شعار قسم ميدان

موسيقى شوبنهاور.. سطوة الآلة في مواجهة الكلمات

midan - music
اضغط للاستماع
      

"لم تظفر الموسيقى من قبل – بل ولا من بعد – بمن استطاع أن يكشف عن سرِّها الميتافيزيقي كما فعل شوبنهاور"
– عبد الرحمن بدوي

 

يرى الكثير من النقاد أنه لم يكن لفيلسوف ذلك التأثير العميق في الحياة الفنية والفكرية في أوروبا مثلما كان لآرثر شوبنهاور، لقد أشهر جميع مفكري أوروبا ومبدعيها أصحاب الشأن إيمانهم بفلسفته: هيوسمانز، وموباسان، وفاغنر، ونيتشه، وكاندينسكي، وستريندبرغ، وكافكا، وبروست، وفيتغنشتاين.. والقائمة تستمر؛ ولقد عرض عبدالرحمن بدوي في كتابه "شوبنهاور" كل جوانب فلسفته وعرض جوليوس برتنوي في كتابه الفيلسوف والموسيقى فلسفة شوبنهاور في الموسيقى بشكل مفصل، وهو ما نعرضه هنا.

 

طَبعت فلسفة شوبنهاور القيم الأدبية والفنية في أوروبا بطابعها، تلك الفلسفة التي تهيمن عليها فكرة أساسية هي أن جميع ظواهر الكون سواء مادية أو نفسية محكومة بقوة واحدة لا مفر منها هي المحرك الرئيسي لكل المخلوقات يسميها "الإرادة" (لكن المعنى الذي تحيل إليه هذه الكلمة في فلسفة شوبنهاور يكاد يكون نقيض معناها الشائع، بوصفها أمرا خاضعا لسيطرة الفرد وتوجيهه) وهي فكرة حادة وحزينة، فلسنا نحن من يريد بل العالم أو الطبيعة أو النوع.

 

"شوبنهاور يحلل فلسفة الموسيقى ويكشف عن سرها إلى درجة أوفت على الغاية العليا والأمد الأقصى في براعة التحليل وعُمق النظر ودقة الإحساس"- عبد الرحمن بدوي 
 

بدقة أكثر، يرى شوبنهاور أننا لا نملك من الأمر شيئا، فنحن ظواهر عارضة، محكومون بتلك الإرادة التي تسبقنا وتتجاوزنا (المفهوم هنا قريب من مفهوم الغريزة والدافع عند فرويد، حيث يعادل مفهوم الإرادة مفهوم الغرائز في التحليل النفسي الفرويدي)، ومع ذلك، كان شوبنهاور يرى أن هناك سبيل واحد للخلاص من سطوة هذه الإرادة، هو طريق الفن، خاصة الموسيقى الذي اعتبرها أبهى صور الفن.

 

يعتبر شوبنهاور جميع الفنون تعبر عن الإرادة بطريقة غير مباشرة عن طريق الصور، أما الفن الذي يعبر عن الإرادة مباشرةً هو فن الموسيقى، يقول عبد الرحمن بدوي: شوبنهاور يحلل فلسفة الموسيقى ويكشف عن سرها إلى درجة أوفت على الغاية العليا والأمد الأقصى في براعة التحليل وعمق النظر ودقة الإحساس.

 

فالموسيقى عنده فن مستقل بذاته عن بقية الفنون، ففيها لا نجد تقليد أو تكرار أية صورة للكائنات الموجودة بالعالم؛ ولكن لها مع ذلك من الجلال والروعة وقوة التأُثير في أعماق الإنسان، والنفوذ إلى أخفى خفاياه، وكأنها لغة عامة، تفوق في وضوحها العالم المرئي نفسه، مما يجعلنا نعدها المعبر الأكبر عن جوهر الوجود وحقيقة العالم، هي أرفع أشكال الفن، لأنها الأكثر تجردًا، والأقل ارتباطًا بأي معنى ظاهراتي.

 

في عام 1877، كتب والتر باتر يقول: أن كل الفنون تطمح لأن تكون حالة من حالات الموسيقى، كان باتر يعني أن كل الفنون يجب أن تسعى للاقتراب من مفهوم شوبنهاور عن الموسيقى، فيما بعد، سيتوقف الرسامون التجريديون عن تمثيل العالم تمثيلاً متماسكا، بل أن بعضهم مثل كاندينسكي أطلقوا على لوحاتهم أسماء تحمل دلالات موسيقية.

كاندينسكي، فيوغ، 1914 وتعني
كاندينسكي، فيوغ، 1914 وتعني "موسيقى مبنية على لحن معيّن يتكرّر بطريقة متواترة" (مواقع التواصل)

يقول عبد الرحمن بدوي أن الموسيقى عند شوبنهاور هي الوحيدة من بين الفنون التي تعبر عن الوجود في وحدته المطلقة، لا عن أجزاء معينة منه كما تفعل باقي الفنون، إنها تصوير دقيق شامل لإرادة الحياة، التي هي الوجود، تصوير لها في مدها وجزرها، وضلالها وهداها، ومتناقضاتها وأحوالها المضطربة المتغايرة، ونزعاتها إلى الهدم وإلى البناء، وهي تعبر عن لغتها تعبيرا كاملا صادقا عن إرادة الحياة في جوهرها كله، لا في أجزائها وأطوارها المختلفة المتعددة.

 

فهو لا يراها تعبر عن هذا الفرح المعين أو ذاك، أو هذا الحزن أو الألم أو الرعب، أو السرور أو المرح أو الطمأنينة أو ذاك؛ وإنما هي تعبر عن الفرح والحزن والألم والرعب والسرور والمرح والطمأنينة في ذاتها، أي بطريقة أقرب إلى التجريد، فهي تعبر عن الطبيعة الكامنة لهذه المشاعر دون إضافات من الخارج وبالتالي دون دوافعها الظاهرية، ومع ذلك نحن نفهمها في حالتها الخالصة هذه على أكمل وجه.

 

إذن فالموسيقى تتجاوز الصور إلى ما هو جوهري، إلى الإرادة نفسها، فهي مستقلة عن عالم الظواهر، تستطيع أن تبقى بدونه وأن تحيا لو فني هو، بينما لا تستطيع بقية الفنون إلا أن تعتمد في وجودها على هذا العالم، لذلك تستطيع الموسيقى وحدها أن تؤثر هذا التأثير الهائل في النفس، فتربط النفس بجوهر الوجود بطريق مباشر، في الوقت الذي تعبر فيه الفنون الأخرى عن الوجود بطريق غير مباشر أو بالأحرى، لا تعبر إلا عن الصور وهي ظله لا حقيقته.

 

الموسيقى لا تحتاج إلى كلمات
– سيمفونية بيتهوفن الخامسة

يقول جوليوس برتنوي أن فلسفة شوبنهاور في الموسيقى تنتمي إلى المدرسة الرومانتيكية والتي جاءت على عكس نظريات القرن الثامن عشر التي قللت من قيمة موسيقى الآلات، لكن القرن التاسع عشر قد جعل قيمة موسيقى الآلات الخالصة تسمو على قيمة الكلمة المنطوقة. أما هوفمان شاعر الرومانتيكية؛ فقال في نقده لسيمفونية بيتهوفن الخامسة: "عندما يتحدث المرء عن الموسيقى بوصفها فنا مستقلا، فعليه دائما أن يقتصر في تفكيره على موسيقى الآلات"، أما مندلسون موسيقي الرومانتيكية فقال: "إن الأفكار التي تعبر عنها المؤلفات الموسيقية الجيدة ليست أغمض وإنما هي أوضح، من أن تعبر عنها الكلمات".

 

وقد تبنَّى شوبنهاور هذا المذهب وكان يقول: الموسيقى لو اتحدت بالكلمات أكثر مما ينبغي، لكانت بذلك تحاول أن تتكلم بلغة غير لغتها"، ويضيف شوبنهاور في فصل له بعنوان "في ميتافيزيقا الموسيقى" قوله: "بقدر ما يكون من المؤكد أن الموسيقى، بدلا من أن تكون مجرد تابع للشعر، هي فن مستقل، بل هي أقوى الفنون جميعا، وبالتالي فهي تبلغ غاياتها بوسائل خاصة بها تماما، وهكذا لا تكون الموسيقى بحاجة إلى كلمات الأغنية، أو مناظر وحركات الأوبرا.. فالكلمات هي وستظل دائما إضافة غريبة بالنسبة إلى الموسيقى، لها قيمة ثانوية، وإن تأثير اللحن، أقوى وأصدق وأسرع إلى حد لا متناهٍ من تأثير الكلمات."

 

يرى شوبنهاور أن تعبير الموسيقى يبلغ أَوْجَهُ حينما يخلو من الألفاظ والمناظر والأفعال، وهو ما يتحقق في السيمفونيات على الوجه الأتم، فسيمفونية من سيمفونيات بيتهوفن مثلا، نرى فيها خليطا من الأصوات، لكنه يقوم مع ذلك على أكمل نظام، ونضالا عنيفا ينحل من بعد إلى أجمل انسجام، وهي من أجل هذا، أجمل وأدق تعبير عن طبيعة الحياة، التي تدور في خليط عجيب من الصور اللانهائية، وفيها نسمع أصوات جميع العواطف والانفعالات التي يمكن أن تختلج في النفس الإنسانية لكن بطريقة مجردة، وكأنها عالم من الروح الخالصة الخالية من كل مادة.

المصدر : الجزيرة