شعار قسم ميدان

مالي.. نغم رغم الحرب

midan - mail

"نمنع نحن، مجاهدو جاو، تمبكتو، وكيدال (أسماء مدن بمالي) إذاعة أي موسيقى غربية على محطات مذياع الأراضي الإسلامية. هذا المنع يسري من اليوم، الأربعاء. لا نريد موسيقى الشيطان. سيحل محلها القرآن. الشريعة تأمر بهذا، وعلينا تنفيذ أوامر الله. [1]"

 

بعد سيطرة الجماعات المسلحة في يناير 2012 على شمال مالي، البلد التي أثرت موسيقى أفريقيا والعالم بألحانها العذبة؛ لم تعد الحياة هي الحياة.

 

الموسيقى في المنفى

"الثقافة بترول مالي، الموسيقى معدنها، ليست هناك جائزة موسيقية مرموقة في العالم إلا وقد فاز بها أحد فنانيها".

 

هكذا علق عازف آلة الكورا (آلة وترية تقليدية بمالي) "طوماني ديباتيه" على قرار منع الموسيقى في حواره مع صحيفة الغارديان [2]. بالنسبة إليه ولكل موسيقيّ مالي، فاق الأمر الخيال، فالموسيقى جزء من نسيج البلد الحضاري وتاريخها. لقرون طويلة، حفظ الحكماء المسمون بـ"الجالي" تاريخ مالي على هيئة أغانٍ شعبية يتناقلها جيل عن آخر، عملوا كمستودع لتراث البلد الثقافي، مستشاري الحكام، ومؤرخي الأحداث؛ لكنهم كانوا في المقام الأول، موسيقيين.

 

عازف
عازف "الكورا" المالي طوماني ديباتيه (مواقع التواصل)


يعتبر "طوماني" واحدا من أبرز موسيقييّ مالي، فقد قام بأخذ موسيقى مالي التقليدية وزاوجها مع تقاليد موسيقية من ثقافات أخرى كالجاز، البلوز، والفلامنكو، لتخرج لنا موسيقاه كمزيج حضاري فريد أسر محبي الموسيقى العالمية. هو أيضاً الجيل السبعون لعائلة من الجالي، بدأ العزف في الساحة العالمية عام 1986 بلندن جنباً إلى جنب مع أبيه. أواخر الثمانينيات حاز على شهرة واسعة وقارنه النقاد بعمالقة الموسيقى الغربية. عام 2005 تعاون مع "علي فاركة توريه"، عملاق آخر من عمالقة موسيقى مالي وأخرجا معاً ألبوم "في قلب القمر" الذي حاز علي جائزة الغرامي[3]. 

 

"كان الأمر محزنا. نشأت على الكورا والقرآن. لم أكن لأتخيل يوماً أني سأجد نفسي معرضاً للخطر بسبب عزفي على آلة مالية تقليدية، جزء من ثقافتنا". أردف طوماني.

 

لم تكتف الجماعات المسلحة بمنع الموسيقى من الراديو؛ بل جاهدت أيضاً لمنعها من الحياة اليومية. وفقاً لتقرير "الموسيقى، الثقافة، والصراع في مالي"، لم تدخر الجماعات المسلحة جهدا في فرض الصمت الإجباري على كل مظاهر الحياة المتعلقة بالموسيقى. من تكسير جوال فتى بسبب نغمة رنين هاتفه، لإحراق آلات أحد الموسيقيين في طريقه لإحياء إحدى حفلات الزفاف، لم تترك السلطة طريقة إلا وأظهرت بها عداءها للأنغام. لم يكن أمام موسيقيِّي مالي سوى الهرب.

 

إلى العاصمة "باماكو" هرب المغني "عليو توريه" بعد تصاعد العنف في الشمال. هنالك قابل عازف الجيتار "جاربا توريه" الذي هرب أيضاً من بلدته و"عمر توريه" الذي غادر "تمبكتو" بعد وقوعها في أيدي الجماعات المسلحة. في باماكو قابل الثلاثة عازف الطبول "ناتانيل دمبليه". تجمع الأربعة وكونوا فرقة "سونغهوي بلوز"[4].

من باماكو إلى لندن هاجر فريق سنغهوي بلوز، وهناك سجلوا أول ألبوماتهم الذي أسموه
من باماكو إلى لندن هاجر فريق سنغهوي بلوز، وهناك سجلوا أول ألبوماتهم الذي أسموه "الموسيقى في المنفى"، وحقق الألبوم نجاحا كبيرا
 

"كان هنالك أشخاص كثيرون يركبون الشاحنات ليهربوا. في لحظة تكون في بيتك ثم في الأخرى ترى أمك، أخاك، أخواتك، يحملون متعلقاتهم، يركبون الشاحنات ويرحلون" يصف عمر توريه الهجرة الجماعية من تمبكتو[5].

 

من باماكو إلى لندن هاجر الفريق، هناك سجلوا أول ألبوماتهم الذي أسموه "الموسيقى في المنفى". حقق الألبوم نجاحا كبيرا. يتحرك الألبوم بين القضايا العالمية والمحلية، وبالرغم من واقع مالي الأليم؛ إلا أن أنغام "الموسيقى في المنفى" تتسم بالخفة والمرح. عند سؤالهم عن السر وراء هذا أجاب عمر توريه  "الفكرة ليست إنتاج موسيقى ثورية، فأزمة شمال مالي متجذرة في الكراهية والانتقام. وقع البعض ضحايا، قُتل آباؤهم، فقرروا أن يثوروا. لماذا إذن نتحيز لأحد دون الآخر؟ نغني عن الفرح. الرسالة الوحيدة التي نريد إيصالها هي الاتحاد والفرح."

 

في أغنية "Soubour"، والتي تعني الصبر، يحاول الفريق إيصال رسالة أمل. "نقول للناس أن يصبروا، سنعود جميعاً لهدف واحد وهو العيش سوياً في سلام."
 

 

التاريخ يعيد نفسه
قبل نشأة سونغهوي بلوز بعشرين عاما نشأت فرقة مالية أخرى في ظروف مشابهة كثيراً. تلك الفرقة هي "تيناريوين".

 

عندما اندلعت ثورة طوارق مالي في الشمال، نزح الكثير من الماليين خارج البلاد هرباً من بطش الحكومة. بين ليبيا والجزائر، نشأ إبراهيم أغ الحبيب العضو المؤسس للفرقة بعد مقتل والده في الثورة وهو طفل في الرابعة. بعد مشاهدته لفيلم أمريكي يلعب فيه البطل الجيتار بالمسدس، صنع إبراهيم جيتاره الخاص باستخدام أسلاك معدنية لدراجة، قضيب، وعلبة صفيح. في الثمانينيات، قابل إبراهيم أعضاء الفرقة الآخرين ليؤسسوا "تيناريوين"- مرادف لغة الطوارق لكلمة "صحراوات"[7].

فرقة تيناريون
فرقة تيناريون
 

على العكس من سونغهوي بلوز، تظل الثورة تيمة متكررة في أغاني تيناريون الذين لم ينفصلوا يوماً عن السياسة. في 2010، مثلت الفرقة الجزائر في افتتاح كأس العالم في جنوب أفريقيا، وفي 2012  حازوا على جائزة الغرامي عن ألبوم "تاسيلي".

 

بارقة أمل

بالإضافة لكونها موطن لمجموعة من أفضل موسيقيّي العالم، فقد أقامت مالي الكثير من المهرجانات الموسيقية المرموقة. على رأس تلك المهرجانات، كان "Festival au Desert"  أو مهرجان الصحراء السنوي الذي قال عنه المنتج الموسيقي بول شاندلر: 

"لم يكن الأمر كالذهاب لحفلة. المهرجان كان مجتمَعا؛ مجتمَعا منفتحا، فرصة لمقابلة أناس مختلفين عنك ثم اكتشاف أنهم ليسوا مختلفين كثيراً. الموسيقى كانت مجرد جزء منه، كان ذاك المجتمع هو الشيء الأساسي" [8].

 
 undefined

منذ 2012 وإلى الآن والمهرجان متوقف لاعتبارات أمنية. تعليقاً على منع الجماعات المسلحة للموسيقى قال "ماني أنصار" منظم مهرجان الصحراء:
"كل شيء في مالي ينتقل عبر الموسيقى والشعر. لهذا، فبدل من أن يفزعني المنع، جعلني أوقن أننا نتعامل مع أشخاص لا يدركون ما يفعلونه؛ ومن ثم فلن ينتصروا. هم عاجزون عن فهم الثقافة التي يتحركون فيها، ولا يحاولون أن يفعلوا ذلك. مستحيل أن تعيش مالي دون موسيقى. ستفقد حياة الناس معناها، فالموسيقى هي واقعهم اليومي، لا يملكون سواها ليشغلهم ويسليهم. ليس عندهم تلفاز، ولا إنترنت. لا يلعبون الشطرنج. لا يقامرون. وحدها الموسيقى تجعل الحياة محتملة."[9]

 

في فبراير 2017، للسنة الثانية على التوالي، استطاع موسيقيّي مالي إقامة مهرجان بديل بالعاصمة باماكو  Festival Acoustik Bamak. جعل هذا المهرجان الأمل يداعب الكثيرين أنه ربما تشهد مالي غدا أفضل من اليوم، ومجدداً تصدح الموسيقى في شوارعها[10]. 

المصدر : الجزيرة