شعار قسم ميدان

مسرحية جودو.. ما الذي يمنع الإنسان من الانحطاط الكامل؟

midan - صمويل بيكيت

"إننا لا نجد الكثير من الأحداث في واحدة من أعظم المسرحيات في القرن العشرين: مسرحية "في انتظار جودو". إلا  أن الفن الآسر يمكن أن يتولد من مواد تبدو هزيلة أو ضئيلة في ظاهرها".
– تيري إيجلتون. (1)

    

الوجود الإنساني معقد، ألوانه لا تحصى. وعظمة الدراما أنها ترى تعدد وجوه الحياة والإنسان وتحاول تحليلها لاستيعاب جوهر الطبيعة البشرية، وتعد المسرحيات العبثية التي لا يحدث فيها شيء على الإطلاق إحدى تلك الوجوه الفنية التي تعكس نظرة الإنسان لوجوده.(2)

     

في انتظار جودو

صمويل بيكيت هو أشهر رواد مسرح العبث -الإحساس بأن الوجود الإنساني تافه وبلا معنى- ورغم أنه ليس مسرحا مطلقا ومرتبط بمرحلة ما وبتاريخ ما، أي يمكن اعتباره مسرحا تاريخيا في طريقه إلى الانقراض بسبب التحولات الكبيرة في العالم من وقتها (ازدهر مسرح العبث في الخمسينيات) إلا أن المادة الجوهرية التي صنع منها هذا المسرح، والتي ضمنت له الحضور حتى الآن، ما زالت موجودة وهي الوجود الإنساني والبحث عن غاية هذا الوجود.

   
بتدقيق بسيط يمكن ملاحظة مدى تقشف بيكيت في بناء مسرحياته، وبحثه عن الصرامة الشكلية وعن دراما خالية من الدفء والألوان: قليل من الأحداث، قليل من الشخصيات، قليل من الأشياء في التكوين المسرحي، لا صراع درامي، لا حبكة ولا منطق. تمرد على المسرح التقليدي، مسرح ضد المسرح نفسه، كأنه يسخر من الأشياء بعدم استخدامها: لا حاجة لي بها. ورغم ذلك كان مسرحه علامة فارقة في تاريخ المسرح.
    

undefined

  

كتب بيكيت، الذي اشتهر بكتاباته عن المعاناة والعزلة، "في انتظار جودو" لما كان في الـ 42 من عمره، كانت باكورة إنتاجه المسرحي بعد شوط طويل قضاه في كتابة الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد، ويروي بيكيت أن المسرحية كانت في الأصل "مقاطع كتابية تتخللها مادة حوارية". (وكأنه جاء إلى المسرح عن طريق الصدفة).
    
جاء بيكيت إلى المسرح ممتلئا بالتجارب اللغوية (لصديقه الذي أقسم على تجاوزه) جيمس جويس وعوالم كافكا الداخلية وغربة كامي وقسوة مسرح أرتو. وكان بيكيت قد سافر في عامي 1936 و1937 إلى ألمانيا، وقضى وقتا طويلا فى المعارض الفنية هناك، واحتفظ بدفتر يوميات مفصل لتلك الفترة، يسجل فيه قراءاته المنتقاة في الأدب والفلسفة، واهتمامه الكبير بالموسيقى والفنون البصرية، وكتب العديد من الملاحظات عن المعارض التي زارها. وما ألهم بيكيت كتابة مسرحية "في انتظار جودو" هو الفنان الألماني كاسبر ديفيد فريدريش، حيث أكد في أحد حواراته أن لوحة "رجل وامرأة يتأملان القمر" كانت مصدر إلهامه، لكنه عاد وأخبر أحد معارفه أن لوحة "رجلان يتأملان القمر" هي ما ألهمه. اللوحتان لديفيد فريدريش والاختلافات بينهما لا تذكر.(3)
    

التفسير الديني للمسرحية
قد يكون غريبا لعمل فني/ أدبي صدر في القرن العشرين أن يرتبط بتفسير ديني بحت، ولكن صمويل بيكيت، كاتب المعاناة والعزلة، ، كان حظه وافرا من التفاسير الدينية لمسرحه وجودو بالأخص، ومالت الكثير من التفسيرات لاعتبار المسرحية ذات صبغة دينية بصورة كبيرة، بداية من عنوانها حتى.
  
نظر بيكيت إلى الحياة والذات كأجزاء كما وحدات الزمن، وإن كان كل واحد يكافح في حياته من أجل شيء، الميل لامتلاك الحافز للاستمرار في العيش
نظر بيكيت إلى الحياة والذات كأجزاء كما وحدات الزمن، وإن كان كل واحد يكافح في حياته من أجل شيء، الميل لامتلاك الحافز للاستمرار في العيش
  

يبدأ المشهد الافتتاحي للمسرحية بتل وشجرة في طريق ريفي مقفر وصعلوكين كبيرين ينتظران موعدهما مع رجل يدعى جودو، ولا يأتي أبدا. البناء المسرحي الفارغ وغير المميز لأولى مسرحيات بيكيت على خشبة المسرح أصبح أيقونة ليس فقط في الدراما الحديثة ولكن في القرن العشرين نفسه.
    
السؤال الأول والرئيسي عند قراء ومشاهدي المسرحية هو من هو/ ما هو (جودو Godot) وأن (جودو/ Godot) هل هو تحريف لفظي لكلمة (الله / God؟) هل غياب جودو وانتظار مجيئه هو انتظار لتجلي أو اثبات وجود الله نفسه، وقلق الإنسان من جدوى الحياة إن لم يكن موجودا؟

الشجرة، مبتدأ الوجود في أسفار التكوين المختلفة، البعض اعتبره الشجرة المحرمة أو شجرة المعرفة أو شجرة الصلب. ونمو أوراقها في الفصل الثاني هل هو إشارة إلى قرب مجيء المنتظر الإلهي؟

الصبي الذي يظهر في نهاية كل فصل يزعم أن جودو لديه لحية بيضاء طويلة، مثل بعض التمثيلات المصورة لله في الغرب (أو مثل صورة الأطفال عن الله) وأنه يرعى الخراف والجديان. ولكن في النهاية فجودو يعطي فلاديمير واستراجون إحساسا بالتوجيه والغرض في حياتيهما (حتى لو كان ذلك خاطئا) بطريقة تتوازى مع الاعتقاد الديني. هل المسرحية إذن يمكن أن تكون رمزا للوجود ما بعد الإلهي؟ (4)

     
رغم أن التفسير الديني قد يبدو مقبولا ومنطقيا بصورة كبيرة، إلا أن أعمال بيكيت بمكرها دائما ما كانت تفلت من أن تُحصر في تفسير واحد. كلما سُئل من هو جودو؟  أجاب بيكيت، وهو الذي حارب التحديد، أن يُحدد أي شيء في صورة ما:"لو كان لدي علم لكنت قلت ذلك في المسرحية". وفي مرة لما سأله رالف ريتشاردسون -فلاديمير في أول إنتاج للعرض في لندن- إن كان جودو هو الله، أجاب بيكيت إنه لو كان يقصد الله لكان قال الله وليس جودو. (5)

                             

لا شيء لفعله

undefined

   

 في ديوانها "حتى أتخلى عن فكرة البيوت" تقول إيمان مرسال:" لا شيء يحدث ولكن لا شيء سيظل في مكانه". وفي المسرحية، في جملتها الحوارية الأولى يقول استراجون بيأس:"ليس هناك ما يمكن فعله". لا شيء يحدث تقريبا، وفي الوقت نفسه يتغير حال فلاديمير واستراجون ولاكي وبوزو كل لحظة، من ينسى ومن يداهمه الألم ومن يتسلط على الآخر ومن يكون ذليلا. وكل واحد يبحث عن خلاصه، عن راحته من تعبه ومما هو فيه.

  

في الفصل الأول، استراجون يترك حذاءه في الفصل الأول أسود (أو هكذا يظن) وفي اليوم الثاني/ الفصل الثاني/ يجده أصفر (أو هكذا يظن).  فلاديمير يحتار بسبب اخضرار الشجرة جزئيا، وبوزو في الفصل الثاني يستشيط غضبا، متى أصبح خنزيرا، وكيف أصبح لاكي هو الآخر أخرس؟ وهم كلهم، على طريق ولا يعرفون من أين جاؤوا وأين سيذهبون ولا ما الذي جمعهم ببعضهم أصلا.
    
من ينقذ من؟ ومم؟ العجز؟ القدر؟ الموت؟ وإن أنقذ واحد غيره، من ينقذه من نفسه؟ الزمن يفعل الأفاعيل ولكنه غير مرئي ولا يمكن التحكم فيه، شبح ساكن وفي الوقت نفسه دائم ووافر الحركة. الذاكرة حاضرة، أو النسيان للدقة، كأحد أفعال الزمن. الذاكرة التي يحاول الواحد التحصن بها/ وراءها ضد الزمن. ولكن أي ذكرى؟ كل ذكرى غامضة ومتداخلة مع غيرها.
      
الزمن ورتابته والوعي به، الأشياء وحطامها، أسئلة الوجود وانعدام أجوبتها. العجز حتى عن الوصول إلى نهاية (يفشل فلاديمير واستراجون في الانتحار) أمام كل هذا لا يوجد إلا الانتظار (يقول بيكيت في فعل الانتظار نجرب مرور الزمن في شكله الأنقى) الانتظار نوع من أنواع الفعل، هو الوسيلة الوحيدة لمسايرة الزمن، لعل شيئا ما يحدث أو أحدا يأتي.
    

"نحن نشعر بالإحباط من بطلان ذلك الذي نفضل أن نسميه النوال. ولكن ما هو النوال؟ هو إدراك الذات لموضوع رغبتها؟ الذات تموت -ربما العديد من المرات- في طريقها". (6)

 

undefined      
 

الفردوس المفقود

إن كانت "القوة في الوحدة" عند إبسن، فعند بيكيت السعادة في الوحدة (7)، أن يكون الواحد سعيدا وحده هو فردوس بيكيت المفقود. بيكيت -كما يقول عن نفسه- صاحب الموهبة الضعيفة في السعادة، حاول على طول عمره أن يكون سعيدا وهو وحده، حيث قضى معظم طفولته وحيدا، وفي العشرينيات ترك المكانة الجامعية ليتفرغ لنفسه، ولما تزوج فضل أن يقسم شقته نصفين، نصف له ونصف لزوجته.

   
نظر بيكيت إلى الحياة والذات كأجزاء كما وحدات الزمن، وإن كان كل واحد يكافح في حياته من أجل شيء، الميل لامتلاك الحافز للاستمرار في العيش، فالذات متجزأة في غمار ذلك وممتدة على طول الزمن، ولكي تُفهم يجب أن تُعامل على أنها سلسلة من الأجزاء/ الذوات، في كل لحظة تُشبع رغبة أو يتحقق هدف، تنتهي/ تموت ذات وتولد ذات، والواحد هو مجموع ما بين الولادة والموت.(8)
   
مذهب بيكيت في الحياة هو أن ليست هناك قيمة لأي شيء، ولكن ما لا قيمة له لا يمكن الحط من شأنه.(9) فلقد واجه الصعلوكان (فلاديمير واستراجون) لا معنى الوجود في أوحش صوره، لا قوانين، ولا معرفة، ولا هدف، ولكن هذه الحياة الصعبة التي يمكن ألا يكون لها قيمة، تستحق أن تُعاش وأن يُنتظر حلوها، والانتظار حتمي للاستمرار حتى لو كان هذا الانتظار ورطة. تظهر مشاعر طيبة بين فلاديمير واستراجون، وهذه المشاعر ولو لحظات هي ما يمنع من الانحطاط الإنساني الكامل.

المصدر : الجزيرة