شعار قسم ميدان

حينما تلعب الموسيقى دور البطولة.. ثلاثة أفلام ملهمة

midan - أفلام الموسيقى

"وحدها الموسيقى تستطيع أن تخلع عن جمهور ما دفاعاته، أن تعري مشاعره الدفينة ربما أسرع من أي فن آخر".(1) في بحثه عن الموسيقى التصويرية للأفلام ساق الباحث جين هاريل هذا السبب كمحاولة منه للإجابة عن سؤال: لمَ يستخدم المخرجون الموسيقى بأفلامهم؟

 

 بإمكاننا رؤية ما قاله هاريل مُتحققا في أي فيلم، فالموسيقى في الفيلم تُساعد على خلق جو ما وبناء حالة شعورية مُتكاملة. وبالاشتراك مع بقية العناصر السينمائية الأخرى في مقدورها تشييد واقع موازٍ، تسحب كل تفصيلة من تفصيلاته المُشاهد داخله بنعومة، لتنسج بعدها حوله سياجا غير مرئي يفصله عن الواقع الفعلي. وفي أحيان ليست بالقليلة يوظف المُخرج الموسيقى كأداة للسرد يستطيع عبرها إيصال ما تُفكر أو تشعر به إحدى الشخصيات إلى المُشاهد، دون حاجة إلى اللجوء إلى الكلمات اليومية المعتادة والتي قد تبتذل المعنى.

 

والموسيقى بمقدورها أيضا إضفاء أبعاد مختلفة على أبسط المشاهد والتي قد تفقد الكثير من عمقها بدونها. فرؤيتك مثلا لمشهد رجل يسير في شارع خالٍ سيعطيك إحساسا مُختلفا تماما إن شاهدته ومقطوعة دفوراك "رومانس للكمان والبيانو" في الخلفية، عن إذا ما استمعت لمقطوعة "العاصفة" لفيفالدي بدلا عنها. أما إن لم تكن هناك موسيقى على الإطلاق فقد لا ترى في مشي الرجل سوى طريقة لانتقاله من نقطة إلى أخرى، وبالتالي لن يُخلّف عندك أي شعور.

 

يقول الممثل الأميركي "جورج بيبارد" عن هذا: "هنالك مشهد من فيلم "المنزل على الهضبة" تُركز فيه الكاميرا عليَّ بينما أسير إلى مقبرة. طالما أثنى الكثيرون على تمثيلي بهذا المشهد، لكن في واقع الأمر كل ما فعلته حينها هو أن سرت ناظرا أمامي. كان البطل الحقيقي لهذا المشهد هو موسيقى "كابر" (مؤلف موسيقى الفيلم)".(2)

   

الحياة المزدوجة لفيرونكا: الرقص على إيقاع الحياة الغامض

    

في ذات اللحظة من ذات اليوم تنفتح عينا فيرونيكا وفيرونيك على الحياة. تبدوان كشخص وانعكاسه، فلهما نفس الشعر البُني القصير والعينين الخضراوين والصوت العذب. لكن فيرونيك وفيرونيكا ليستا توءما، فقد ولدت الأولى ببولندا والثانية بفرنسا. وبالرغم من الأميال الطويلة التي تفصل بينهما، يلف كيان كل منهما شعور غامض أنها ليست وحيدة، أن هنالك شخصا ما في هذا العالم يُشبهها تماما. يتابع الفيلم فيرونيكا وهي تستعد لحفلها الأول كمُغنية أوبرا، وفيرونيك أثناء تقفيها أثر تلك الهدايا الغامضة التي تصلها عبر صندوق البريد من شخص مجهول.

 

فكرة القرين ليست بالجديدة على السينما، فقد تناولتها أفلام كثيرة من قبل. ومع هذا، فلم يستطع أحد حتى الاقتراب من الشاعرية والنظرة العميقة التي عالجها بها المُخرج كريستوف كيسلوفسكي في فيلم "الحياة المزدوجة لفيرونيكا".

 

بدلا من استخدام الحبكة التقليدية والحوار كأدوات للسرد استعاض كيسلوفسكي عنهما بالإضاءة والظلال والتركيز على تعابير وجه الممثلة الموهوبة إيرين جاكوب التي لعبت كلا الدورين (فازت جاكوب بجائزة مهرجان "كان" لأفضل ممثلة عن دورها في الفيلم)، وبالطبع موسيقى زبجنيو بريزنر التي لم يقل دورها أهمية عن جاكوب. لهذه الأسباب، ما يوصله لنا الفيلم هو حالة شعورية تقف على حدود الميتافيزيقا أكثر منه قصة ذات مقدمة وعقدة وحل. نجد أيضا أن كيسلوفسكي في أكثر من فيلم -كهذا الفيلم وجزء "الأزرق" من ثلاثية الألوان- يجعل من إحدى الشخصيات إما مؤلفا موسيقيّا أو مُغنيا أوبراليا أو مدرس موسيقى، مما يجعل للمقطوعات الموسيقية أهمية محورية في أفلامه.

 

ترافق المقطوعة السابقة مشهدا لفيرونيك أثناء مشاهدتها لعرض عرائس خشبية للأطفال مع تلاميذها. والحقيقة أن هذا المشهد وإن مر كمشهد عادي في أي فيلم آخر فإن له دلالاته ورمزيته الخاصة في فيلم لـ"كيسلوفسكي". فنرى هنا العرائس تماما مثل فيرونيكا وفيرونيك، تُحركها خيوط القدر وتنظم خطواتها في رقصة غامضة لا تدري لها سببا ولا تستطيع لها تفسيرا. يحمل القدر الدمية في رقصتها على إيقاع دقات البيانو، فتبقى خطوتها التالية كهدايا الغريب لفيرونيك، غير مفهومة، تخبئ لها مجهولا تتوق إليه بنفس القدر الذي تتوجس منه.

      

في أجواء الحب: الموسيقى تتحدث أحيانا

     

العام هو 1962. ينتقل أربعة أزواج للسكنى بغرفتين داخل شقتين مُتجاورتين بإحدى بنايات هونغ كونغ المُزدحمة. تجد السيدة تشان نفسها كثيرا وحيدة بعد ساعات عملها كسكرتيرة لغياب زوجها المُتكرر، ووحيدة تذهب كل ليلة لشراء العشاء. على السلالم، تتكرر مقابلتها للسيد تشاو الذي تحييه باقتضاب ثم يذهب كل منهما إلى بيته. لا يمر وقت طويل حتى يكتشف السيد تشاو والسيدة تشان أن زوجيهما على علاقة ببعضهما البعض.

 

كانا مهزوزين في إثر الصدمة، يُسيطر عليهما ألم عميق وعدم فهم، يتساءلان لمَ وكيف حدث هذا؟ معا يحاولان تجميع شتات روحيهما المبعثرة واستيعاب ما جرى، لكن على غير رغبة منهما أو توقع، ينسج الحب خيوطه في ركن دفين بقلبيهما، حب لم يكن له مصير في تلك الظروف وذاك المجتمع سوى الوأد قبل حتى أن يولد.

 

يبدو المخرج "وان كار واي" في كل تراكيبه البصرية وكأنه يحاصر بطليه، يخنق كل مشاهدهما بزحام من الأغراض أو الأشخاص، ويضعهما في كادرات ضيقة مُستخدما تقنية الأُطر المُزدوجة.(3) وكأن كل تكوين بصري من تكويناته يود أن يصرخ لنا أن تشاو وتشان عالقان، حبيسان لوضع فُرض عليهما فرضا ولا يستطيعان منه الفكاك. تسيطر على الفيلم أيضا روح الكتمان، فقليل فقط هو ما تصوغه الشخصيات في كلمات، لتبقى كل مشاعرهما أسيرة للنظرة والإيماءة.

 

يقول جبران: "بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق تضيع كثير من المحبة." وذاك الحب بين تشاو وتشان وإن حاول الصمت الثقيل أن يبتلعه لكن الموسيقى جاءت لتحمله كله في طياتها، لتبوح كل نغمة من النغمات بكل ما فيه من حرارة ولوعة وألم. بالإضافة إلى هذا، يُكثِر المخرج من استخدام اللون الأحمر في تكويناته، بكل ما في هذا اللون من رمزية عن الحب والرغبة. تأتي آخر مشاهد الفيلم والأغنية الإسبانية "ربما، ربما، ربما" تلعب في الخلفية. تنصب نغماتها كسؤال تُرك بلا إجابة يقول: "ماذا لو…؟"

             

الجمال الأميركي: السحر الكامن في القلب من أبسط الأشياء

   

"سأموت خلال عام، لكن بطريقة ما أنا أصلا ميت"

يبدأ الفيلم بهذه الجملة لبطله الأميركي ليستر بيرنهام. تتبعه الكاميرا كاشفة لنا عن بعض من تفاصيل حياته: رجل أربعيني يعمل بوظيفة يكرهها، متزوج من امرأة كفت حتى عن الاكتراث له منذ زمن بعيد، أب لمراهقة تتمنى لو لم يكن موجودا.

   

كارولين، زوجته، لا تود لحياتها سوى أن تكون واجهة برَّاقة ينظر لها الجميع بإعجاب. تُمضي وقتها في محاولات بائسة لتحقيق ما تريد، فلا تجد في النهاية حولها سوى نجاحات ضئيلة، زوج فاشل، ابنة غريبة الأطوار. مع فشلها في خلق الصورة المثالية التي تنشدها، تلجأ كارولين إلى التصنع الذي يُحيل حياتها إلى زيف كاذب.

   

أما جاين ابنتهما، فتمر بما تمر به كل مراهقة، من إحساس بالقبح والرغبة لو بدت جميلة كصديقتها الشقراء أنجيلا، لافتقاد الوجهة في الحياة والشعور بالغربة عن أبويها، إلى تمني لو وجدت فتى ما يكترث لها. يذهب ليستر وكارولين إلى مباراة تشترك بآخرها جاين في رقصة مع زميلاتها، وعندما يشاهد ليستر صديقة ابنته الشقراء أنجيلا تتمايل راقصة يفغر فاه مسحورا بها. حينها، تسيطر عليه رغبة مجنونة في تملكها.

      undefined

      

طوال الفيلم، تظهر لنا الشخصيات وسؤال الهوية يقبع على صدرها كحجر. تنبثق الأحداث من محاولة كل منهم الإجابة عن سؤال "من أكون؟". ليستر يجد نفسه مدفونا تحت ثِقل وظيفة مملة وحياة زوجية بائسة، تظهر له أنجيلا بكل ما فيها من جمال وحياة كضوء يلوح من بعيد يعده بنفخ روح الوجود به مجددا، تصير له كفاكهة محرمة، يبذل نفسه ويعيد تعريف ذاته من أجل الظفر بها. وكارولين ابنة للثقافة الرأسمالية، تقدس النجاح وتجعل منه هدفا أسمى للحياة، لأجله تُقدم ذاتها قُربانا على مذبح المثالية دون أن تدري لحظة أن ما تنشده لا يوجد فقط سوى في الإعلانات وكتب التنمية البشرية. هكذا، تجد كل شخصية الإجابة عن سؤالها في القلب من زيف يستنفدها. وعلى الجانب الآخر، يظهر لنا ريكي صديق جاين، الذي بالرغم من صغر سنه فهو الوحيد الذي يعرف حقا من يكون وماذا يريد.

    

في واحد من أهم مشاهد الفيلم، يحكي ريكي لجاين عن أحد أيام الشتاء الباردة شاهد فيه كيسا بلاستيكيا صغيرا تُطيره الريح. أسره جمال المشهد على بساطته، وصوّره بكاميرا الفيديو التي ترافقه أينما حل. قال لجاين حينها: "في ذاك اليوم، أدركت أن هنالك حياة كاملة وراء الأشياء… أحيانا يوجد الكثير من الجمال في هذا العالم، أشعر أمامه أنني ضعيف، أن قلبي على وشك أن ينفجر".

    

طوال الفيلم، وتقريبا في كل مشهد من مشاهده، تظهر الوردة الحمراء كمثال على تصور الشخصيات للجمال. في بداية الفيلم تظهر جاين وهي تعتني بها، تُشذبها وتُنظفها ثم تقطفها. ويظهر ليستر وهو يتخيل أنجيلا تستحم في حوض من أوراقها. ثم يأتي مشهد الكيس البلاستيكي، كيس بلاستيكي مُهمَل تراقصه الريح يصفه ريكي كأجمل شيء رآه في حياته. بينما اتبع ليستر وكارولين الجمال الزائف الذي رمز له المخرج بالوردة الحمراء، رأى ريكي أن الجمال يَكمُن في أبسط الأشياء، في أخفها.(4)

    

يظهر مشهد الكيس على الشاشة ثلاث دقائق تُرافقه خلالها موسيقى توماس نيومان البديعة. وكأن المخرج سام مندس يريد أن يقول لنا عبره إن السحر الحقيقي يكمن في الانسيابية، في الخفة، في الأشياء المُهمَلة واللحظات البسيطة. إن الرضا والسعادة لا يكمنان في الحياة المُعقدة التي تستولي عليها المظاهر الخادعة، بل في الروح المُتخففة من أثقال الوجود، التي ترقص برقّة على إيقاع الريح ككيسٍ بلاستيكي صغير.

المصدر : الجزيرة