شعار قسم ميدان

الحزن المتسامي في لوحات كاسبر ديفيد فريدريش

كاسبر - ميدان
عندما كان كاسبر ديفيد فريدريش (1774-1840) في السابعة من عمره، توفيت أمه، وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره شهد غرق شقيقه أمام عينيه أثناء لعبهما على الجليد، فعرف الطفل الموت في سن مبكرة جدا، ولم تتركه هذه الظلال الكئيبة حتى نهاية حياته. ولد فريدريش ابنا سادسا من بين عشرة أبناء في مدينة جرايفزفيلد الجميلة. منذ طفولته كان يحب مشاهد القباب والأبراج التي تغطيها الأشجار في الصباحات الباكرة، التي يعلو فيها الضباب الأفق، رسم فريدريش فيما بعد هذه المشاهد والكثير من مشاهد الطبيعة التي جعلها شاهدة على حزنه المتسامي الخالي من اليأس.(1)

عرف فريدريش جلال الطبيعة وجاذبيتها أثناء تجواله في مرتفعات سكسونيا وعلى ضفاف الألب، تلك الطبيعة الساحرة التي تنساب إلى ما لا نهاية، ففي لوحاته نرى مسحة روحانية صوفية واضحة، لا تخلو من الحزن. يعتبر البعض لوحته المسماة "رجلان يتأملان القمر" هي أوضح نموذج لعالمه الذي يسكنه حب الطبيعة، كما يظهر بها رؤيته التأملية الروحانية. يلفت انتباهنا من النظرة الأولى جمال القمر الذي ينثر نوره الهادئ في الأفق، وشجرة السنديان الضخمة التي تبعث أفرعها الشبيهة بالمخالب على الرهبة، يخيل لنا أن هذه الأفرع تتحرك نحو الرجلين لتطبق عليهم. لكن بالرغم من ضعف الإنسان أمام قوة الطبيعة فهو أسير سحرها.(2)

لقد كان فريدرش في الرسم يمثل الضلع الثالث للرومانسية الألمانية التي يمثلها بيتهوفن في الموسيقى وغوته في الأدب. لذلك فلوحاته بها شحنات عاطفية وانفعالية كبيرة، كما تمنح لوحاته الطبيعة قوى روحية غامضة، خصوصا القمر في هذه اللوحة والذي كان مرتبطا في عصر الرومانسية بالغموض والأساطير والحكايات المخيفة ومشاعر الشجن والحزن، لكن مع بداية عصر التنوير والعقل العلمي، نُزع هذا السحر والغموض عن الطبيعة والتي كان القمر بالطبع جزءا منها. رسم فريدريش هذه اللوحة قبل وفاته بنحو عشر سنوات. وقبل موته كان فقيرا ووحيدا لدرجة أنه اضطر لمنح هذه اللوحة لطبيبه لأنه لم يكن يملك ما يسدد به نفقات مرضه.(3)

"لا ينبغي للرسام أن يرسم ما يراه أمامه فحسب، بل أيضا ما يراه في نفسه" – (فريدريش)

كاسبر ديفيد فريدريش، رجلان يتأملان القمر، 1830
كاسبر ديفيد فريدريش، رجلان يتأملان القمر، 1830

تعد لوحته "راهب إلى جوار البحر" دليلا جليا على مكانة فريدريش كأحد كبار رواد الفن الحديث. تظهر في لوحات فريدريش فكرة "السمو في الفن"، خصوصا هذه اللوحة، والتي تشير إلى وجود نوع من الجمال يثير الرهبة من خلال قوته والمخافة منه، وهي تعبر عن كل من ضخامة الطبيعة وصغر وعجز الإنسان في مواجهتها. وبالرغم من أن القرن التاسع عشر هو قرن انتشار تحكم الإنسان في الطبيعة فإن هذه الفكرة تشير إلى العكس، فالطبيعة أكبر منا بكثير. بالرغم من أن اختراعاتنا التكنولوجية تغرينا بأننا غزونا الطبيعة، لكن هذه اللوحة تؤكد عكس ذلك.(4)

عندما ننظر إلى هذه اللوحة نكاد نرى الراهب يقف صغيرا على اليسار أسفل اللوحة، وبمجرد أن نراه نشعر أننا أصبحنا مكانه أمام هذا المنظر المهيب للسماء التي تحتل المساحة الأكبر في اللوحة وللبحر. إن الراهب لا يرى كل هذه المساحة، وهو على وعي بقدرته البسيطة أمام قوة الطبيعة وسطوتها. ولأنه راهب فنحن بطبيعة الحال ذهبنا إلى المعاني الدينية، إذ إن فريديريش بالفعل يرى الطبيعة بنظرة روحانية، يغلب عليها الشعور بالحزن والأسى. إن الحزن أيضا هو عنصر طبيعي وقد ولد في طفولة فريدريش وظل يكبر معه إلى أن مات وحيدا مريضا وفقيرا يصاحبه الحزن. فالحزن هنا يشبه كثيرا الطبيعة، فهو لا يمكن هزيمته.(5)

يستخدم فريديرش في هذه اللوحة موتيف الأطلال، الذي شاع استخدامه في الفن المعماري والتصويري في نهاية القرن الثامن عشر، لإعطاء الطبيعة المنسقة مسحة من الرقة العاطفية "السنتمنتالية"، لكن الأطلال هنا كما في لوحات فريديرش الأخرى، تتخذ دور العنصر الأساسي المتحكم في تكوين اللوحة، تقول إيرما إيمريس: "إنها بمنزلة دعوة إلى جمع القوى وإشارة إلى حياة جديدة تتجمع في جدباء الشتاء". في عام 1810، أرسل فريدريش هذه اللوحة مع لوحة "دير في غابة السنديان" لكي تُعرضا، وقد تسببت اللوحتان في إحداث نقاشات حادة، ثم قرّرت العائلة الحاكمة اقتناءهما.(6)

كاسبر ديفيد فريدريش، راهب إلى جوار البحر، 1809
كاسبر ديفيد فريدريش، راهب إلى جوار البحر، 1809

وترى إيرما إمريش أن فريدريش وصل قمة إبداعه الفني مع لوحة "سياج كبير بضواحي دردسن"، ففي هذه اللوحة "تبدو مروج الألب التي تغمرها مياه الفيضان شبيهة بمناظر البحر في المساء بسمائها الذهبية الشفافة، على أن هذه اللوحة تفوق لوح البحر بما تمتاز به من تناسب في استخدام وسائل التشكيل وبقدرتها على التعبير الكامل عن عقائد الفنان الفكرية بواسطة الطبيعة في ضوء الغسق، فنرى السماء والأرض يقتربان في شكل أقواس خرافية ممتدة، بينما ينعكس صفاء السماء وقد شابه الغيم على سطح نقع الماء في المروج".(7)

يستمر فريدريش في تصوير الأطلال، والتي تبعث رؤيتها الشعور بالحزن والشجن، إذ تعبر الأطلال عن مرور الزمن، وتغير كل شيء، فلا يبقى شيء ثابتا، الحياة مراحل مختلفة وكل شيء إلى زوال، إن هذا المعنى بالرغم من قدرته على تسكين الأحزان الكبيرة أيضا يعني أن حتى السعادة لا تبقى، كل شيء يتغير والأحبة يرحلون ولن يبقى سوى ذلك الحزن الخفيف الذي تثيره فكرة الأطلال، و"الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والإيجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي".(8)

في لوحته بعنوان الحالم، يصور فريدريش شخصا وحيدا يجلس على نافذة "دير قوطي قديم" لم يبق منه سوى الأطلال. "داخل الدير ألوان حمراء داكنة، لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن في الوقت نفسه لا يزال ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق"، لهذا فإن فريدريش يبتعد بحزنه عن اليأس ويبقى في لوحاته شعور بالرضا والسكينة وبعض الأمل.(9)

كاسبر ديفيد فريدريش، سياج كبير بضواحي درسن
كاسبر ديفيد فريدريش، سياج كبير بضواحي درسن

إن الإنسان في اللوحات التي رسمها كاسبر ديفيد فريدريش يقف في فضاء الطبيعة اللانهائية، وكأنه حجر أو شجر منها، فلم يعد الإنسان محور الأشياء كما أن الطبيعة لم تعد مجرد خلفية جمالية. فالطبيعة في أعماله اكتسبت مسحة إنسانية فتحولت إلى أداة للتعبير الاجتماعي والشخصي والديني وربما السياسي، لقد استطاع أن يحول المشاهد الطبيعية إلى صور كاشفة سيكولوجيا وروحيا. تكتب إيرما إمريش: "كما أن الإنسان وسط فضاء الطبيعة يفقد ملامحه المستقلة عن الطبيعة. فالطبيعة في لوح هذا الفنان تقترب من الإنسان في عزلته وانفراده، والإنسان في وحشته يكاد ينصهر مع الطبيعة".(10)

درس فريديرش الطبيعة دراسة عميقة، وأبدع لنفسه مجموعة من الإشارات والأشكال أعاد استخدامها مرارا في معظم لوحاته، دير إلدنا واحد من العناصر التي أعاد رسمها مرارا وكذلك أطلال الدير، كذلك كاتدرائية مايستر، من المعمار القوطي تعد علامة تشير إلى العصور السابقة. وقد استخدم فريديرش الأشجار كذلك خصوصا أشجار البلوط الضخمة بفروعها التي شججتها العواصف والتي ربما ترمز إلى القوة والصمود. وفي سنواته الأخيرة لم يعد الناس يتلقون أعماله بالشغف نفسه، وبعد موته سنة 1840 نُسِيَ تماما وظلت أعماله مجهولة حتى بداية القرن العشرين، إذ أُعيد اكتشافها مرة أخرى في معرض عام 1906.(11)

undefined

المصدر : الجزيرة