شعار قسم ميدان

من التانغو للموسيقى الشرقية.. أربعة أنواع موسيقية أطربت العالم

MIDAN - موسيقى الروك

طالما وجد الإنسان في الموسيقى وسيلة للتعبير عما تنطوي عليه روحه، فحتى مُعجم الكلمات الواسع يضيق أمام زخم مشاعرنا العصيّة على اللغة. حينذاك، لا نجد لنا من ملاذا أفضل من عالم الأنغام الرَحب لنودعه كل ما تختلج به صدورنا. وباختلاف ثقافاتنا، تختلف طرق تعبيرنا الموسيقية، فلكل شعب مُفرداته الموسيقية الخاصة جدًا، والتي تُشكل شخصية موسيقاه الفريدة. وبتعدد الثقافات والشعوب، تتعدد أنواع الموسيقى التي تُحاكيها. في ما يلي نستعرض بعضا من أهم تلك الأنواع:

 

الأرجنتين ترقص على إيقاع التانغو
في أزقة وحانات بيونس أيرس منتصفَ القرن التاسع عشر، وُلد التانغو ابنًا لآلاف المهاجرين الفقراء الذين شدوا الرحال إلى الأرجنتين ولم يحملوا معهم سوى بضعة أحلام بحياة سعيدة ومال وفير. في تلك المدينة الواسعة، تبادلوا الثقافات الموسيقية التي امتزجت مع بعضها البعض لتُثمر في النهاية موسيقى التانغو.

 

ونظرًا إلى ميلاده في الأحياء الفقيرة، فقد ارتبط التانغو في الأذهان خلال سنواته الأولى بأبناء الطبقة الكادحة، تلك التي دأب المجتمع على وصم كل ما تنتجه بـ"السوقية". ورغم هذا، لاقت الموسيقى والرقصة رواجًا كبيرًا في أوساط شبابِ الأرستقراطيين، الذين حملوها معهم بعد ذلك في رحلاتهم إلى أوروبا لينشروها في أوساط المجتمعات الأوروبية. أخذت تلك الموسيقى الخلابة بألباب الأوروبيين الذين سُحروا بعفويتها وانطلاقها. وفي الأرجنتين، زالت عنها وصمتها في مجتمعات الأغنياء لتنتقل بعد ذلك من الحانات إلى القصور، وتصير الموسيقى التي يستمع إليها الجميع بلا استثناء.

 

واصل التانغو رحلته إلى آذان وقلوب الناس في كل أنحاء الأرض، مارًا في طريقه بعقبات كثيرة لعل أسوأها كان الانقلابات المُتكررة التي أخذت تعصف ببلاده الأرجنتين وتأتي بالديكتاتوريين إلى سدة الحكم، ليحكموا عليه بعدها أن يعود إلى تحت الأرض حيث بدأ. لكن رغمًا عنهم، واصل التانغو رحلته إلى العالم أجمع وعاد مُجددًا ليتبوأ منزلته كأكثر أنواع الموسيقى شهرةً في الأرجنتين. ولعل الفضل الأعظم في تلك المنزلة الرفيعة التي وصل إليها التانغو يعود إلى مجموعة من الموسيقيين العُظماء الذين وهبوه الكثير من الألحان البديعة التي علقت بالأذهان، ومن أجملها وأشهرها مقطوعة "Por Una Cabeza" لكارلوس غارديل.(1)(2)

   

      

الجزائر تتمرد عبر الرّاي
على ضفاف سواحل مدينتي وهران وبلعباس، وُلد الراي في بدايات القرن العشرين، وقد انبثق إلى الوجود نتيجة لتزاوج الثقافات العربية والأوروبية والإفريقية التي اتخذت كلها من الجزائر مسكنًا. سُمي مُغنّو الجيل الأول من الراي: "الشيوخ" و"الشيخات"، بينما اشتق الراي من "الرأي" اسمه، مُعلنًا للجميع، مُنذ البداية، أنه جاء ليحمل أفكار ورؤى صانعيه الذين اتخذوه صوتًا لهم. وأول تلك الرؤى كان موقف الجزائريين المُناهض للاستعمار الفرنسي، فعبْر أغانيه بث الناس غضبهم على ظلم المُستعمر والفقر الذي فرضه عليهم، ما لم يُعجب بالطبع قوات الاستعمار.

 

مرت السنوات وسقط الاستعمار في الستينيات، لكنْ ظلت السُلطة -المُتمثلة هذه المرة في "جبهة التحرير الوطنية"- على عدائها للراي واضطهادها لفنانيه، فقامت بحظره من الإذاعة والتلفزيون مُتعللة بُجرأة كلماته التي تناولت موضوعات حسّية، بينما كان السبب الأساسي وراء المنع هو توجيهه الانتقادات للنظام.

 

ولم تقدر السُلطة على حظر الراي طويلاً، واضطرت إلى الاعتراف به على مضض. ففي عقد الثمانينيات جاء جيل جديد من شبابٍ شُغفوا بالراي وبثوا دماءً جديدة في عروقه، وكتمييز لهم عن الجيل السابق، أطلقوا على أنفسهم لقبي" الشاب" و"الشابة". ويعد الشاب خالد والشاب حسني والشابة فضيلة والشاب مامي ورشيد طه والشابة الزهوانية من أهم ممثلي هذا الجيل.

 

وسرعان ما تعالى في الأجواء دخان الحرب الأهلية، ليجد الراي نفسه مُجددًا تحت التهديد. فقد أثار بكلماته المُتحررة ومواضيعه الجريئة غضب الجماعات المُتطرفة، التي حاولت هذه المرة بتره بأكثر الطرق قسوة: التصفية الجسدية لفنانيه.. وجاء قتل "الشاب حسني" في 1994 كرسالة واضحة لمُغنّي الراي أن عليهم إما الهجرة وإما الموت.

اختار الفنانون الهجرة، لتتلقاهم هذه المرة مدينة باريس، ويتخذوها منبرًا يذيعون مُنه موسيقاهم. نجح فنانون، كالشاب خالد، في نقل الراي من الجزائر إلى العالمية، مُعلنًا في هذا أنه إن ضاق بالراي وطنه حينذاك، فقد اتسع له العالم أجمع. (3)(4)(5)

         

        

شباب أمريكا يثورون على آبائهم عبر الروك
في ستينيات القرن العشرين، اقتحمت موسيقى الروك المشهد الموسيقيّ في الولايات المُتحدة بقوة، وفي وقت قصير جدًا، بلغت حدًا من الشهرة تمكنت معه من أن تفرض نفسها كعنوان لتلك الحقبة التي سيطرت عليها روح الثورة والتغيير.

ويرجع هذا إلى انبثاقها في وقتٍ عصفت بشبابه التقلبات والرغبة في التمرد على جيل الكبار: من الشعور العام بالإحباط والسخط على المؤسسات والثقافة الاستهلاكية، إلى تصاعد الغضب حيال حرب فييتنام، مُرورًا بالثورة الجنسية وانتشار عقاقير الهلوسة، كان من السهل رؤية أن هذا الجيل يختلف عن آبائه. ولعل أفضل من عبر عن هذا المعنى كان بوب ديلان في أغنيته الشهيرة "الأوقات تتغير" (The Times They Are A-Changin)  في 1963 والتي تقول إحدى فقراتها:

   

"تعالوا يا آباء ويا أمَّهات
عبر البلاد
ولا تنتقدوا ما لا تستوعبون
أبناؤكم وبناتكم صاروا خارج طوعكم
وطريقكم القديم في طريقه إلى الزوال"

   

ومن شباب أميركا إلى شباب إنجلترا انطلق الروك، وكان من إنجلترا أن خرجت بعض من أهم فرق الروك على الإطلاق: البيتلز وبينك فلويد. ابتعدت تلك الفرقتان عمّا انتشر قبلهم من أغاني الحب السطحية، و تضمنت أغنياتهم أفكارا عميقة -كالوحدة في المجتمعات الصناعية الحديثة، واللامعنى الواقع في القلب من الثقافة الاستهلاكية، ومضيّ العُمر سريعًا دون أن يمكن الإنسان من اكتشاف ذاته- نَدُر أن تطرقت إليها الأغاني.

   

وشهدت العقود التالية تطورًا كبيرًا لموسيقى الروك، امتزجت خلالها مع غيرها من الأنواع الموسيقية، واشتُقت منها أنواع العديد من الأنواع الموسيقية الفرعية -أهمها الهيفي ميتال والبونك-. وفي القرن الواحد والعشرين، تراجعت شُهرته بشكل كبير أمام الآر أند بي والبوب، لكن مع هذا، تظل لتلك الموسيقى الخاصة قاعدة جماهيرية واسعه من المُعجبين -هذه المرة من جميع الأعمار- الذين يجدون بأصواتها الحادة صدى لأفكارهم وتساؤلاتهم العميقة. (6)

    

          

الموسيقى العربية وعالمها الموازي من الطرب
في الشرق الأوسط، منذ عصور الجاهلية الأولى وحتى القرن العشرين، أخذ العرب يطورون تقليدهم الموسيقى بعيدًا عن الغرب وفنونه، وكنتاج لهذا، وُلدت ثقافتهم الموسيقية ذات الخصوصية الشديدة والتي تكاد تختلف في كل شيء عن موسيقى أوروبا.

في كتابه "خطاب إلى العقل العربي"، يعقد المفكر المصري البارز "فؤاد زكريا" المُقارنة بين كلا التقليدين. تأتي أول نقاط المُقارنة لتُبيّن أوجه الخلاف في الأجواء التي مارس فيها العازفون الموسيقى وتلقاها الجمهور بالمُجتمعين. ونجد أنه بينما بدأت موسيقى الغرب الكلاسيكية كموسيقى دينية انشقت عنها بعد ذلك أنواع موسيقية أخرى، بدأ عزفها في الكنائس وسط أجواء من الرهبة والتبجيل لم تغادرها حتى بعد أن انتقلت من دور العبادة إلى الأوبرا وقاعات الحفلات، كانت الموسيقى العربية على الجانب الآخر حسية في الأساس، مكانها الأساسي مجالس الأُنس والطرب في قصور علية القوم من الأُمراء والخُلفاء، غالبًا ما يُصاحبها الرقص ويقوم عليها الجواري والقِيان.

    

         

ووجه الخلاف الثاني الذي يطرحه "زكريا" يتناول المسافة التي تقف بين الفنان وجمهوره أثناء الأداء. فبينما تُسيطر على الجمهور الغربي أجواء من صمتٍ لا يخرقه سوى صوت الموسيقى أثناء الحفل خالقًا في هذا ما يُشبه الجدار المعنوي بين الفنان والمُتلقي، نجد أن الجمهور العربي يتفاعل تفاعلا شديدا مع الموسيقى، وعندما يستخفه الطرب والسلطنة، لا يجد حرجا من أن تتعالى صيحاته بـ"الله" و "يا عيني" -تلك الصيحات التي نستطيع سماعها حتى الآن في تسجيلات الحفلات القديمة- لاغيًا في هذا كل مسافة بينه وبين الفنان، وكأن الموسيقى تصبح حينها نتاجا مُشتركا للفنان والجمهور.

   

يأتي الخلاف الثالث ليطرح الخلاف النّوعي بين التقليدين، فبينما ظلت موسيقى الآلات هي المُسيطرة لقرون طويلة في العالم الغربي، نجدها تكاد تكون مُنعدمة في الشرق، حيث كل موسيقى هي بالضّرورة جزء من أُغنية يلعب فيها المُغني دور البطولة بينما تُصاحبه الآلات، وفي بعض الأحيان، الراقصة التي تتمايل على الإيقاع. (7)

    

خلقت الموسيقى الشرقية بتقاليدها الفريدة عالمها الموازي من الطرب، بلغ ذروته مع كوكب الشرق "أم كُلثوم" التي ألهمت عبر أغانيها أجيالا كاملة من الجماهير والفنانين في الشرق والغرب، مُعلنة أنه وإن اختلفت ثقافاتنا الموسيقية، فبإمكان الكل الإحساس بروح السحر الكامنة في القلب من الموسيقى العربية.

         

undefined

المصدر : الجزيرة