوحة اللون الأزرق والأرجواني والذهبي المتلألئ، ينبعث من اللوحة وهج لوني أخاذ، فالنجوم في السماء تشع بهجة وحيوية، وتصور اللوحة مشهدا محببا يشاهده الناس كلما مروا على ضفاف الأنهار في المساء. اقتُبِست هذه اللوحة كثيرا والتقطت الصور الفوتوغرافية للأضواء الصناعية المنعكسة على سطح الأنهار، لكن فان جوخ في هذه اللوحة كان يرسم ما وراء المشهد. في رسالة لأخيه في نفس العام الذي رسم فيه اللوحة كتب يقول:
"النظر إلى النجوم يجعلني أحلم دائما، كما أحلم عندما أرى نقاطا سوداء تمثل القرى والمدن على أي خريطة. عندها أسأل نفسي لماذا لا نستطيع أن نصل للنقاط المضيئة في السماء مثلما نستطيع أن نصل للنقاط السوداء على الخريطة؟ فإذا ركبنا القطار لنصل إلى روان، نركب الموت لنصل إلى النجوم. الشيء الوحيد الصحيح بما لا يدع مجالا للشك هو: طالما نحن أحياء، فلن نستطيع أن نصل للنجوم مثلما لا نستطيع أن نركب القطار إذا كنا أمواتا".(5)
وفي رسائله لأخيه، كان يقول إنه يجد لذة في رسم المشاهد الليلية رغم صعوبتها، ويبدو أنه رسم هذه اللوحة في وقت كان يشعر فيه بالسعادة، ففي خطاب لصديقه في ذلك الوقت، كان يعبر عن فرحته بتجديد المنزل في آرل وعن الأجواء المبهجة التي يشعر بها في المنزل الجديد، واستعداده لاستقبال غوغان، وتحدث عن انشغاله باللوحات التي يعمل عليها مما يشير إلى ارتفاع حالته المعنوية، لذلك تعكس هذه اللوحة هذه المشاعر، خصوصا عندما نرى أمام هذا المشهد الخلاب عاشقين يسيران بجوار النهر. تذكرنا هذه اللوحة بما كتبه "ميلوز":
"حين وقفت متأملا حديقة عجائب الفضاء، شعرت بأنني كنت أطالع الأعماق القصوى، وأكثر المناطق خفاء في وجودي، وابتسمت، لأنه لم يخطر لي قط، أنني قادر أن أكون صافيا وعظيما وجميلا إلى هذا الحد. تفجر قلبي يغني أغنية لجلال الكون، كل هذه النجوم هي لك، توجد فيك خارج حبك لا وجود لها، كم يبدو العالم مريعا للذين لا يعرفون أنفسهم، حين شعرت أنك وحيد جدا ومهجور في حضور البحر، فلتتخيل الوحدة التي شعرت بها المياه في الليل، أو وحدة الليل ذاته في كون لا نهائي".(7)
المصابيح الأمامية للسيارات تشبه تماما أعين وحوش تنظر إلينا في غضب. كأن اللوحة تصور مشهدا ليليا مفزعا وموحشا. ما الذي يريد الفنان قوله في هذه اللوحة؟ ما الذي كان يشعر به؟ هل كان غاضبا من ازدحام الشوارع بتلك الآلات التي غيرت مشهد الليل للأبد في كل المدن؟ لماذا لم يرسم في اللوحة أي إنسان؟ حتى المباني لا تكاد تظهر في اللوحة، هل يصور الفنان سيارات عسكرية أم أنها سيارات أشخاص عاديين؟ نحن لا نعرف بالتحديد، فالليل يغطي كل شيء والأضواء الصناعية لا تكشف هنا إلا عن الوحشة.
وفي لوحة إدوارد هوبر "صقور الليل" التي رسمها في أوج اشتعال عام 1942، نشاهد الليل بطريقة مختلفة، فالسماء ليس لها وجود في هذه اللوحة، لكننا نعرف من خلال الإضاءة الاصطناعية أننا لسنا في النهار، كما أنه لا يوجد أي شخص خارج المقهى المغلق على رواده، والبناية المقابلة للمقهى مغلقة تماما، نكاد نشعر أنها خالية من الحياة، تعكس اللوحة شعورا بالصمت والعزلة الشديدة والاغتراب، يجلس الناس بجوار بعضهم بعضا، لكن شعورا بالوحشة هو ما يجمعهم، لا يمكن لهؤلاء الذين يتدثرون بجدران البناية المصمتة أن يشاهدوا السماء الفسيحة من مكانهم هذا الذي لا نرى له بابا ولا متنفسا.
نالت هذه اللوحة شهرة واسعة، فهي أشهر لوحات إدوارد هوبر التي أصبحت أيقونة من أيقونات الثقافة الأميركية، ربما لأنها تحمل نوعا من النقد للحياة الحديثة، التي يعاني فيها الإنسان من الوحدة والاغتراب خصوصا في المدن التي وضعت الكثير من العوائق بين الإنسان والطبيعة، من سماء تتسع بلا نهاية وحقول خضراء شاسعة وبحار وأنهار؛ تلك الطبيعة التي عزل الإنسان الحديث نفسه عنها، وربما منذ ذلك الحين وهو يعاني قلقا وانفصالا واغترابا.(7)
يعيش معظمنا الآن في المدن ذات الليل المُضاء، الخالي من النجوم، فهل نتذكر آخر مرة نظرنا فيها إلى السماء الرحيبة؟ هل بامكاننا رؤية اتساعها أم أن البنايات الخرسانية المرتفعة كبحت قدرتنا على النظر إلى البعيد، ووضعت لنا حدودا ضيقة للرؤية؟ هل الإضاءة الاصطناعية سوف تُنهي أسطورة الليل "الزاخر بالأنس والجلال والأضواء والأسرار والأكوان والعجائب"؟ الليل بسمائه الفسيحة، ذلك الذي كان متاحا للجميع في كل مكان، أصبحت الآن تشد الرحال إلى الصحاري والجبال والقرى البعيدة التي لم تطلها يد المدنية بعد لرؤيته. فهل نشهد تحول الليل لحلم شاعري بعيد المنال؟