شعار قسم ميدان

كيف شكّلَ الاستعمار مفهومنا للجمال.. لوحات الأنبياء نموذجًا

لوحة فنية - ميدان
يُحكى أن رجلاً يُدعى يوسيفوس فلافيوس، بالعربية يوسف بن ماتيتياهو، عاش في فلسطين، في زمان الإمبراطوريّة الرومانيّة، في القرن الأول للميلاد مُعاصرًا للسيد المسيح. كان ذاك الرجل رومانيًّا يهوديًّا وأديبا ومؤرخا في آن. وقد اشتهر فلافيوس بكتبه عن تاريخ منطقة يهودا، والتمرد اليهودي على الإمبراطورية الرومانية في ذاك الزمان الذي ظهر فيه المسيح.1 

"عاديات يهودا"، اسم الكتاب المهم الذي ألفه فلافيوس، وهو الكتاب الثامن عشر، وتتمثل أهميته في الفصل التاسع تحديدا، والذي يصف فيه رجلا اسمه "يسوع" ويُقال له "المسيح". ويعتبر بعض اليونان ذاك الرجل أنّه "ابن الإله،" بسبب قوته السحرية فقد أحيا الميت وشفا الأبكم والأبرص. إلا أنّ أتباعه ينادونه "بالنبي الحق –
True Prophet."[2]

           
أتى وصف ذاك الرجل المدعو بالمسيح في النص الأصلي في الكتاب. فيقول عنه فلافيوس: "كانت طبيعته وشكله بشريين، وكان رجلاً بسيط المظهر، راجح العقل، أسمر البشرة، يتميز بوجهه الطويل، وأنف طويل، وشعر مجعد وهزيل، مقسوم لنصفين من منتصف الرأس كعادة الناصريين، مع لحية خفيفة."[3]
         

فلافيوس (مواقع التواصل)
فلافيوس (مواقع التواصل)

      

وانطلاقا من هذا النص، يرى أستاذ الأدب الكلاسيكي الراحل لويس فيلدمان، الذي كان باحثًا في الحضارة الهلنستية، وتحديدًا أعمال فلافيوس، أن معظم الدراسات الحديثة تعترف بصحة الإشارة للمسيح في الكتاب الثامن عشر لفلافيوس، وأن الكتاب من أعلى المراجع أصالة ودقة. ويعد عدد ضخم من العلماء المعاصرين، أن الإشارة للمسيح وسجن وموت يوحنا المعمدان في الكتاب من أكثر الآثار المتبقية منذ عهد المسيح دقة.[4]
 
       

يسوع الأبيض واستعمار الشعوب السوداء


"على مرّ التاريخ، تم استخدم يسوع الأبيض لقمع ومحو تاريخ الشعوب غير البيضاء."[5]

 الناشطة والممثلة الأمريكية فرانشيسكا رامزي

    

تعد فكرة استخدام الدعاية لترويض الرأي العام قديمة، فهي ليست أمرا مستجدا على المجتمعات الحديثة. حيث كانت متبعة منذ العصور البدائية حين استخدمت بلاد ما بين النهرين الأعلام المطرزة كشارات للحرب أو السلام والنصر أو الهزيمة. وقد تطورت البروباجندا منذ ذلك الحين حتى صارت عملية علمية قادرة على التأثير على أمة بأكملها من الناس.[6] يقول روبرت شولر "إن كثيرًا مما نعده طبيعيًا هو في حقيقته ثقافي. وإن جزءً من العمل النقدي والتأملي هو عملية كسر الألفة المتواصلة أي التخلي عن التقاليد، واكتشاف شفرات كانت قد تأصلت إلى حد أننا لم نعد نراها، بل نظن أننا نرى من خلال شفافيتها الواقع نفسه."[7] 

        
وفي مقاله "تأملات في الجمالية والخطاب والتفاحة"، يقول الناقد الأدبي عبد الله البياري، إن الجمال والقبح كمفاهيم عقلية ومعرفية تخضع هي والإنسان ونظرته لذاته للاستعمار المعرفي. وأن "الجمال" كمفهوم أضحى مفهومه مقتصرًا على "المجال الصناعي."[8] والمقصود بمجاله الصناعي وفقا للبياري، ذاك المجال المتنامي للصناعات التجميلية، سواء كان جراحيًّا أو بغير ذلك من الأدوات التي من شأنها تبيّض لون البشرة أو تغيير ملامح الوجه أو فرد الشعر المجعد وكل ذلك من النماذج التجميلية التي توضّح مدى تجذُّر سلطة الخطاب الأبيض وقدرة البروباجندا على تشكيل مفهوم الجمال ووضع معايير الجسد الأوربي الأبيض كقاعدة للجمال المطلق.
        

هكذا استبعدت القوى الاستعمارية البيضاء صور يسوع ذي البشرة الداكنة كنوع من التحيز العنصري. فالنبي أو الرسول، بكل ما يحمله المفهوم من أخلاقية وورع وقداسة، لا يجب أن يكون أسودًا أبدًا. لأن هذا قد يقوّي من شوكة الشعوب المُستعمَرة المُراد استغلالها والتي يجب أن تنظر لنفسها نظرة دونية.
          
"إنها نفس الحكاية، الشخص الأسود البشرة لا بد وأنه سيء. بالتالي، يجب ترويضه أو قتله ليتفق مع معايير الرجل الأبيض."[9]

– فرانشيسكا رامزي
               

undefined

     

أنبياء العمّ سام

منذ أوائل عصر النهضة، وهي الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر الميلادي، وحتى بعد ذلك، لا نجد أي أثر يُذكر ليسوع الفلسطيني، ذي البشرة السمراء أو الحنطية، أبدًا في اللوحات الأوربية التي تتناول الأنبياء. ليس يسوع وحده، أننا لا نجد أي نبي أسمر أو حنطي البشرة في أي لوحات أوربية على الإطلاق. 
         
"سجل ليوناردو دافنشي قياسات الجسد المادية التي ترضي العين المركزية، أبرع تسجيل وذلك في لوحته الشهيرة "دورة القمر / الرجل الفيتروفي"، حيث رسم جسدًا بشريًا شديد التناسق داخل دائرة ومربع في آن معًا: الأعضاء التناسلية مركز المربع، والسرة مرزك الدائرة، ومن هنا تأسس انعكاس الجسد البصري القياسي على الرسم والعمارة وسائر الفنون التعبيرية."[10] – عبد الله البياري، تأملات في الجسد
         
الأمر الذي يظهر جليًّا في لوحات المسيح لوليام أدولف بوجيرو وكارافجيو. حيث يظهر المسيح بجسد أوروبي أبيض بياض العاج مع بنية عضلية مفتولة وشعر أصفر أو بني. وفي لوحة "دفن المسيح"، والتي رسمت في أوائل القرن السابع عشر، نرى المسيح ميتًا ومحمولا وتظهر مريم العذراء في الخلفية، رافعة يديها للسماء، وهي أيضًا بيضاء ذات شعر بني.
        
وبالرغم من أن مريم والمسيح كليهما عاشا في فلسطين، الشرق أوسطية، والتي يتمتع أهلها بملامح مميزة واضحة ومُختلفة كليا عن الملامح الأوربية للرجل الأبيض، لكننا لا نجد لجسدهم الشرق أوسطي أي أثر يذكر. فالجسد الأسمر أو الحنطي، وفقا للنظرة الاستعمارية، ليس به من الجمال ما يستحق التخليد. والأكثر مِن ذلك، فإن الفضيلة والأخلاق والطهرانية النبوية للرُسل لا يُمكن أن توجد إلا في جسد أبيض.
              

undefined

      

الخير أبيض البشرة لا محالة

نرى في لوحتي "ميلاد يسوع" على اليمين و"مريم والصبي" على اليسار، نفس البصمة الأوربية للعائلة المُقدسة. فتظهر مريم العذراء كشقراء أوربية في اللوحتين أشبه بالأميرات الأوربيات في ثيابها وهيئتها. وفي اللوحتين نرى الملائكة على اليسار والرعاة على اليمين جميعهم أوربيين بلا أدنى مواربة.
        

undefined

     
كذلك نرى في لوحات أخريات تتناول أنبياء أُخر، مثل إبراهيم وإسحاق، والتي تعود لأوائل القرن السابع عشر أيضًا، أنهم يظهران بجسد أوروبي عاجي بالإضافة للملائكة التي تم تصوريها في هيئة صبيان أو نساء حسناوات ذوات أجنحة بيضاء.
 
وفي الوقت الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام في مدينة "أور" جنوب العراق، وفق كتاب البداية والنهاية لابن كثير، أو مدينة "حران" التركية على الحدود السورية وفق تاريخ الطبري، لا نرى في اللوحات التي تتناول شخصيته وقصة الفداء من الذبح إلا رجل أوربي الهيئة لا وجود له في كتب التاريخ.[11]
         

undefined

    

بالطبع، فإن العدد الضخم للوحات الأنبياء والشخصيات المُقدسة التي ظهرت كلها في هيئة أوربية وربط الملائكية بالعرق الأبيض لا تنم عن مصادفة. فقد كشف الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عن السبب في محاولات الاستعمار الدؤوبة في ربط الدونية بالبشرة السوداء والطهرانية بالبشرة البيضاء حين أورد في تقديمِه لكتاب الفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون "مُعذبو الأرض:"
  
"لمّا كان لا يستطيع أحد أن يسلب رزق أخيه أو أنّ يستعبده أو أنّ يقتله إلا ويكون قد اقترفَ جريمة فقد أقر المُستعمِرين هذا المبدأ: أنّ المُستعمَـر (الواقع تحت الاِستعمار) ليس شبيه الإنسان. وعهد إلى قواتنا بمهمة تحويل هذا اليقين المُجرد إلى واقع. صدر الأمر بخفضِ سُكان البلاد المُلحقة إلى مستوى القرودِ الراقيَة مِن أجل تسويغ أنّ يُعاملهم المُستوطِن مُعاملة الدواب. إنَّ العنف الاستعماريّ لا يُريد المُحافظة على اِخضاع هؤلاء البشر المُستعبَدين، وإنّما يحاول أن يُجردهم مِن إنسانيتهم."[12]
       

   

لذلك، فإن الفن التشكيلي كأحد أدوات البروباجندا، في زمان ما قبل التلفاز، لعب دوره في الدعاية لثقافة الرجل الأبيض على أنها الأكثر آدمية، أن لم تكن الآدمية الوحيدة، وهو بالطبع الأرقي والأطهر، فالأنبياء والرسل والملائكة كلهم كانوا بِيض البشرة. وعليه، من المفترض من بقية سكان العالم أن تخض وتقبل وتُقلد دون ابداء أي اعتراض.