شعار قسم ميدان

ابن جُبير الأندلسي في صقلية

midan - sicily

"هي بهذه الجزائر أمّ الحضارة، والجامعة بين الحُسنين غضارة ونضارة، فما شئتَ بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايلُ بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السِّكك والشوارع، تروق الأبصار بحُسْن منظرها البارع، عجيبة الشان، قرطبية البنيان." – ابن جبير البلَنْسيّ في وصفه لمدينة "بليرمو" عاصمة صقلية

 

كان كثير من الحجاج القادمين من الأندلس يزورون المغرب ومصر والشام أو جزائر البحر المتوسط في طريقهم إلى الحجاز، لقد كانوا ينتهزون هذه الفرصة للطواف في بعض الأقاليم الإسلامية الأخرى، ويبرز من هؤلاء ابن جبير البلنسي الأصل، الغرناطي السكن والوظيفة.
 

الطريقُ إلى الحجّ
undefined

قام ابن جبير بثلاث رحلات إلى المشرق، ودوّن أخبار الرحلة الأولى في شبه مذكرات يومية، تُعرف باسم "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، وربما أتمّها في حدود سنة (582هـ/1186م). اهتم بهذه الرحلة عدد من المستشرقين الغربيين منذ القرن التاسع عشر؛ لما حوته من معلومات قيّمة، ومشاهدات مهمة، عن حال الأقاليم التي مرّ بها ابن جبير في ذهابه وإيابه في الربع الأخير من القرن السادس الهجري؛ وهو قرن تجلت فيه ذروة المواجهة الإسلامية الصليبية في زمن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1195م).

 

أما ابن جبير، فهو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير البلنسي، تعود أصوله إلى قبيلة كنانة العربية الأصيلة. وُلد ابن جبير في مدينة بلنسية في الجنوب الأندلسي سنة (540هـ/1145م)، ودرس على أبيه وغيره من علماء عصره في كل من شاطبة التي نشأ بها، وكذا غرناطة، وسبتة المغربية وغيرها، ثم دخل في سلك الإدارة الموحّدية في خدمة الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن صاحب غرناطة. كان ابن جبير رجلاً تقيًا، استدعاه الأمير إلى قصره يومًا، ( كما يحكي المقري صاحب "نفْح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب")، ففوجئ بالأمير يدفع إليه كأسًا من النبيذ، فاعتذر ابن جبير بأنه ما شرب الخمر قط؛ لكن الأمير أصرّ وحلف بأن يشرب منها سبعًا؛ فلم يستطع إلا الامتثال من هول المفاجأة، وخوفًا من البطش، فأعطاه الأمير سبع قداح مملوأة دنانير ذهبية، فعقد صاحبنا العزم في تلك الليلة على الذهاب إلى الحج تكفيرًا لذنبه!

 

ونقرأ في الرحلة أن ابن جبير استصحب معه صديقه الطبيب أحمد بن حسّان الغرناطي، وقد خرج الرفيقان من غرناطة يوم الخميس (8 شوال 578هـ/3 فبراير /شباط 1183م)، وابتدأ في تدوين يومياته التي صارت "الرحلة" بعد ذلك في (30 شوال 578هـ/ 25 فبراير 1183م)، فانطلقوا من غرناطة إلى مدينة جيان، ومنها إلى الساحل الأندلسي في أقصى الجنوب، ثم ركبوا سفينة أخذتهم إلى جزيرة طريف، ومنها إلى سبتة في العدوة المغربية في الجهة المقابلة من الزّقاق (مضيق جبل طارق) التي قرروا فيها ركوب سفينة تُقلهم إلى جزيرة صقلية، ومنها إلى مدينة الإسكندرية المصرية.

 

بين جنبات صقلية!
 (pixabay.com )
 (pixabay.com )

حين أتم ابن جبير حجّه؛ عاد ليركب سفينة من ساحل بلاد الشام إلى صقلية، ومنها إلى دياره في الأندلس، على أنه في طريق عودته لاقى من الأهوال ما ذكره في رحلته بأسلوب ساحر أخّاذ، ينم عن ثقافة أدبية رفيعة، يصور تلك المشاهد التي كاد يغرق فيها قُبيل ساحل صقلية قائلاً: "وقامت الصّيحة الهائلة في المركب، فجاءت الطامة الكبرى، والصَّدْعة التي لم نُطق لها جبرا، والقارعة الصماء التي لم تدَعْ لنا صبرا، والتدمَ النصارى التداما، واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاما، ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكا واعتصاما… فلما تحققنا أنها هي؛ قُمنا فشددنا للموت حيازيمنا، وأمضينا على الصبر الجميل عزائمنا، وأقمنا نرتقبُ الصباح أو الحين المتاح، وقد علا الصياح، وارتفعَ الصّراخ من أطفال الروم ونسائهم، وألقى الجميعُ عن يد الإذعان"!

 

لكن يد القدر ساعدتهم حين لاح الصباح عن زوارق إغاثية قادمة من ساحل مدينة مسّينة (Messina) الصقلية؛ التي كان ملكها "وليام النورماندي" يشاهد ذلك المركب المشرف على الغرق من المدينة، حتى إن ابن جبير نفسه عجِب من ذلك الموقف قائلاً: "وحققنا النظر فإذا بمدينة مسّينة أمامنا على أقلِّ مِن نصف الميل، وقد حِيل بيننا وبينها، فعجِبنا من قدرة الله عز وجل في تصريف أقداره، وقلنا: رُبّ مجلوب إليه حتفه في عتبة داره"نزل ابن جبير وصحبه من السفينة مضطرين للبقاء في الجزيرة حتى يجدوا سفينة بديلة تقلهم إلى الأندلس، وقد كان من حسن حظنا أن يمكث الرجل في الجزيرة التي أُجبر على البقاء فيها جبرا؛ ليدون مشاهداته. لقد رأى الجزيرة "ابنة الأندلس في سعة العمارة، وكثرة الخصب والرفاهة، مشحونة بالأرزاق على اختلافها، مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها".

 

كانت صقلية -منذ القرن الثالث الهجري- تحت سيادة المسلمين، فقد بدأ افتتاحها على يد قاضي القيروان الأشهر أسد بن الفرات الذي كان قائدًا للحملة التي أرسلها الأمير زيادة الله الأغلبي من تونس سنة (212هـ/827ه)، وظلت الجزيرة منذ ذلك الحين وحتى سنة (451هـ/1061م)، -وهو العام الذي دخل فيه النورمان القادمون من شمال فرنسا، والمتخذون من جنوب إيطاليا قاعدة وولاية جديدة لهم- إلى هذه الجزيرة. على أن بعض ملوك هؤلاء النورمان مثل "وليام الأول" وابنه "وليام الثاني"، أو "غليام" كما تسميه المصادر العربية، قد أُعجبوا بالثقافة العربية الإسلامية، وقد لاحظ ابن جبير هذا الافتتان بالثقافة؛ بل والمسلمين، فراحَ قائلاً: "وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب [حرّاسا له]، وكلهم أو أكثرهم كاتم إيمانه، متمسك بشريعة الإسلام، وهو كثير الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله؛ حتى إن الناظر في مطبخته رجل من المسلمين".

 

انطلق ابن جبير من مدينة مسّينة إلى بلرمو عاصمة صقلية النورمانية آنئذٍ، وقد كانت لا تزال بها في ذلك العام 580هـ بقية من أهل الإسلام. لقد ذُهل ابن جبير من جمال المدينة الفاتن، وصدح بهذا الافتتان قائلاً: "هي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئتَ بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايلُ بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السِّكك والشوارع، تروق الأبصار بحُسْن منظرها البارع، عجيبة الشان، قرطبية البنيان".

 

كان حال المسلمين في صقلية الشغل الشاغل لابن جبير في وصفه، وفي العاصمة "بلرمُ" (بليرمو Palermo) كان المسلمون يتمتعون بقدر من الحرية تحت ظل الحكم النورماني، فقد رأى مساجدهم معمورة بالأذان الواضح المسموع، وعاين أحياء مستقلّة بهم "أرباض"، وأسواقهم العامرة، لكنهم بصورة رمزية كانوا يدينون بالولاء للخليفة العباسي في بغداد، ويدعون له في خطبهم ودعائهم، وقد سمحت لهم السلطات النورمانية بالرجوع إلى قاضٍ خاص بهم في مسائل التقاضي والتنازع، وكان لهم "جامع يجتمعون للصلاة فيه، ويحتفلون في وَقِـيده في هذا الشهر المبارك (شهر رمضان 580هـ/ديسمبر 1185م)، وأما المساجد فكثيرة لا تُحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن".

 

ووقف ابن جبير على بعض عادات غير المسلمين في الجزيرة، فرأى النصرانيات اللواتي كنّ يذهبن إلى الكنائس في عيد لهن صادف وجوده، لقد رآهن "فصيحات الألسن، ملتحفات، منتقبات، خرجْنَ في هذا العيد المذكور، وقد لبسْنَ ثياب الحرير المذهّب، والتحفْنَ اللحف الرائقة، وانتقبن بالنُّقب الملونة، وانتعلْنَ الأخفاف المذهبة، وبرزْنَ لكنائسهن أو كُنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضّب والتعطر".

 

مآسٍ قبل الرحيل!
بلغت الفتنة على أهل صقلية مداها للدرجة التي كان يعرض فيها المسلمون أبناءهم وبناتهم على الحجاج المسلمين من المغرب والأندلس، لا لشيء إلا الانفكاك من الاضطهاد.
بلغت الفتنة على أهل صقلية مداها للدرجة التي كان يعرض فيها المسلمون أبناءهم وبناتهم على الحجاج المسلمين من المغرب والأندلس، لا لشيء إلا الانفكاك من الاضطهاد.

انتقل ابن جبير وصحبه إلى آخر مدن الجزيرة من الغرب؛ حيث السفن التي ستقلهم إلى الأندلس، لقد كانت هذه المدينة أطرابَنش (تراباني
Trapani) وكان غالب الشطر الغربي من صقلية ذات أغلبية مسلمة تزعّمهم رجل اسمه أبو القاسم بن حمود، لكن هذا الرجل كان مغلوبا على أمره من قبل النورمان، أُعجب ابن جبير به للغاية، وشاءت الظروف أن يجتمع به، ويبوح الزعيم الصقلي الذي كان يطمح للاستقلال، بكل أسراره لهؤلاء الحجاج القادمين من مكة، وقد أثّر ذلك البوح في ابن جبير للغاية، وذلك للمآسي التي كان قد ذاقها ذلك الرجل والمسلمون في الجزيرة من ورائه؛ حتى إن ابن حمود تمنى أن يُباع ولو عبدًا في بلاد المسلمين؛ ليتمتع بالحرية التي تمتع بها هؤلاء الحجاج العائدون.

 

على أن أشد المشاهد مأساوية في نهاية مطاف ابن جبير في صقلية، وهو يهيئ نفسه لركوب السفينة ذلك الرجل الذي أرسل ابنه إلى هؤلاء المسافرين طالبًا منهم أن تصحبهم ابنته الصغيرة التي قاربت البلوغ ليزوجوها من يرضون دينه؛ "فإن رضيها تزوجها، وإن لم يرضها زوجها ممن رضي لها من أهل بلده، ويخُرجها مع نفسه راضية بفراق أبيها وإخوتها؛ طمعا في التخلص من هذه الفتنة، ورغبة في الحصول في بلاد المسلمين"!

 

بلغت الفتنة على أهل صقلية مداها للدرجة التي كان يعرض فيها المسلمون أبناءهم وبناتهم على الحجاج المسلمين من المغرب والأندلس، لا لشيء إلا الانفكاك من هذا الاضطهاد، وعلى كل حال، لم يمض نصف قرن على مغادرة ابن جبير للجزيرة حتى أُجلي المسلمون منها على يد الإمبراطور "فردريك الألماني" إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة وجنوب إيطاليا وصقلية، الذي ورثت أسرته -هذه- صقلية بعد النورمان، فكان قرار إجلاء المسلمين من صقلية يشبه -إلى حد كبير- قرار الطرد المورسكي من الأندلس بعد ذلك بأربعة قرون!

المصدر : الجزيرة