شعار قسم ميدان

النفس الإنسانية بعيون الحكيم الترمذي وابن حزم الأندلسي

ميدان - النفس الإنسانية

"إِن نفس كل شَيْء حَقِيقَته وَهُوَ الْجَوْهَر الَّذِي هُوَ مَحل المعقولات وَهُوَ من عَالم الملكوت وَمن عَالم الْأَمر".

(حجة الإسلام أبو حامد الغزالي)

  

دائما ما يعتمدُ علم النفس الحديث الأصول اليونانية والأوروبية القديمة التي اتكأ عليها في وصوله إلى مرحلة العلم الناضج، والنظريات الحديثة في عصرنا الحديث التي تحلل مظاهر السلوك، وبواطن النفس البشرية، لكن قلما رأينا اهتماما بمفهوم النفس في التراث العربي والإسلامي، وهو تراث غني فريد، فكيف نظر علماء الحضارة العربية والإسلامية لأمراض النفوس؟ وكيف عالجوا حالات الاكتئاب والهموم؟ وعلى أي أصول استمدوا واعتمدوا في تشريح وفهم النفس البشرية؟

 
لقد تنوعت مصادر علماء التراث العربي والإسلامي في فهمهم واستيعابهم للنفس الإنسانية ومشكلاتها، لقد اطلعوا بلا شك، واستفادوا من موروث الحضارة الإغريقية والفارسية القديمة، ولدينا إشارات مهمة من كتاب "الفهرست" لمحمد بن إسحاق النديم في القرن الرابع الهجري يؤكد أن المترجمين في المنطقة العربية في العراق والشام في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي تمكنوا من ترجمة بعض مؤلفات فلاسفة اليونان حول "قضية النفس" من اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية[1].

  

يرى الترمذي أن علاج النفوس، مثل الاكتئاب يكمن في أن يكون القلب عامرا بالإيمان
يرى الترمذي أن علاج النفوس، مثل الاكتئاب يكمن في أن يكون القلب عامرا بالإيمان
 

لكنهم أيضا اعتمدوا على أصولهم الجديدة التي أفادتهم إفادة كبرى في فهم "الإنسان" ودواخله ونوازعه، هذه الأصول التي تجلت في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد جاءت بمفاهيم أصيلة، وتفسيرات مختلفة عن تأملات اليونان والفرس.
 

أدب النفس عند الحكيم الترمذي

ولقد امتلأت أخبار الزهاد والمتصوفة والعُبّاد بأخبارهم ورؤاهم حول النفس، ولدينا أحد هؤلاء الحكماء الذين بدأوا في إفراد الحديث عن النفس الإنسانية من منظور إسلامي تأملي، وهو الحكيم محمد بن علي الترمذي (ت 320هـ/932م ) والذي عاش معظم حياته في القرن الثالث الهجري، فقد ألّفَ الترمذيُّ عدة كتب حول النفس منها "رياضة النفس"، و"أدب النفس"، وهو كتاب تناول فيه رياضة النفس، وقضية اليقين، وصفة القلوب، والهوى، وعواقب الهوى.

 
يرى الترمذي أن علاج النفوس، مثل الاكتئاب يكمن في أن يكون القلب عامرا بالإيمان، يقول: "فمن نوّر الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبُه، واطمأنت به نفسه، وسكنت ووثقت وأيقنت، وأْتمنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلاً، وتركت التدبير عليه". أما الخوف من الغد والمستقبل، وهو خوف غريزي موروث بتوارث الأجيال، وهو ما يسميه الترمذي "وسوسة"، فالعلاج واضح أيضا؛  "فإن وسوس له عدوّ بالرزق والمعايش، لم يضطرب قلبه ولم يتحير؛ لأنه قد عرف ربه معرفة أنه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل"[2].

 

علاج النفس لدى الترمذي إنما يتمحور حول المعرفة؛ فـ
علاج النفس لدى الترمذي إنما يتمحور حول المعرفة؛ فـ" النفس، إذا اضطربت فإنما تسكن بالمعرفة، فكلما كانت معرفتك أعظم وأثقل على القلب، كانت النفس أسكن (مواقع التواصل)

إننا نرى في تأملات الترمذي رجلا خبيرا بمعرفة خبايا النفس، وهو مع ذلك يشرح لنا هذه النفس وفقا لمفاهيم عصره، فالعناصر الأربعة التي تكوّن الإنسان- وفقا لفلاسفة اليونان والتي راجت في عصر الترمذي –  هي الماء والتراب والهواء والنار، ولكل منها خاصية بدنية وخاصية نفسية، فنفس الإنسان وهواه إنما تكون تبعا للتراب؛ لأنها من الأراض وإليها تهوى، لذلك سمي "الهوى" ولهذا عواقب، حيث يقول: "سُمي هوى، لأنه تهوى به النفس، والنفس تهوى بالقلب، والقلب يهوى بالأركان إلى العقل، والعقل يهوى بجميع الجسد غدا إلى النار، فمن ههنا هواك يميل بك إلى نعيم الأرض، لأنه من جنسه، وإليه يحنّ، وله يألف، فهذه النفس مضطربة إذا حملت عليها أمر الله تعالى، كذلك الأرض لما حمل عليها الخلق"[3].

 
على أن علاج النفس لدى الترمذي إنما يتمحور حول المعرفة؛ فـ" النفس، إذا اضطربت فإنما تسكن بالمعرفة، فكلما كانت معرفتك أعظم وأثقل على القلب، كانت النفس أسكن"[4].

 

مداواة النفوس عند ابن حزم

أما ابن حزم العلامة والأصولي الإمام الأندلسي الأشهر (ت 456هـ/1064م)؛ فقد أفرد لموضوع النفس في رسالته المهمة "الأخلاق والسير في مداوة النفوس"، وفي هذا الكتاب الذي كتبه في أخريات عمره، وتتجلى فيه ثمرة تأملاته، وخلاصة تجاربه، نراه يفرد بعض العوامل ذات الارتباط بعلم النفس؛ فقد تناول عوامل الراحة النفسية للإنسان.

 

يقدم ابن حزم نظرته في الحياة على نحو فلسفي أو فكري، فإذا نظر إلى الحياة الاجتماعية وجدها تقوم على محور واحد، أحد طرفيه موجب والثاني سالب
يقدم ابن حزم نظرته في الحياة على نحو فلسفي أو فكري، فإذا نظر إلى الحياة الاجتماعية وجدها تقوم على محور واحد، أحد طرفيه موجب والثاني سالب

 
لقد اعتمد ابن حزم في كتابه هذا على ما قرره فلاسفة اليونان وحكماء الفرس، وكذلك حكماء المسلمين كالحسن البصري في نظرتهم إلى النفس، كذلك اعتمد على تجاربه التي مرّ بها وهي تجربة فريدة أشرنا إليها في تقرير سابق، ونراه يقول في مستهل رسالته: "إني جمعتُ في كتابي هذا معانٍ كثيرة أفادنيها واهب التمييز تعالى، بمرور الأيام وتعاقب الأحوال، بما منحني عز وجل من التهمّم بتصاريف الزمان والإشراف على أحواله، حتى أنفقتُ في ذلك أكثر عمري. وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس وعلى الازدياد من فصول المال. ورقمتُ كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب لينفع الله تعالى به من شاء من عباده، ممن يصل إليه، ما أتعبت فيه نفسي، وأجهدتها فيه وأطلت فيه فكري، فيأخذه عفواً"[5].

 
في هذه الرسالة يقدم ابن حزم نظرته في الحياة على نحو فلسفي أو فكري، فإذا نظر إلى الحياة الاجتماعية وجدها تقوم على محور واحد، أحد طرفيه موجب والثاني سالب، أما الطرف الموجب فاسمه "الطمع" ومعناه بهذا التعميم: المحرك أو الدافع الداخلي الذي يوجه الفرد نحو هذا الشيء أو ذاك. فالطمع أصل في كل المظاهر الاجتماعية التي نراها من حب وطموح وحياة مادية وغير ذلك[6].

 
فإذا كان الطمع بهذه القوة في حياة الأفراد فمن الطبيعي أن ينشأ عنه "الهم" وهو الظرف السالب في محور الحياة الاجتماعية. ويصف ابن حزم جميع أدوار الحياة ومظاهرها بأنها محاولة لطرد الهم، وأن الناس جميعا يتفقون في هذه الغاية سواء في ذلك المتدين ومن لا دين له، والخامل والزاهد والفيلسوف العازف عن اللذات وغيرهم. فطالب المال يكد في سعيه ليطرد "هم الفقر"، والساعي وراء الشهرة يجري إليها ليطرد "هم الخفاء والخمول"، والراغب في اللذة يطلبها ليطرد "هم الحرمان من اللذة"، وهكذا في كل شيء[7].

 
فطرد الهم في نظر ابن حزم "مذهبٌ قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه"[8]. ويرى العلامة محمد أبو زهرة أن دفع الهم في كلام ابن حزم له صلة وثيقة بمذهب المنفعة الذي قرّره أبيقور الفيلسوف اليوناني المتوفى سنة 270 قبل الميلاد، فإنه يرى أن مقياس الخير والشر المنفعة، فإن كان الفعل فيه منفعة لمن يباشره فهو خير، وإن كان فيه ألم فهو شر، ومن ثم فإن دفع الشر وجلب الخير هو مكمن مذهب المنفعة. على أن أبا زهرة يعود فيقول: "ولكن ابن حزم الفيلسوف المسلم لا يسير طويلا مع الفيلسوف اليوناني حتى يفارقه ويسمو إلى الإسلام، فيرى أن السبيل الجوهري لدفع الهم -وهو شر الآلام- هو الاتجاه إلى الله تعالى؛ فإنه إذا اتجه الشخص إلى الله تعالى زالت عنه الهموم"[9].

 

يرى ابن حزم أن الإنسان المؤمن يستمد قدرته على ضبط النفس من الخوف من الله في كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، ويذكر لنا أن هذا الضبط يتم عن طريق نهي النفس عن الهوى
يرى ابن حزم أن الإنسان المؤمن يستمد قدرته على ضبط النفس من الخوف من الله في كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، ويذكر لنا أن هذا الضبط يتم عن طريق نهي النفس عن الهوى
 

ومن الملاحظة يتبين لنا أن ابن حزم يقترب في بعض نظراته الاجتماعية من رجال المدرسة النفسية، فنظرية "الطمع" تشبه إلى حد كبير ما يقال عن الغرائز وأثرها، بل إن اتخاذ اسم واحد للدوافع في نفس الفرد يقترب من رأي فرويد في حصره جميع الطاقات الغريزية في الانسان تحت اسم "لبيدو" واتخاذه غريزة الجنس متمثلة لكل الطاقات والقوى. أما طرد الهم فيمكن أن يشمل ما يسمى في علم النفس الاجتماعي، "الصراع النفسي والاجتماعي" وهذان النوعان من الصراع قد يحتوي أحدهما الآخر، وقد يستقل عنه، ولكن في الربط بين طرد الهم وفكرة التوجه إلى الله يقترب ابن حزم من فكرة " الصراع الاجتماعي " الذي يتمثل في توجيه الرغبات الدنيوية نحو غاية مثالية[10].

 
إذا، يرى ابن حزم أن الإنسان المؤمن يستمد قدرته على ضبط النفس من الخوف من الله في كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، ويذكر لنا أن هذا الضبط يتم عن طريق نهي النفس عن الهوى، ذاكرا أن هذا يتم بردعها عن الطبع الغضبيّ والشهواني؛ فالنفس لها نوازع الشهوة ونوازع الغضب، وهو إن استطاع أن يمنع نفسه عن هذين المنزعين استطاع أن يحقق الراحة النفسية المنشودة[11].

 
ومما سبق، نرى أن كلا من الحكيم الترمذي، والأصولي ابن حزم الأندلسي، كلاهما كان على اطلاع ودراية بما كتب من ثقافة يونانية وفارسية حول مسألة "النفس"، وأن هذه المسألة شغلتهم بالتفكر وبحث مشكلاتها التي بدت مستعصية، وهما وإن اتفقا مع بعض هذه الأصول اليونانية والفارسية، بيد أنهما اعتمدا على الأصول الإسلامية، هذه الأصول التي أعطتهم رؤية معرفية مهمة وجديدة لمعرفة الإنسان ونفسه، وفي تقاريرنا القادمة ضمن هذا الملف، سنقف مع أطروحات تراثية اهتمت بمسألة النفس، وقدمت لها الحلول التي لا تزال مدارس علم النفس الحديث تتناولها بالدرس والتحليل.

المصدر : الجزيرة