شعار قسم ميدان

فاروق حسني.. كيف صار الهراء فنا؟

midan - فاروق حسني
       

هل يستطيع المرء، بإحساسه المُجرد وخبراته الإنسانيّة، بسيطة كانت أو معقدة، أن يكوّن رأيا ما في لوحة تشكيلية دون أن يكون دارسا للفن دراسة أكاديمية متعمقة؟ غالبا نعم، يستطيع. فالمرء لا يحتاج أن يفهم الخصائص الأسلوبية والرمزية اللونية للوحة ما، ليستحسنها أو يستقبحها.

   
وهذا بالتحديد ما يفتح الباب لسؤال آخر. هل يحتاج المرء أن يكون دارسا لمدارس الفن التشكيلي وتوجهاته وتاريخه وفلسفة الجمال ليفهم لوحات فاروق حسني؟ هل يحتاج المرء لأن يكون "عميقا جدا" لفهم الانبعاثات الوجدانيّة والرؤية الفوقية السامية في أعمال حسني؟ ربما نستطيع الإجابة على هذا السؤال إن تتبعنا مسار رحلة حسني.

       

      

في الخامس من سبتمبر 2012، أحيل وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، في عهد المخلوع حسنيي مبارك، إلى الجنايات بتهمة الكسب غير المشروع. فيما أعلن رئيس جهاز الكسب غير المشروع التابع لوزارة العدل، عاضم الجوهري، أن الإحالة أتت بعد تحقيقات مطولة، مُضيفا أن الجهاز يطالب الوزير الاسبق برد 18 مليون جنيه مصري.[1]

  
في ذلك الحين، عجز حسني عن إثبات مصدر المبلغ الضخم المتهم بسرقته، وقد طالبه جهاز الكسبب غير المشروع برد 9 ملايين جنية كغرامة، ثم وضع اسمه على قوائم الممنوعين من مغادرة البلاد. إلا أن حسني في النهاية ككل رموز نظام مبارك أفلت من العقاب وخرج بعدها بعدة أشهر.[2]

   
حسني كان أحد وزراء مبارك المثيرين للجدل. الأمر لا يعود فقط لطول بقائه في منصبه برغم تغيرر الوزارات على طول فترة حكم المخلوع، بل لأن اسمه ارتبط بقضايا جدلية عدة. فهو الوزير الذي سُرقت في عهده لوحة الرسام العالمي فنسنت فان جوخ "بيت الخشخاش" عام 2010. وأظهر التحقيق أن من بين 47 كاميرا مراقبة في المتحف هناك أكثر من 30 كاميرا معطلة.[3] وهو أيضا المرشح السابق لرئاسة اليونسكو الذي خسر الانتخابات. ورد هو سبب خسارته إلى تصريحاته الغريبة حول الكيان الصهيوني حين قال إنه "لا توجد كتب إسرائيلية في مصر وإنه سيحرقها بنفسه إن وجدت".

   
وفي خضم الانتخابات ومن أجل الحصول على المنصب، قال حسني إن عبارته عن "حرق الكتب الإسرائيلية" انتزعت من سياقها ونفى أن تكون لديه أي مواقف معادية للسامية، ومع ذلك خسر الانتخابات وعاد بخفي حنين.[4]

 

undefined

 

الأمر لا يتوقف عند لوحة فان جوخ أو انتخابات اليونسكو. فقد خاض حسني معارك مع التياراتت الإسلامية بسبب تصريحاته ضد الحجاب والمحجبات التي أكد فيها على رفضه ارتداء النساء للحجاب.[5] ومع ذلك، ظل حسني وزيرا للثقافة على مر السنين رغم أنه لم يحقق أي تقدم ملموس. والأدهى أنه صار "رساما تجريديا" تُباع لوحاته الغريبة بآلاف الدولارات حتى أحيل للجنايات بعد الثورة.[6]

          
وبالنسبة لكثيرين، فإن بقاء حسني في منصبه يرجع لعلاقته الشخصية بمبارك وأسرته. ولنفس السبب،، استطاع أن يفرض نفسه على الساحة كرسام تجريدي؛ ليس عن موهبة حقيقية بل لكونه وزير مبارك. فلوحاته التي طالما كانت محط سخرية رواد مواقع التواصل، بسبب مضمونها الفاقد للقيمة والمعنى، كانت تباع بآلاف الدولارات في عهد المخلوع، كما أنها لاقت استحسان العديد من مشاهير الفن والسياسة المقربين من السلطة.

 

ورغم ما أثير ضد لوحاته من نقد ساخر استمر حسني في رسم ما سماه "فن تجريدي" بعد خروجه من السجن. الأمر الذي أثار حفيظة عدد من النقاد والنخب الثقافية في ما اعتبروه إعادة تلميع رموز النظام البائد.  ففي حوار لها، في 15 ديسمبر 2014، صرحت المخرجة إيناس الدغيدي في فيديو للبوابة، أن إبداع فاروق حسني لم يتوقف حتى في وقت "نكستنا" في إشارة منها لفترة حكم جماعة الإخوان المسلمين.

            
الدغيدي ليست الوحيدة التي دعمت حسني في مشواره، فآخرون، كيحي الفخراني ونجيب سويراس وليلى علوي وهيفاء وهبي ومحمد صبحي وأحمد حلمي وغيرهم، تهافتوا على حضور معارض حسني قبل وبعد الثورة، مؤكدين أن لوحاته تحمل رسالة فنية وأنه فنان حقيقي.
       

       
وما بين أصوات مستنكرة وأخرى صامتة يائسة، يمارس حسني حتى الساعة دوره الذي برع فيه في عهد المخلوع، ألا وهو: دور الفنان المثقف المتنور. فهل يمكن وضع أعمال حسني فعلا تحت المجهر وفهم طبيعة تلك الرسومات التي جعلت منه فنانا؟!
      

ما هو الفن / ما هو الجمال
حسب تعريف قاموس أكسفورد الإنجليزي لكلمة "فن / (Art)"، فإن الفن هو:"الحرفية في عرض أو تطبيق أو التعبير عن مهارات إبداعية، وعادة ما يأتي التعبير في شكل مرئي مثل الرسم، أو النحت، أو حتى إنتاج أعمال لتكون موضع تقدير لجمالها وقوتها العاطفية في المقام الأول".[7]

       

وانطلاقا من ذلك التعريف البسيط للفن، وتطبيقه على أعمال حسني، هل نستطيع الوقوف على حرفية التطبيق والتعبير والقوة العاطفية في أعمال حسني؟ وإن كانت الإجابة بلا، فلماذا أغدق مئات الفنانين المدائح عليه وعلى أعماله غير المفهومة؟ الإجابة النموذجية لذلك السؤال يمكن قراءتها في ضوء تحول الفنان أحمد فؤاد سليم ورأيه في حسني قبل وبعد أن يُصبح وزيرا للثقافة.

        

إن كانت أبسط شروط الفن أو الفنان أن يكون روحا حرة تبتكر عوالم لا متناهية ولا حدود لها؛ فكيف يكون الطغاة فنانين؟
إن كانت أبسط شروط الفن أو الفنان أن يكون روحا حرة تبتكر عوالم لا متناهية ولا حدود لها؛ فكيف يكون الطغاة فنانين؟
      

فقد كان الممثل والناقد التشكيلي أحمد فؤاد سليم يبدي رأيا سلبيا في حسني قُبيل تولي الأخير منصب وزير الثقافة، معتبرا أن أعماله تفتقد للقيمة والمعنى.[8] ومع ذلك، فقد تحول ذاك الرأي 180 درجة بعد تولي حسني المنصب، فقد أغدق سليم من المديح على حسني ما يعجز العقل عن استيعابه حتى أنه قال في مقدمة كتالوج أعمال فاروق حسني:

   
"إن ما هو معروف للذاكرة البصرية المعتادة، مثل الطائرة -الوردة- الحصان، هو بالضرورة يصير شكلا حين يرسمه الفنان على مسطح الرسم، وأما ما لا نعرفه عن تلك الذاكرة البصرية، فهو كذلك بالضرورة لا شكل ما دام عاصبا على رصيد المعرفة عند المتلقي، لذلك يمكن أن نطلق على التجريد وبشكل مستريح فن المُطلق"."[9]

          

ويقول الناقد عز الدين نجيب في مقاله "حسني بين الاستعلاء والعولمة"، في العدد 808 من جريدة القاهرة، ما نصه: "أما المرحوم مختار العطار فقد كان يبدى رأيا سلبيا تماما في فن «حسني» قبل مجيئه وزيرا، وله مقالات منشورة بمجلة المصور أعلن فيها موقفه الرافض لاتجاهات الفن الأوروبى الموغلة فى الحداثة، وكان يسميها «فن الخوارج»، ولم يكن فن «حسني» بعيدا عنها، لكن للضرورة أحكامها.. فطالما كانت هناك «حاجة» للإنسان يصبح الحق كالجمر، ويصبح الصدق على المحك، إلا من امتلك نعمة الاستغناء وشجاعة القبض على الجمر أو المبدأ."[10]

          

عموما، فإن تناول حسني بعين النقد السلبي لطالما كان أمرا غير مقبول من حسني نفسه. وبالعودة لمقال الناقدة الفنية فاطمة علي، في عدد جريدة القاهرة، نقلا عن العدد الورقي رقم 816 بتاريخ 23 فبراير 2016، فقد أصدر حسني كتابا عن سيرته الذاتية باللغة الإنجليزية دون أن يتضمن الكتاب رأي أي ناقد عربي في أعماله.[11] 

                   undefined  

وبعيدا عن رأي النقاد، سواء من العرب أو الأوربيين في أعمال حسني، فقد سنَّ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قاعدة بسيطة يمكن انطلاقا منها الحكم على عمل إذا ما كان جميلا أو قبيحا، حيث يقول: "إننا من أجل أن نميز الشيء إن كان جميلا أو غير جميل، فإننا لا نعيد تمثل الشيء للذهن من أجل المعرفة، بل إننا نعيده بالمخيلة إلى الذات، وإلى الشعور باللذة والألم الخاصين بها. ليس حكم الذوق إذن بحكم معرفة أي ليس هو بحكم منطقي، إنما بحكم جمالي. أي ليس بوسع المبدأ المؤسس له أن يكون إلا مبدأ ذاتيا / شخصيا."[12]

     
إن كانت اللذة أو الألم معيار حكم على العمل الفني؛ فما اللذة أو الألم الذي يشعر به المرء إزاء لوحات فاروق حسني؟ وهو ما وضحه الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه "الجمهورية" حين قال "إن كان لابد أن نطلق على أمر فنا أو جميلا، فلتتوفر فيه على الأقل أبسط الحجج على ذلك"، فبحسب أفلاطون: "إن الجميل هو ما يساعدنا في تفضيل الأفعال النبيلة على تلك المبتذلة القبيحة."[13] فهل تسمو بنا أعمال حسني إلى ذلك المقام؟ هل تسمو بنا أعمال الطغاة لدرجة إنسانية أعلى حتى تُسمى فنا؟!

                   undefined

            

كذلك فقد قدم الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، 1788-1860، في كتابه "العالم إرادة وتمثلا" (1819)، معيارا بسيطا حول ماهية الجمال حين قال: "الرائع هو التحرر من الإرادة والعزاء بالفن من فظاعة الوجود". فهل تعزينا أعمال حسني في كل فظاعات الوجود؟!
     

ما هو الفن التجريدي
الفن التجريدي، على عكس الأشكال المفهومة للواقع المرئي، ينتج شكلا من الفنون البصرية المتحررة من قيد الشكل والمنظور. تلك الدرجة من الاستقلال عن المراجع البصرية كانت انعكاسا لعالم استقل عن المراجع الفكرية والفلسفية التقليدية. ذاك هو عالم الحداثة وما بعد الحداثة.[14]

    

والتجريد في جوهره يشير إلى الخروج عن الأشكال البصرية المألوفة في الفن بغية التحرر الكامل من سطوة العادات البصرية. ومع ذلك، ليست أي شخبطة فنا تجريديا. فاللوحات التجريدية تحمل ضمنيا حالة من تناغم الألوان وتناسقها.[15]
     

مثال ذلك، لوحات واحد من أشهر رواد الحركة التجريدية في القرن العشرين، الروسي فاسيلي كاندينسكي (16 ديسمبر 1866-13 ديسمبر 1944)، الذي أطلق عليه لقب "أمير الروح" و"الفارس" بسبب قدرته على تبسيط الأشياء.[16]

            undefined

        

مثال آخر، لوحات الرسّامة السويدية هيلما اف كلينت (26 أكتوبر 1862-‏‏21 أكتوبر 1944) وهي واحدة من أوائل الرسامين التجريديين في العالم. والتي اعتمدت على إحساسها المجرد بروح الأشياء عند رسمها. وتعتبر اليوم أول رسّامة/رسام تجريدي في التاريخ.
        

undefined            

"كل المعرفة التي ‏لا تدرك بالحواس أو العقل المجرد ولا ‏القلب ولكن الجانب الأعمق من معرفة ‏وجودك البشري هي معرفة روحك."[17]

(جريجور هيلدبراندت، رسام ألماني)

    

العبد لا يصير فنانا أبدا
العبد لا يكون أبدا فنانا أو واعظا، والحرية وحدها هي القادرة على تغذية مشاعر العباقرة والفنانين. هل يستطيع الطغاة أن ينتجوا فنا يُبشّر بالحياة؟ أليس الطغاة في جوهرهم عبيد رغباتهم الجامحة في السيطرة والتملك؟ فإن كانت أبسط شروط الفن أو الفنان أن يكون روحا حرة تبتكر عوالم لا متناهية ولا حدود لها؛ فكيف يكون الطغاة فنانين؟ هم لم يخلقوا غير السجون والمعتقلات والتشوهات البصرية.

    
كيف يصير السارق فنانا؟ أي روح فنية تلك التي تُتَهم بسرقة 18 مليون جنية من أموال الشعب؟ أي فنان ذاك الذي يستغل علاقته بطاغية ليبيع الهراء على أنّه فن؟ الفن والفنانون يصنعون الأمل، أما أولئك فلم يفلحوا إلا في صناعة الخراب والظلم.

        
الشاهد، احتمل السيل زبدا رابيا، ذاك حال التجريدية، وعدد كبير من مذاهب الفن الحديث، أن يضع كل من هب ودب بضعة ألوان على قطعة قماش ويقول هذا فن تجريدي، وهو لا تجريدي ولا يحزنون. والفن أيا كان نوعه له رسالة ثورية تحلم بالتحرر ضد الظلم والهيمنة.

المصدر : الجزيرة