شعار قسم ميدان

مؤامرة خارجية أم تفكك داخلي.. لماذا سقطت دولة العثمانيين؟

سقوط الدولة العثمانية

"نعم، أنا أسستُ جهاز الجورنالجيه (المخابرات). وأنا أدرته. متى حدث هذا؟ بعد أن رأيتُ صدروي العظام (رؤساء الوزراء) يرتشون من الدول الأجنبية مقابل هدم دولتهم والتآمر على سلطانهم، أسستُ هذا الجهاز لا ليكون أداة ضد المواطن، ولكن لكي يعرف ويتعقّب هؤلاء الذين خانوا دولتي في الوقت الذي كانوا يتسلمون فيه رواتبهم من خزانتها، وفي الوقت الذي كانت النعمة العثمانية تملؤهم حتى حُلُوقهم".[4]

(السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته، مدافعًا عن تأسيس جهاز المخابرات العثمانية)

لا يقف سقوط العثمانيين على الأحداث المفصلية التي بدأت مع عصر السلطان عبد الحميد الثاني وعمليات الشد والجذب التي وقعت بينه وبين جمعية "تركيا الفتاة" ومجموعة "الاتحاد والترقي" من ضباط الجيش والمثقفين وغيرهم ممن جعلوا قضيتهم الأولى القومية بإعلاء الجنس التركي دون غيره، فضلًا عما لحقه من خلع مُدبَّر من السلطنة، ثم الانهيار السريع الذي تسببت فيه الحرب العالمية الأولى.

 

فتلك الأحداث التي عجّلت -وكانت السبب المباشر والأبرز لانهيار الدولة العثمانية وتفكك أوصالها فيما بعد- لا تعدو إلا أن تكون سطح الماء في بئر الحقيقة؛ ذلك أن الدولة العثمانية التي استمرت تحكم الأقطار العربية والبلقان ورومانيا وبلغاريا وبعض القوقاز وغيرها لعدة قرون قد نهشتها عوامل أخرى كانت أشد نكاية، لم تُجدِ معها محاولات الإصلاح منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي رغم أهميتها؛ فقد كثر أعداء الدولة في الداخل والخارج، وصارت "الخلافة" في مهب الريح، حتى مع وجود خليفة أو سلطان قوي كالسلطان عبد الحميد الثاني الذي حاول في أشد لحظات التفكك الداخلي والتآمر الخارجي أن يجد مخرجًا أو تجديدًا لفكرة "الجامعة الإسلامية" في مواجهة فكرة "المشروطية" أو "الديمقراطية" التي لم تكن تتناسب مع سسيولوجيا الدولة العثمانية، فضلًا مع فكرة قيام الدولة واستمرارها، تلك الفكرة التي كانت تتكئ على عامل الدين أولًا.

 

الروس يفككون الدولة!

السلطان عبد الحميد الثاني  (غيتي )
السلطان عبد الحميد الثاني  (غيتي)

لقد كان عبد الحميد الثاني (تولى الحكم من 1876-1909م) مدركًا لخطر التوغل الأجنبي في بلاده، وجاءت سيرته الذاتية ناضحة بهذه الحقيقة قائلًا: "كان جدّي السلطان سليم (الثالث) يصيح قائلًا: إن أيدي الأجانب تتجول فوق كبدي، وعلينا أن نُرسل السفراء إلى الدول الأجنبية لنقل أساليب التقدم الأوروبي، وعلينا إرسال الرسل إلى الخارج، ولنعمل سريعًا على تعلّم ما وصلوا إليه. كنتُ أحسُّ أنا أيضًا بأيدي هؤلاء الأجانب، ليست فوق كبدي، وإنما في داخله. إنهم يشترون صدروي العظام (رؤساء الوزراء) ووزرائي ويستخدمونهم ضد بلادي. كيف يحدث هذا وهم الذين أنفقتُ عليهم من خزانة الدولة ولا أستطيع معرفة ما يعملونه وما يديرون ويعدون؟"[1]!

 

لكن رغم محاولاته المستميتة كان التآمر راسخًا في مفاصل الدولة. ربما كان عبد الحميد في نظر الجيل الجديد سلطانا تقليديًّا جامدًا في عالم متغير هبت عليه رياح مفاهيم الحداثة والتنوع والديمقراطية، لكن الرجل كان مدركًا أن الوحدة الجامعة للأقطار العثمانية خط لا رجعة فيه، وأن الديمقراطية إذا كان الهدف من ورائها تفكيك أوصال هذه الدولة، وإضعاف هيبتها وقوتها في إحدى أخطر اللحظات أمام التمدد الأوروبي في الأقطار الإسلامية والعربية، بل في الأقطار التي كان يسكنها العنصر التركي العثماني ذاته فيجب الحول دون هذه "الديمقراطية"، وقد كان حينما حلّ مجلس المبعوثان "النواب" بعد عشرة أشهر ونيف من انعقاده لأول مرة، واستمر هذا الحلّ لثلاثين سنة متوالية[2].

 

والحق أن عبد الحميد تسلم زمام السلطنة في أوضاع اتسمت فيها الدولة بالضعف الشديد على المستويين الاقتصادي والعسكري لعوامل عدة يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر بسبب معاهدة "سان ستيافنو" عقب الحرب العثمانية الروسية الثانية في 1878م التي لاقى العثمانيون فيها هزيمة منكرة كانت ستكون أشد فداحة بسقوط إسطنبول ذاتها لولا تدخل إنجلترا لتعديل موازين القوى أمام الروس والتي كان عبد الحميد من أشد معارضيها لولا مجلس النوّاب "المبعوثان" الذي جرّ البلاد إلى حرب أمام الروس لم تكن على استعداد عسكري أو اقتصادي لها[3].

 

وقد نتج عن هذه الحرب فقدان أراض شاسعة كانت أول ما فتحها العثمانيون وعاشوا فوقها مئات السنين؛ فقد تحولت صربيا والجبل الأسود ورومانيا إلى دول مستقلة، وتوسّعت بلغاريا التي كانت قد استقلت مرتكبة مذابح مروّعة بحق الأتراك المسلمين، وتُركت البوسنة والهرسك للاحتلال والحكم من جانب النمسا والمجر، وتم التنازل عن بعض الأراضي للجبل الأسود، واستغلّت اليونان -التي كانت قد استقلت منذ بداية العقد الثالث من القرن التاسع عشر- تلك الظروف فاستولت هي الأخرى على بعض المناطق العثمانية في البلقان خاصة أبير وتساليا، هذا بالتزامن مع الاحتلال الروسي لشرق الأناضول، خاصة المناطق التي كان يسكنها الأرمن، فقد كان إدخال هؤلاء ضمن "دائرة الإصلاح" المفروضة من الخارج من شأنه إبراز "المشكلة الأرمنية" التي بذرت بذور تجزئ الأناضول من خلال المواد المعروفة في معاهدة الصلح التي أمرت بحمايتهم من اعتداءات وتسلّط الأكراد والجراكسة.

 

وزادت البلية حين سيطرت إنجلترا -التي وقفت أمام الروس في عملياتهم العسكرية شرق الأناضول- على جزيرة قُبرص، ولم تأت الكوارث فرادى؛ فقد ساء الوضع حين فرضت تعويضات عسكرية باهظة لروسيا أدت إلى إفلاس الدولة عُقيب ذلك، فضلًا عن الهجرات الجماعية للسكان المسلمين من الأراضي التي استولى عليها أعداء الدولة من الروس والبلغار واليونان وغيرهم، فاكتظّت المدن الكبرى مثل إسطنبول بمشكلة أخرى فوق المشكلات الآنفة[4].

 

ضرب الدولة من الداخل!

الأقليات الدينية بشهادة المستشرقين والمؤرخين الغربيين أنفسهم كانت تتمتع بكافة الحقوق الدينية والاقتصادية، في إطار نظام المِلَلَ العثماني المتوافق مع المذهب الحنفي
الأقليات الدينية بشهادة المستشرقين والمؤرخين الغربيين أنفسهم كانت تتمتع بكافة الحقوق الدينية والاقتصادية، في إطار نظام المِلَلَ العثماني المتوافق مع المذهب الحنفي

هذه الحالة من الضعف والخواء السياسي والعسكري لم تكن مؤقتة بظروفها التاريخية، بل حرص أعداء الدولة على استمرارها، فلم تكن الدولة تقدر على تجاوزها حتى في حالات الهدوء السياسي في بعض فترات السلطان عبد الحميد؛ ذلك أن بدايات الهزيمة أمام الروس منذ القرن الثامن عشر قد ترتب عليها استغلال هؤلاء المنتصرين للأقليات الدينية في الدولة العثمانية لفرض نظام الوصاية والحماية، وإن سبقه ذلك اعتراف بعلاقة بعض الدول الأوروبية بالأقليات المسيحية في المشرق، وامتيازاتها في حماية مقدساتهم، وهو نظام اتصف بالخبث الشديد؛ وكان الهدف منه التدخل في شؤون الدولة العثمانية وإضعافها من خلال هذا الملف شديد الحساسية.

 

والحق أن الأقليات الدينية بشهادة المستشرقين والمؤرخين الغربيين أنفسهم كانت تتمتع بكافة الحقوق الدينية والاقتصادية، في إطار نظام المِلَلَ العثماني المتوافق مع المذهب الحنفي الذي اتضحت معالمه منذ عصر السلطان محمد الفاتح في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي حين فتح القسطنطينية، يقول المستشرق الفرنسي أندريه ميكال: "باستثناء إعداد الأطفال إلى إنكشارية فلم يتم في أي مكان من الإمبراطورية إدخال أي شخص في الإسلام بالإكراه.

 

أما تحوّل بعض المناطق في أوروبة إلى الإسلام فقد كانت مثلما حدث على امتداد تاريخ الإسلام نتيجة لعوامل اجتماعية بحتة، إما محاولة للانتماء إلى الطبقة الحاكمة أو كرد فعل انتقامي مثلما حدث في البوسنة ضد الاضطهادات الكاثوليكية أو هروبًا من ثقل جباية الكنيسة الأرثوذكسية، ولم يكن بوسع أي سلاح أن يثير حركة بنفس الاتساع الذي حدث عندما دخلت البوسنة في الإسلام في القرن الرابع عشر. واختصارًا للقول فإن الإمبراطورية العثمانية تبدو في أجمل أيامها في النصف الأول من القرن السادس عشر كملجأ للسلام الديني في مواجهة أوروبة المضطهدين، فلا الطوائف المختلفة ولا الجماعات الإقليمية سُتنتزع من جذورها بدليل النشاط والحيوية التي يمارسونها حتى يومنا هذا"[5].

في نهاية القرن السابع عشر انتقل محور السلطة من السلطان إلى الصدر الأعظم، الذي أصبحت داره "الباب العالي" مركزًا للسلطة بدلاً من قصر السلطان
في نهاية القرن السابع عشر انتقل محور السلطة من السلطان إلى الصدر الأعظم، الذي أصبحت داره "الباب العالي" مركزًا للسلطة بدلاً من قصر السلطان

إن الامتياز الذي مُنِحَ لفرنسا منذ عصر السلطان سليمان القانوني -والذي أعطاها حق رعاية المعابد الكاثوليكية داخل الأراضي العثمانية[6]- شمل دولًا أوروبية أخرى بمرور الوقت مثل النمسا وألمانيا وروسيا، كل هذه الدول ادّعت في فترات قوّتها حقوقًا لها في حماية المسيحيين الشرقيين، وقد ارتبطت مصالح المسيحيين الكاثوليك بفرنسا والنمسا، ومصالح الروم الأرثوذكس بروسيا القيصرية، ولم يقتصر الأمر على المسيحيين للحق، بل تعداه مع الوقت ليشمل -بتأثيراته السلبية- أمراء مسلمين محليين كان لهم وزنهم السياسي، وذلك حين هيأت لهم الدول الأوروبية كل السبل لمناوئة السلطنة العثمانية، ومنحتهم ما يحتاجونه من تحديث مؤسساتهم إلى دعمهم العسكري والتقني لكي يقوموا بما أطلقوا عليه الحركات الاستقلالية في عهد الدولة العثمانيين مثل محمد علي باشا في مصر، وبايات تونس، وفخر الدين المعني الثاني في لبنان، بالرغم من انقلاب هذه الدول على هؤلاء الذين حاولوا الاستقلال على الدولة العثمانية، فقد كان الهدف إضعاف الطرفين حتى يسود الضعف العام المشرق الإسلامي[7].

 

وإنه لمن السخف الشديد أن نُلقي التهمة على العامل الخارجي واستغلاله للأقليات الدينية أو القوى السياسية المحلية التي كانت تتطلع للاستقلال دون إلقاء التبعة ذاتها على بنية النظام السياسي والإداري للدولة العثمانية التي كانت تنطوي على حقيقة أن السلطان هو محور الدولة، وعلى أساس كفاءته وفعالية قيادته كانت الدولة تسير سيرًا حسنًا، ولكن الدولة في الواقع -وبعد سلسلة من السلاطين الأكفاء والأقوياء- منيت منذ القرن السابع عشر بعدد من السلاطين الضعاف الذين لم يُعَدّوا إعدادًا صالحًا للقيام بمهامهم، فكانت النتيجة أن نشأ صراع على النفوذ بين كبار الموظفين وقوّاد الجيش المتحالفين مع العلماء ومع نساء القصر وعبيده.

 

وفي نهاية القرن السابع عشر انتقل محور السلطة من السلطان إلى الصدر الأعظم، الذي أصبحت داره "الباب العالي" مركزًا للسلطة بدلاً من قصر السلطان، في حين كان مركز الصدر الأعظم نفسه ضعيفًا بحكم أن تعيينه وعزله كان متوقفًا على مشيئة السلطان فضلاً عن افتقاره إلى جهاز فعّال يحكم به، مما أصاب الإدارة بكثير من الاضطراب، وأصبحت سلطة الدولة المركزية على الولايات تضعف تدريجيًّا، مما أتاح للقوى المحلية حرية أوسع للعمل، وتبع ذلك إنهاك قوة الدولة في مقاومة محاولات انفصالية معروفة[8].

——————————————————————————-

المصادر

  1. مذكرات السلطان عبد الحميد، تقديم محمد حرب، دار القلم، الطبعة الثالثة، 1412هـ/1991م،  ص160.
  2. محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق إحسان حقي، دار النفائس – بيروت، 1981م، ص646، 647.
  3. محمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب، دار النفائس – بيروت، 2013م،  ص430.
  4. كمال بكديللي: "الدولة العثمانية من معاهدة قَيْنارجه الصغرى حتى الانهيار" ضمن الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، إشراف أكمل الدين أوغلي، ترجمة صالح سعداوي، منشورات مركز إرسيكا، اسطنبول، 1/112، 113.
  5. قيس جواد العزّاوي، نقلا لشهادة ميكال: الدولة العثمانية قراءة لعوامل الانحطاط، الدار العربية للعلوم – بيروت،  ص83.
  6. أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية – إسطنبول، 2008م،  ص488.
  7. قيس جواد العزاوي: السابق ص90.
  8. أحمد زكريا الشلق: العرب والدولة العثمانية من الخضوع إلى المواجهة 1516- 1916م ، مصر العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، ص254.
المصدر : الجزيرة