شعار قسم ميدان

بوي باند.. جيل مصري جديد بملامح مغايرة

midan - boyband
اضغط للاستماع
   
في مشهد يبدو سيرياليا للغاية، صاحب صراخ هستيري وقف في بعض الأحيان على حافة البكاء تَدافُع مئات المراهقات وراء ثلاثة شباب في أروقة أحد المراكز التجارية الشهيرة بالتجمع الخامس في القاهرة. انتشر الفيديو الذي يصور تلك الواقعة على صفحات التواصل الاجتماعي انتشارا سريعا، ليتخطى عدد مشاهداته في ظرف خمسة أيام فقط حاجز الاثنين مليون. قابل المعظم ذلك الفيديو باستغراب وعدم فهم عميقين، وبدا أن الكل يتساءل: من هؤلاء؟ ما الذي يحدث بحق الجحيم؟

      

لم يمر وقت طويل قبل أن تتضح الصورة قليلا، فالشباب الثلاثة في الفيديو هم أعضاء فرقة غنائية تُسمى "بوي باند" أُسسَت منذ أربع سنوات. والفيديو يصور زياراتهم الترويجية لافتتاح أحد المحال في مركز تجاري اعتادوا أن يقيموا فيه حفلاتهم.

 

بعد الإجابة عن تلك الأسئلة، حرك الفضول الكثير ليعرفوا تفاصيل أكثر عن تلك الفرقة ونوع الفن الذي يقدمونه. لكن وراء هذا الفضول وتلك الأسئلة، سرت تساؤلات أعمق، فكيف وصلت فرقة غنائية إلى هذا الحد من الشهرة دون أن يعرف التيار العام من شباب العشرينيات وأوائل الثلاثينيات عنها شيئا؟ هل مرّ زمن المراهقين الذين نشأوا على أغنيات "كايروكي" وحمزة نمرة التي نمت بدورها عن جذور الثورة، ليحل محلهم جيل آخر أغانيه وأفكاره منبتة الصلة عنها؟

     

      

فرقة أجنبية بكلمات عربية

بداية من الاسم، مرورا بكل شيء آخر، تحاول فرقة "بوي باند" استنساخ حالة أجنبية وإلباسها ثيابا مصرية؛ فيشير مصطلح "بوي باند" (Boy band) عامة إلى فرق غنائية مُكونة من عدد من المراهقين أو الشباب الذكور يقومون بصناعة أغانٍ خفيفة مُوجّهة إلى جمهور من الفتيات ما بين العاشرة والخامسة عشر، وهو بالضبط ما تفعله "بوي باند". فتتناول أغانيهم موضوعات من قِبَل الصداقة والاستمتاع بالحياة بالإضافة إلى بضعة أغاني عاطفية.

    

ولا يقتصر المُنتَج الذي تقدمه فرق "بوي باند" على الأغاني، بل تبيع لمحبيها أسلوب حياة كامل؛ حيث تُعنى تلك الفرق برسم صورة إعلامية تروّج لنفسها من خلالها، فيرتدي كل عضو من أعضائها شخصية يظهر أمام الجماهير بها، مع مراعاة تنوع تلك الشخصيات المرسومة بعناية، لتستطيع كل فتاة أن تجد "فتى أحلامها" بين الأعضاء.

      

حاولت "بوي باند" أن تفعل الشيء نفسه، ففي فيديو وضعته الفرقة على صفحتها، يقول محمد فؤاد، أحد الأعضاء: "الشركة كانت بتدور على تلت شباب في سن معين وأشكال مختلفة". بعدها، يقطع الفيديو صورة يظهر فيها الفتيان الثلاثة جنبا إلى جنب تبرز معنى ما قال: فأمامنا نرى فتى أسمر بشعر مجعد (محمد جمال)، بجانب آخر قمحي اللون شعره أسود طويل (هشام جمال)، ويسار الصورة ثالث أبيض ذو شعر ذهبي لامع (محمد فؤاد). وبجانب اختلاف الأشكال، لا يجد عضوا الفرقة محمد جمال ومحمد فؤاد مساحة أخرى كبيرة لإظهار شخصياتهما، فالضوء مُسلّط دائما وأبدا على هشام، لأسباب سنخوض فيها بعد قليل. (1)

     

   

كما تتعمد تلك الفرق عادة إحداث ضجة إعلامية حول حياة أفرادها الشخصية لتضمن البقاء دائما في دائرة الضوء؛ فتجد قسطا كبيرا من الأخبار المنشورة حولهم تتعلق بمن في الفرقة ارتبط بمَن مِن الوسط أكثر من تناول تفاصيل نشاطهم الفني. مجددا، نقلت "بوي باند" الحالة نفسها بارتباط هشام جمال العلني بالممثلة الشابة هنا الزاهد والاهتمام بوجودها معه من وقت لآخر في الصور التي ينشرها على موقع إنستغرام، بل ومشاركتها إياه خشبة المسرح في إحدى الحفلات التي أحيتها الفرقة، قبل انفصالهما مؤخرا بالطبع.

 

وقد اتخذت "بوي باند" خطوات إضافية لتخلق نوعا من الحميمية مع جمهورها من الفتيات ولتضمن أيضا وجودا منتظما معهن تعوض خلاله قلّة رصيدهم الغنائي الذي لم يتجاوز سبع أغنيات. فتداوم الفرقة على نشر فيديوهات خفيفة تتنوع ما بين إجابة أسئلة الجمهور وإجراء مقالب ما بين بعضهم البعض.

 

عبر كل تلك الأشياء، نجحت "بوي باند" في أن ترسخ لنفسها صورة ذهنية بين متابعيها كفرقة غنائية تقدم محتوى خفيفا، يماثل ذلك الذي تقدمه مثيلاتها من فرق أجنبية، وينقطع بالضرورة عن أي سياقات اجتماعية أو سياسية جادة، ولا يحمل أي صلة بالفرق الشبابية الأخرى التي انتشرت بين شباب جيل ثورات الربيع العربي وقدمت محتوى أكثر ثقلا. يظل السؤال، كيف استطاعت تلك الفرقة تحقيق مثل ذلك النجاح في وقت قصير نسبيا في الوقت الذي ظلّت فيه فرق عربية أخرى أكثر جدية تعمل في الظل لسنوات؟

       

undefined

     

هشام جمال وبوي باند: أغاني برعاية الوسط الفني والتجمع الخامس

في الوقت الذي تجاهد فيه فرق ومغنون شباب كثيرون لإيجاد مكان صغير تحت الضوء، جاء صعود فرقة "بوي باند" بسرعة البرق. يكمن السر وراء هذا في هشام جمال، قائد الفرقة ومؤسسها، وأشياء أخرى كثيرة.

    

فيمتلك هشام، الذي لا يتجاوز عمره خمسة وعشرين عاما، شركة إنتاج "روزناما" التي أنتجت لدنيا سمير غانم مسلسلاتها في السنوات الثلاثة الماضية، ويعمل أيضا مديرا لأعمالها. كما تقف الشركة وراء جميع أغاني الفرقة وأغاني دنيا سمير غانم في السنوات الأخيرة وعدد من الإعلانات مثل إعلان "ارسم قلب" الذي أُذيع منذ عامين وجاء على هيئة أغنية للدعاية لمركز مجدي يعقوب للقلب. ويقوم هشام أيضا بتلحين أغاني "بوي باند" وعدد من أغاني دنيا سمير غانم. (2)

   

لا أحد يعلم تماما من أين أتى هشام بالمال الكافي ليؤسس شركة إنتاج عام 2011 وهو بعد في الثامنة عشر من عمره، لكن الأكيد أن هذا سهّل عليه كثيرا اقتحام الوسط الفني والتوغل فيه، الشيء الذي راكم عنده علاقات ومعارف جعلت تأسيس فرقة غنائية شيئا بالغ السهولة. وقد انطبعت تلك السهولة نفسها على أغاني الفرقة؛ فجعلت ألحانها الجاذبة وكلماتها الخفيفة سهلا على أذنك أن تلتقطها وسهلا أيضا على ذاكرتك أن تنساها.

        

undefined

   

فـ "بوي باند" لم تفرزها لحظة تاريخية أو ظروف مجتمعية، كان كل ما فعلته هو أن بنت على رأس مال هشام جمال من أموال وعلاقات؛ فظهرت عام 2015 في إحدى حلقات مسلسل "لهفة" التي قامت روزناما بإنتاجه، كما شاركت دنيا سمير غانم الأعضاء غناء أغنيتين جاءت إحداهما في المسلسل. وأقحم هشام نفسه كما هو معروف في إعلان "ارسم قلب"، وظهر مع فرقته في إحدى حلقات برنامج "تلاتة في واحد" التي تقوم شركته نفسها بإنتاجه. وفي تلك الحلقة، أعلن هشام أن أمير طعيمة، أشهر كُتّاب كلمات أغاني التيار العام، يكتب للفرقة أغانيها بالمجان.

    

وهكذا، فإذا كانت موسيقى "كايروكي" وحمزة نمرة نتاج الثورة، فموسيقى "بوي باند" هي بالضرورة نتاج علاقات رأس المال بالوسط الفني المصري المعروف بانفصاله إن لم يكن معاداته للثورة. وقد انعكس هذا بشكل واضح على أغانيهم.

  

فتتحدث لنا الخلفية الاجتماعية المنشغلة بالرفاه عن أي شيء آخر في أغنية "منظرة"، التي جاءت في مسلسل "لهفة" وتناقش كلماتها الـ "منظرة الفاضية" التي تقوم بها عادة الطبقات الثرية، ويقول أحد مقاطعها: "أهم حاجة براند الشنطة مصاريف الشهر تضيع عاللوك". وبعد استرسال في عادات من يقومون بتلك المنظرة، تغني دنيا: "السذاجة تبقى فاكر الفلوس دي كل حاجة"، وتقع تلك الجملة في كلاسيكيات الخطاب الطبقي حيث يجاهد أبناء الطبقة الأرستقراطية في إقناع الأفقر منهم أن النقود ليست مهمة.   

      

      

وفي مشهد آخر من الحلقة نفسها، يقوم السكريبت بالسخرية من أبناء الطبقة الأقل ثراء المعزولين بالضرورة عن مستعمرات الأغنياء. فعندما يتحدث علي ربيع، الذي يقوم بدور الأخ لـ "لهفة" في المسلسل والذي ينتمي وإياها إلى أحد الأحياء العشوائية، مع هشام جمال الذي يظهر بشخصيته كقائد "بوي باند" في الحلقة، ويصف له الأخير عنوان استوديو الفرقة الواقع في أحد الأبنية الواقعة قرب "الداون تاون"-مركز تجاري بالغ الفخامة في القاهرة الجديدة- نستمع لهشام يرد على علي في الهاتف في نغمة استنكار: "باسبور إيه؟ لأ "داون تاون" دي في التجمع الخامس هنا في مصر مفيش سفر".

 

تبتعد بقية أغاني الفرقة عن "هموم" الطبقة الثرية، وتذهب إلى مواضيع خفيفة وعامة، وتتناول في أغانٍ أخرى كليشيهات الأغنية الرومانسية المصرية المعروفة. وفي كل أغانيها، يبقى الانفصال البات والقاطع عن الشأن العام حاضرا. فما الذي يقوله هذا لنا عن معجبيها من مراهقين ينتمون إلى جيل ما بعد ثورات الربيع العربي؟

 

موسيقى جيل بلا قضية

أصابت شهرة "بوي باند" المدوية التي رآها شباب جيل الثورة في فيديو المركز التجاري بما يشبه الصدمة. بدا وكأن هنالك جيلا آخر بعيد عنهم تماما في الميول والاهتمامات والأفكار أخذ يكبر وتتشكل له ذائقة فنية خاصة به وحده لا يستطيع جيل الثورة استساغتها. فبعد أن فتح ذلك الجيل الأكبر قليلا عينيه على واقع سياسي واجتماعي مضطرب كان هو نفسه فاعلا مؤثرا فيه، وبعد أن انزاحت على يديه الأنظمة المستبدة في ثورات تلاها تلاحمه العميق بالشأن العام، بدا بعد كل هذا اهتمامات الجيل الأصغر التي استشفها من أغاني "بوي باند" سطحية بل وسخيفة للغاية.

   

تلاحقت منشورات فيسبوك التي تسب ذلك الجيل وتلعنه. ووراء كل تلك المنشورات، تحرك هاجس مخيف أن زمان شباب الثورات قد رحل إلى غير رجعة، ومن سيحمل الراية من بعدهم جيل آخر غير معنيّ لا بتغيير ولا بقضية. كان الأقسى هو شعور أولئك الأكبر سنا أنهم منفصلون بشكل كبير عن أبناء الجيل القادم، ذلك الذي سيصبح المستقبل عمّا قريب رهن يديه وسينحي الجيل الأكبر جانبا على الهامش، ما جعله يشعر بغربة على غربته.

 

لهذا، مثّلت "بوي باند" لجيل الثورة شعورا بالانهزام. فبعد أن سبقه جيل منفصل عن الشأن العام أنتج فنا لا يمثله في شيء، بدا من المؤلم له أن تكون إنتاجات الجيل التالي الفنية قريبة الشبه بأولئك السابقين؛ وكأن جيل "العواجيز" -كما يحب أن يطلق عليه البعض- بكل ما فيه من سلبية واستسلام طوعي للتغييب قد نجح في نسخ جيناته إلى جيل ما بعد الثورة، معلنا بهذا أن ما سيأتي هو ملكه أيضا.

    

  

وعلى الجانب الآخر، واجه بعض من الشباب الموقف بنبرة أقل غضبا وأكثر تسامحا، مُسلّمين بأن هذه هي طبيعة الحياة. جاء فيما كتبه هؤلاء فهم أعمق لظروف الوقت الذي نشأ فيه أولئك المراهقون الذين شبّوا بعد أن ولّت أيام الحراك السياسي قصيرة الأجل مفسحة الطريق لاستقرار طويل الأمد في هوة بلا قرار. يقول أحمد أبازيد في هذا السياق: "هناك جيل صاعد اليوم ممن كانوا أطفالا بداية الربيع العربي، هذا الجيل الذي نشأ بعيدا في المنافي، أو وجد نفسه في حرب لا يعرفها، لديه طباعه ولغته وطرق تواصله وحتى نجومه، كما كان جيلنا في 2011".

     

ففي أيام الحراك السياسي عام 2011 حين شهدت الكثير من البلاد العربية ثوراتها الشعبية الأولى منذ عقود وانتخاباتها الديموقراطية الوحيدة منذ الأزل، شعر الجميع، والشباب صاحب الثورات خاصة، بأهميته ومسؤوليته حيال الوطن، بأن ما يفكر فيه وتنبني عليه خياراته السياسية هو ذو تأثير ومعنى.

 

أما جيل اليوم، فأتى بعد أن ثبّتت الأنظمة المستبدة أذرعها حول السلطة بقبضة من حديد تسارع بالبطش بأي من يأتي ولو بفعل بسيط مخالف لتوجهاتها. في ذلك المناخ المسموم، بدا من الأفضل لجيل ما بعد الثورة عدم الانشغال كثيرا بوضع لا يبدو حقا أنهم سيتمكنون من تغييره، ما جعل اللهاث وراء ثلاثة شباب في أحد المراكز التجارية أكثر منطقية من تمرد أو مقاومة غير ذات نفع على الإطلاق، اللهم إلا النفي إلى حيث لا يعلم أحد. وبهذا، يفعل معجبو "بوي باند" وأبناء جيل ما بعد الثورة تماما ما أوصته بهم الفرقة في كلمات أغنيتها الأولى: "سيب بكره لبكره ويللا عيش"، معلنين في هذا أن حياة حتى وإن كانت تافهة هي أثمن في النهاية من موت بلا معنى.