شعار قسم ميدان

لماذا اختار الفاطميون "مصر" رغم استقرار دولتهم بالمغرب؟

في يوم الثلاثاء 17 شعبان 358هـ/ 5 يوليو (تموز) 969م  خرج كبار رجال مصر، وسائر الأشراف والقضاة والعلماء والشهود ووجوه التجار والرعية إلى الجيزة غرب النيل، فلما تكامل الناس أقبل القائد العسكري جوهر الصقلي في عساكر الفاطميين المقدرة بمائة ألف جندي، والتي لم تجد أي مقاومة تُذكر، فتقدّم الناس واحداً واحداً للسلام والمبايعة والإذعان للفاطميين، فلما فرغوا من السلام عليه عاد الناسُ إلى الفسطاط.

 

فلما زالت الشمس أقبلت العساكر، فعبرت الجسر، ودخلت أفواجا أفواجا، ومعهم صناديق المال على البغال، ويقال إن المال كان في ألف وخمسمائة صندوق، وأقبل جوهر في حُلة مذهّبة مثقل في فرسانه ورجاله، وقاد العسكر بأسره إلى منطقة مفتوحة في شمال الفسطاط كانت تسمى المناخ "مناخ الإبل"، وهو الموضع الذي كان المعز قد قرر بناءه عاصمة جديدة له في مصر، وهو موضع القاهرة، وأول ما ابتدأ به جوهر بناء القصر الكبير.

 

ويقال: لما استقر جوهر في موضع القاهرة الآن اختطّ القصر، فأصبح المصريون ليهنئوه، فوجدوه قد حفر أساس قصر الحكم والخلافة في الليل. ويُقال إن جوهر لما بنى القصر، وأدار على العاصمة الجديدة السور سماها: المنصورية، فلما قدم المعز لدين الله إلى الديار المصرية سماها القاهرة[1].

 

وقد رأينا في تقريرنا السابق "الفاطميون في المغرب" ما وصلت إليه الدولة الفاطمية في القوة والرسوخ في المغرب، بعد القضاء على المناوئين ومراكز القوى فيها، وبعد بناء العاصمة الجديدة المهدية التي كانت قلعة عسكرية حصينة، ومنطلقا مستمرا لعمليات التوسع الفاطمي في كل بلاد المغرب، وقد رأينا أن الهدف الأهم للفاطميين هو التوسع شرقا نحو مصر والشام والحجاز والعراق.

 

كان المهدي متعطشًا لإرواء ظمئه التوسعي، ومنذ وصوله إلى تونس فقد أدرك الرجل بذكائه أنها لن تستطيع أن تحقق أهداف "الخلافة" الجديدة، ويرى الدكتور أيمن فؤاد سيد أن المهدي قد واجهته عدة تحديات لتحقيق هذه الأهداف منها "قلة الموارد، وثانيًا مقاطعة علماء المالكية ومقاومتهم له، ثم بسبب الطبيعة الجغرافية الجبلية للشمال الأفريقي. أدرك الفاطميون تماما أنهم إذا أرادوا أن يكونوا الحكّام الوحيدين للعالم الإسلامي فليس أمامهم حل سوى التوجه إلى الشرق وإلى مصر بخاصة. فقد كان العالم الإسلامي بحاجة ماسة إلى مركز متوسط  يتولى قيادته، وموقع مصر الإستراتيجي في ملتقى قارات ثلاث وسيطرتها على طرق التجارة الدولية التي تربط أوروبا بالهند غني عن البيان"[2].

ويرى الدكتور عبد الله جمال الدين أن تطلع الفاطميين لضم مصر كان يعني لهم "السيطرة على القطرين التابعين لها، وهما الشام والحجاز، وبحكم الحجاز يكتسب الفاطميون مركزًا دينيا ممتازًا؛ لأن هذه البلاد موطن المقدسات الدينية وحاكمها يعتبر الحاكم الفعلي للدولة الإسلامية، لما لها من صبغة دينية تضفي على القائمين عليها صفة الرسمية والوقار"[3].

 

وهناك رأي ثالث يراه الدكتور حسن إبراهيم حسن ففتح مصر كان "يضمن للفاطميين تأسيس نظام سياسي ديني في ثلاثة من المراكز الإسلامية الكبيرة وهي الفسطاط والمدينة ودمشق"[4]، وفوق ذلك فإن موقع مصر يجعل منها حاضرة يسهل معها الاتصال بالبلدان الخاضعة للفاطميين فمنها يمكن ربط ولايات دولتهم، وتسهيل مهمة الالتقاء بها، والاتصال معها بصورة لا يوفرها الحكم من عاصمتهم المهدية[5].

 

ربما أراد الفاطميون أيضًا الاتصال بمراكز دعوتهم التي انطلقوا منها في سلمية بالشام، لذا كانت مصر هدفًا إستراتيجيًا يجب تحقيقه مهما تكلف الأمر، وعلى مدار ستين سنة منذ العام 300 حتى عام 358هـ وهو عام دخول الفاطميين مصر، أرسلوا أربع حملات عسكرية مجهّزة بكل ما تحتاج إليه[6].

 

كانت مصر ولاية عباسية تُحكم من قبل الولاة العباسيين الذين كان يتم تغييرهم بصورة دورية، كما كانت مصر مصدرا إقطاعيًا يُدر ربحا طائلاً من أموال الخراج لكبار أمراء الجيش العباسي من الأتراك، وفي عام 254هـ/868م عين الخليفة العباسي القائد العسكري بابك التركي في ولاية مصر، وهذا الأخير استخلف عليها وكيلا عنه هو أحمد بن طولون[7].

 

ترسخ وجود ابن طولون في مصر منذ سنة 263هـ/876م حين جاء مرسوم من بغداد من عند الخليفة المعتمد يقلده الخراج "المالية"، وولاية الثغور، وسرعان ما استولى ابن طولون على الشام، واستمر الحكم الطولوني في مصر حتى عام 292هـ، وعادت بغداد تُرسل فيما بعد الولاة[8].

 

بعد العام 292هـ/905م  حاول بعض الولاة المعينين من قبل العباسيين أن يُعيد كرة ابن طولون بالاستقلال بمصر عن الدولة العباسية؛ لذا أرسل العباسيون إلى مصر القائد التركي تكين سنة 297هـ/909م وهي السنة ذاتها التي استولى فيها الفاطميون على الحكم في المغرب، وفي عهده هذا الوالي الجديد انطلقت أولى الحملات العسكرية الفاطمية على مصر[9].

 

كانت الحملة الفاطمية الأولى على مصر سنة 302هـ/914م بعد خمس سنوات فقط من اعتلاء المهدي العرش، وقد تمكن جيش الفاطميين بقيادة حباسة العبيدي من السيطرة على برقة على حدود مصر الغربية، فانطلقت الحامية العباسية بمصر بقيادة الأمير تكين التركي، لكن الجيش الفاطمي كان كثيفا واستطاع الاستيلاء على برقة وهزيمة الحامية العباسية، واستمر زحفه حتى اقترب من الإسكندرية، وكان تكين قد أرسل إلى بغداد يطلب العون والمدد العسكري[10].

 

جاء المدد من العراق كما يذكر ابن تغري بردي، "وسار الجميع نحو الإسكندريّة، ونزلوا بالجيزة في جمادى الأولى (302هـ)، ثم سار الجميع حتى وافوا حباسة  بعساكره وقاتلوه؛ فكانت بينهم وقعة عظيمة قتل فيها آلاف من الناس من الطائفتين، وثبت كلّ من العسكرين حتى استظهر عسكر الخليفة (العباسي) على جيش حباسة العبيدىّ الفاطمىّ، وكسره وأجلاه عن الإسكندريّة وبرقة؛ وعاد حباسة بمن بقى معه من عساكره الى المغرب في أسوء حال. وهذا أوّل عسكر ورد الى الإسكندرية من جهة عبيد الله المهدىّ الفاطمى"[11].

 

لم ييأس الفاطميون، وكانت محاولتهم التالية بعد خمس سنوات من المحاولة الأولى أشرس وأعنف، فقد جمعوا حشودا من كتامة وعرب أفريقية وبربرها وعين المهدي على رأس الحملة ابنه وولي عهده أبو القاسم القائم، وأعانهم بأسطول ضخم تكون من مائة سفينة حربية، وتمكنت هذه الحملة من السيطرة على الإسكندرية، ثم تقدم الفاطميون فقابلهم الجيش العباسي المصري والشامي فهُزموا في منطقة الجيزة، وتمكن الفاطميون من السيطرة على الفيوم والصعيد، وبذلك أصبح الجانب الغربي من مصر كله وجنوب البلاد في قبضة الفاطميين[12].

 

ظل الفاطميون يسيطرون على هذه المناطق من مصر لمدة عامين وثمانية أشهر كاملة، أعاد فيها العباسيون تنظيم الأوضاع السياسية والعسكرية في الضفة الشرقية من النيل، وتم تغيير بعض القادة الضعاف، وترضية الجند حتى تمكنوا من هزيمة الفاطميين ودحرهم في عام 309هـ، ولم يجد ولي العهد الفاطمي القائم الذي كان على رأس تلك الحملة سوى الهرب والعودة مرة أخرى تونس[13].

صورة متخيلة عن الجيش الفاطمي (مواقع التواصل)

كانت الحملة الفاطمية الثالثة مع بدايات اعتلاء محمد بن طغج الإخشيد ولاية مصر سنة 332هـ/943م  وكان الإخشيد ذا همة عالية، لكن يبدو أن هذه الهمة لم تعجب بعض أصحاب النفوذ، فأرسلوا إلى الفاطميين يطعمونهم، وبالفعل سارع الفاطميون في إرسال جيشهم لكن الإخشيد كان واليا حازما ذكيا، كان على أتم استعداد للقاء العدو، وقد أنزل بهم هزيمة فادحة في منطقة البحيرة شمال غربي مصر[14].

 

توفي محمد بن طغج الإخشيد سنة 334هـ/946م وتولى من بعد ابنه أنوجور الذي كان يدبر له الأمر القائد العسكري  كافور الأخشيدي، وفي عصر أنوجور ثم كافور هدأت الأحوال وقويت الجبهة الداخلية في مصر، وخاف الفاطميون من الاقتراب من البلاد وإن ظلت مخابراتهم  ترصد الأوضاع الداخلية، حتى وفاة كافور الإخشيدي سنة 357هـ/968م[15].

 

أكد أحد دعاة الشيعة الإسماعيلية في مصر اضطراب الوضع فيها بعد وفاة كافور وأن الفرصة أصبحت مواتية لإرسال جيش إليها، فقد كان كافور الحجر الذي يمكن أن تتحطم عليه محاولات الفاطميين لفتح مصر، يقول في تقريره الذي أرسله إلى الفاطميين في المغرب: "إذا زال الحجر الأسود ملَك مولانا (المعز) الأرض كلها، وبيننا وبينكم الحجر الأسود يعنون كافورا (الإخشيدي لأنه كان أسود البشرة)"[16].

 

بالفعل كانت وفاة كافور – وهو العقل السياسي والعسكري الذكي – "آخر عقبة أمام الفاطميين نحو تحقيق هدفهم، فلم توجد شخصية قوية تخلف كافور في البيت الإخشيدي، وتولّى زمام الأمور الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات فعجز عن تلبية رغبات الجيش، في نفس الوقت الذي استمر فيه نقص ماء النيل وتزايد فيه الغلاء. فضاق قوم من المصريين بالأوضاع وكاتبوا (خليفة الفاطميين) المعز بإفريقية يدعونه لإرسال جنوده ليسلّموا إليه مصر"[17]. حاول الوزير مقاومة هذا الضغط المتزايد عليه فقبض على جماعة من المعارضين وصادر أموالهم منهم  الكاتب في الديوان يعقوب بن كلّس، وهو يهودي من أهل العراق أسلم في زمن كافور، لكنه تمكن من الهرب مستترا إلى إفريقية، والتقى بالخليفة العُبيدي الفاطمي المعز لدين الله وأطلعه على ما تمر به مصر من أزمات سياسية واقتصادية، ومكامن الضعف العسكري فيها[18].

بدأ عهد الفاطميين في مصر بالعرق والدم والمال والجهد الاستخباري والإعلامي ثم العسكري القوي، سبقه نصف قرن لم يأل الفاطميون فيها جهدًا لنيل مصر، والظفر بها

هذا اليهودي الذي تشير بعض المصادر إلى اعتناقه المذهب الإسماعيلي كان له دور قوي في توطيد دعائم الدولة الفاطمية في مصر، لذا رد له الفاطميون الجميل حين اعتمدوا عليه وجعلوه وزير دولتهم في مصر، يقول ابن خلكان: "ولم يزل يترقى إلى أن ولي الوزارة للعزيز نزار بن المعز مَعد، وعظمت منزلته عنده وأقبلت عليه الدنيا، وانثال الناس عليه ولازموا بابه، ومهّد قواعد الدولة،  وساس أمورها أحسن سياسة، ولم  يبق لأحد معه كلام"[19].

 

يجب الاعتراف أن جهاز المخابرات الفاطمي كان نشيطًا قويا، وأن دعاتهم أو ما يمكن وصفه بالأجهزة الإعلامية لذلك العصر قد استثمرت في كثير من المصريين على مدار ستين سنة قبل دخول جوهر الصقلي مصر، وبنائه القاهرة، وأن المحاولات العسكرية التي بلغ عددها أربع محاولات خطيرة، نجح في بعضها الفاطميون بنسب كبيرة في البقاء في مصر والاستيلاء على أجزاء منها في غرب النيل من الإٍسكندرية شمالا وحتى الصعيد جنوبا لمدة عامين كاملين كما حدث في المحاولة الثانية. كل ذلك ساعد بلا شك على إعطائهم دفعات قوية لإعادة المحاولات، هذا فضلا عن قيمة وأهمية مصر الإستراتيجية  جغرافيا وثقافيا في مشروعهم الذي كان يطمح إلى التوسع الأيديولوجي والعسكري، أو ما سماه بعض المؤرخين بـ"الإمبريالية الفاطمية"[20].

 

فبدأ الفاطميون فعليا في عصر الضعف الإخشيدي منذ سنة 355هـ/966م باتخاذ إجراءات عملية للانتقال إلى الشرق وإلى مصر بصفة خاصة، فقد أمر المعزّ لدين الله بحفر الآبار في طريق مصر، وأن يُبنى له في كل مسافة محددة "منزلة" قصرًا "استراحة"، وقد كشفت حفائر أقيمت في مدينة أجدابيا بليبيا في الفترة ما بين عامي 1952- 1962م عن أطلال أحد هذه القصور الذي نُقلت زخارفه إلى متحف الشحّات قرب مدينة البيضاء في ليبيا[21].

في 14 ربيع الأول 358هـ /969م انطلقت الجيوش الفاطمية بقيادة القائد العسكري جوهر بن عبد الله الرومي الصقلي أو الصقلبي، هذا القائد الذي أولاه المعز لدين الله عنايته ورعايته وأنفق عليه وعلى الجيش الفاطمي ما تقدره بعض المصادر ب24 مليون دينار ذهبي وهو مبلغ ضخم للغاية كانت حصيلة أغلب الثروات التي جمعها الفاطميون على مدار ستين سنة من عمر دولتهم لتحقيق حلمهم الأكبر بالاستيلاء على مصر ثم الشام وإسقاط الخلافة العباسية ثم الاستيلاء على الحرمين الشريفين[22].

 

قدرت بعض المصادر التاريخية الجيش الفاطمي الغازي لمصر بمائة ألف مقاتل، حتى قال المقريزي إن أعيان مصر كلهم استقبلوا هذا الجيش الذي لم يجد مقاومة تذكر للانهيار العسكري لبقايا الجيش الإخشيدي، وأن هذا الجيش كان "مثل جمع عرفات كثرة وعدّة … حتى قيل إنه لم يطأ الأرض بعد جيش الإسكندر أكثر عددا من جيوش المعز (الفاطمي)"[23].

استولى جوهر الصقلي على مصر في شعبان 358هـ/يوليو (تموز) 969م، ودخل الجامع العتيق "عمرو بن العاص"، وأضاف إلى الآذان "حي على خير العمل"، ودعا على المنبر للمعز الفاطمي، وأسقط دعوة العباسيين، " ووصلت البشارة إلى مولاه المعز بأخذ البلاد وهو بإفريقية (تونس) في نصف شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، ويدعوه إلى المسير ليه، ففرح فرحاً شديداً، ومدحه الشعراء فمن ذلك محمد بن هانئ الأندلسي من قصيدة:

يقول بنو العباس قد فُتحت مصر … فقُل لبني العباس قد قُضي الأمر

وقد جاوز الإسكندرية جوهرٌ … تطالعه البشرى ويقدمه النصر"[24]

لم يمر عامان على دخول المعز لدين الله مصر، وبنائه القاهرة العاصمة الفاطمية الجديدة، والجامع الأزهر الذي أريد منه أن يكون مركز الدعوة الشيعية في مصر والمشرق ، إلا وصدر الأمر من الخليفة المعز بعزل جوهر الصقلي عن جميع وظائفه، وهكذا أعاد الصقلي دورة التاريخ من جديد، فكما أقصى جد المعز الخليفةَ المهدي أبا عبد الله الشيعي كما رأينا من قبل بعد بنائه الدولة، وتمهيدها له، أعاد حفيده المعز الكرّة من جديد مع القائد والوزير الماهر جوهر الصقلي الذي تقبّل الأمر بهدوء، وظل متواريا عن الأحداث السياسية حتى وفاته بعد ذلك بعشرين سنة في 384هـ/994م[25].

 

وهكذا سقط الحكم العباسي في مصر، وبدأ عهد الفاطميين الذي قام بالعرق والدم والمال والجهد الاستخباري والإعلامي ثم العسكري القوي، سبقه نصف قرن لم يأل الفاطميون فيها جهدًا لنيل مصر، والظفر بها، وقد نالوها في آخر المطاف، وفي قيام الدول وسقوطها من الدروس ما نفهم منه أن القوة والذكاء هما أهم عناصر البناء، وأن الغفلة والتشرذم والضعف العسكري أهم عناصر السقوط، وتأتي عوامل القوة الإعلامية والاستخبارية تالية على تلك العوامل. وفي تقاريرنا القادمة سنقف مع تطورات التمدد الفاطمي في المنطقة العربية وتمكنهم من الاستيلاء على الشام والحرمين الشريفين في بعض الأوقات.

المصدر : الجزيرة