شعار قسم ميدان

صلاح الدين.. بطلُ تحرير أم انقلابي محتل؟

ميدان - صلاح

"كان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قِصّة (شكوى) بما يجريه الله على قلبه، ولم يردّ قاصداً أبداً أو منتحلاً ولا طالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة رحمة الله عليه. ولقد كان رؤوفاً بالرعية، ناصراً للدين، مواظباً على تلاوة القرآن العزيز، عالماً بما فيه، عاملاً به، لا يعدوه أبداً رحمة الله عليه. وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلّامته واعتنى بقصّته"

(بهاء الدين ابن شداد في وصفه لصلاح الدين في "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية")
 

من الميلاد إلى القيادة
تعلم صلاح الدين فنون السياسة والحرب على السواء، فضلا عن تعلم العلوم الشرعية فقد حفظ القرآن والحديث
تعلم صلاح الدين فنون السياسة والحرب على السواء، فضلا عن تعلم العلوم الشرعية فقد حفظ القرآن والحديث
 

 

في عام 532هـ/1138م وُلد صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي في قلعة تكريت – شمال بغداد – التي كان يحكمها والده أيوب بن شاذي الذي يعود نسبه إلى الأكراد الهكارية القادمين من منطقة دوين بأذربيجان، ولد بُعيد أجواء مضطربة من الحرب المتواصلة بين السلاجقة حكام العراق وإيران وأتابكتهم الموالين لهم مثل عماد الدين زنكي الذي كان يحكم الموصل حينها، وبين الخليفة العباسي المسترشد بالله الذي كان يتطلع إلى الاستقلال من الحكم السلجوقي ومن خلفه ابنه الراشد بالله.

وكان الأخوان أيوب وشيركوه قد صنعا معروفًا في زنكي حين استضافوه وأخفوه من قوات الخلافة العباسية التي كانت تتعقبه بعد معركة انهزم فيها زنكي أمام الخليفة، الأمر الذي عدّه جميلاً لهما، لكن في ذلك العام وقعت مشادة بين شيركوه وبعض الجنود التابعين لشِحْنة بغداد أي رئيس الشرطة والأمن بها التابع للسلاجقة، فأمر والي الشرطة شيركوه وأيوب بمغادرة تكريت، فقابله الأخَوان بالامتثال، ولم يجد الرجلان بدًّا سوى قصد الموصل وقد حملا أسرتيهما، وفي رحل نجم الدين يوسف ابنه الوليد صلاح الدين يوسف.

ويذكر مؤرخ الدولتين "النورية والصلاحية" أن أيوب قد تشاءم بمولوده الجديد صلاح الدين، بل همّ بقتل ولده عندما كان يصيح وهو طفل حين خروجهم من المدينة، ولكن أحد أتباعه حذره من هذه العمل قائلاً:" يا مولاي، قد رأيت ما حدث عندك من الطيرة والتشاؤم بهذا الصبي، وأي شيء له من الذنب؟ وبم استحق ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئاً، وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر، ثم ما يدريك أهذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت، جليل المقدار، ولعل الله جاعل له شأناً، فاستبقه فهو طفل، ليس له ذنب ولا يعرف ما أنت فيه من الكدر والغّم"[1].
 

وأيًا ما تكن صحة هذه الرواية، فإن عماد الدين زنكي حاكم الموصل استقبل الأخوان استقبالاً طيبًا، وعدّهما منذ تلك اللحظة من كبار مستشاريه والمقربين منه، وقد شهدا حملات زنكي وجهاده في منطقة الجزيرة الفراتية وشمال بلاد الشام، وتمكن من ضم حلب إلى الموصل، فاتسع نفوذه السياسي والعسكري في شمال العراق والشام، وفي عام 539هـ/1145م وصلاح الدين في السابعة من عمره تمكن زنكي من استرداد مدينة الرها الصليبية بخطة عسكرية شديدة الإحكام والبراعة، وكانت المدينة الصليبية الأولى التي يتمكن المسلمون من استردادها منذ لحظة احتلالهم للبلدان الإسلامية قبل نصف قرن تقريبًا.
 

في العام 544هـ/1149م استشهد عماد الدين زنكي حين كان يُحاصر قلعة جعبر على نهر الفرات في شمال بلاد الشام، وعقب وفاته تولى مقاليد الدولة الزنكية ولده نور الدين محمود الذي سار على خطا والده بتقريب الأسرة الأيوبية، فقد تولى نجم الدين أيوب والد صلاح الدين مدينة بعلبك، وفيها نشأ صلاح الدين حتى سن الفتوة اثنتا عشرة سنة.

بعد ثلاث محاولات بين عامي 559 إلى 562هـ تمكن أسد الدين وصلاح الدين من ترسيخ أقدامهما في مصر، وسرعان ما ارتقى صلاح الدين لمنصب الوزارة عقب وفاة عمه أسد الدين سنة 564هـ/1169م

وحين كان في الرابعة عشرة من عُمره شهد معارك المسلمين مع الصليبيين بالقرب من المدينة في سهولها وزروعها، لكن والي دمشق مجير الدين أبق من أسرة آل بوري التي حكمت دمشق من سنة (1103- 1154) تمكنوا من استرداد بعلبك، فتصالح معهم أيوب والد صلاح الدين، واتفق الطرفان على حصول أيوب على بعض القرى والإقطاعات القريبة من دمشق، في المقابل كان أسد الدين شيركوه ملازمًا لنور الدين محمود في جهاده وتوسعه المستمر في شمال بلاد الشام، وقد تناهت إلى مسامع نور الدين بعض الأخبار الطيبة عن صلاح الدين ومهاراته التي أبداها أمام الصليبيين في بعلبك، قال ابن الفرات: "ولم يزل صلاح الدين في كنف والده حتى ترعرع، فلما تملك الملك العادل نور الدين دمشق لازم الأمير نجم الدين أيوب ولده يوسف بخدمته، وكانت مخائيل السعادة على صلاح الدين لائحه، ومنه تعلم صلاح الدين طريق الخير، وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد"[2].
 

في العام 549هـ/1154م تمكن السلطان نور الدين محمود من ضم مدينة دمشق إلى دولته، والقضاء على حكم أسرة آل بوري التي كانت تتبع اسميًا الدولة السلجوقية في العراق، وكان السلاجقة يمرون بحالة من الضعف في تلك الأثناء، وبهذا التوسع تمكنت الدولة الزنكية من توسيع نفوذها في كامل بلاد الشام خلا المناطق التي كان يُسيطر عليها الصليبيون في الساحل الشامي وفلسطين، وكانت الحرب بين الجانبين على أشدها[3].
 

في تلك الأجواء، تعلم صلاح الدين فنون السياسة والحرب على السواء، فضلا عن تعلم العلوم الشرعية فقد حفظ القرآن والحديث، وتخبرنا سيرته التي دوّنها عدد من المقربين منه مثل بهاء الدين ابن شداد حبه لسماع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والحرص على تعلمهما؛ لذا شبّ صلاح الدين "يرتضع ثدي محاسن أخلاقه، حتى بدت منه أمارات السعادة، ولاحت عليه لوائح التقدم والسيادة، فقدَّمه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى، وعوّل عليه، ونظر إليه، وقرّبه وخصّصه، ولم يزل كلما تقدّم قدماً تبدو منه أسباب تقتضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه"[4].
 

كان نور الدين محمود بعد سيطرته على دمشق عاصمة الشام سنة 549هـ واستتباب الأمر له في سائر المناطق الشامية من حلب في الشمال إلى حوران في الجنوب قد فكر جديًا في الاتجاه صوب مصر في محاولة منه لضمّها إلى دولته؛ لتصبح مملكة بيت المقدس أقوى وأهم الممالك الصليبية بين شقي الرحى مصر والشام، وكان انتصار الصليبيين على الفاطميين في موقعة عسقلان سنة 548هـ أحد الأسباب القوية التي دفعته إلى ذلك؛ حيث زاد النفوذ الصليبي في تلك المنطقة.
 

هذه الأفكار بدأت تتخذ منحىً جديًا حينما جاء الوزير شاور بن مجير السعدي في ذي القعدة سنة 558هـ/1163م لنور الدين محمود مستغيثًا يطلب منه العون لمواجهة ضرغام الذي استولى على الوزارة الفاطمية وطرده منها، ووعد شاورُ نورَ الدين بأمور منها:

1- أن تدين مصر بالطاعة للدولة النورية من خلال تعيين رجل نور الدين القوي أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين في مصر بجوار شاور بحيث لا يتخذ أمرًا إلا بمشاورته.

2- أن يتكفل شاور برد ما أنفقه نور الدين على الحملة إذا نجحت في تحقيق أهدافها.

3- أن تُسلم مصر ثلث خراجها للدولة النورية بعد دفع مرتبات الجند المصري[5].
 

وبعد ثلاث محاولات بين عامي 559 إلى 562هـ تمكن أسد الدين وصلاح الدين من ترسيخ أقدامهما في مصر، والقضاء على ضرغام وشاور، وسرعان ما ارتقى صلاح الدين لمنصب الوزارة عقب وفاة عمه أسد الدين سنة 564هـ/1169م، ومنذ تلك اللحظة وقد أخذ بكل السبل في تثبيت أقدامه، وتحقيق الهدف الأكبر الذي جاء إليه وهو تحقيق الوحدة مع الشام، والتبعية للخلافة العباسية السنية، وهو ما تم له في غضون ثلاث سنوات تقريبًا[6]، وكان هذا الهدف العظيم، والمنجز الأهم للإطباق على الصليبيين في فلسطين وبلاد الشام.
 

صلاح الدين في مصر
undefined


بين عامي 564هـ إلى 567هـ/1169 إلى 1172م واجه صلاح الدين عدة تحديات جوهرية أثناء وجوده في مصر، صحيح أنه تمكن من القضاء على الوزيرين اللدودين شاور وضرغام، وهما اللذانِ ساعدا الصليبيين على دخول البلاد، حتى كادت تسقط في أيديهما، لكن بقايا القوى الموالية للنظام الفاطمي القديم كانت تعمل على عرقلة تقدم صلاح الدين وترسيخ أقدامه على الأرض، وكان المتزعم لهذه الحركة المضادة فتى من فتيان قصر الفاطميين اسمه مؤتمن الخلافة، كانت خطته تقضي بالقبض على الأمراء الصلاحية والأسدية في مصر، ومكاتبة الصليبيين حين خروج صلاح الدين إليهم لاقتسامها فيما بينهم، لكن لحسن حظ صلاح الدين وقعت هذه الرسالة في يده، فأمر بقتل مؤتمن الخلافة في ذي القعدة سنة 564هـ وهو ما تم له
[7].
 

لكن مؤتمن الخلافة كان قائد المماليك السودان المكلفين بحماية القصور الفاطمية، فقد كانوا بمثابة الحرس الخليفتي شديد الولاء للدولة الفاطمية؛ وحين قُتل زعيمهم ثاروا في القاهرة ثورة مسلحة عارمة، لم يجد صلاح الدين أمامها إلا المواجهة السريعة الحاسمة لاستئصال شأفتهم، فقد قدر بعض المؤرخين عددهم فجعلهم 50 ألفًا، وذكروا دورهم في إثارة الشغب في القاهرة، و"إنهم كانوا إذا قاموا على وزير قتلوه"[8]، وهو ما تم له، وقرر على الفور تعيين أحد أشد الموالين له "بهاء الدين قراقوش الأسدي، وكان خصيًا أبيض، وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين"[9].
 

وقد تتابعت المشكلات على صلاح الدين، ففي صفر من العام التالي 565هـ/1170م  حاصر الصليبيون دمياط، وقد أرادوا أن يحتلوا مصر من هذا الثغر الشمالي، فقد رأى الفرنج/الصليبيون أن وقوع مصر في يد صلاح الدين التابع لنور الدين يعني تهديدًا وجوديًا لهم في بلاد الشام، الأمر الذي يوضحه ابن الأثير قائلاً: " في صفر، نزل الفرنج على مدينة دمياط من الديار المصرية، وحصروها، وكان الفرنج بالشام، لما ملك أسد الدين شيركوه مصر، قد خافوه، وأيقنوا بالهلاك، وكاتبوا الفرنج الذين بصقلية والأندلس وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدّد من ملك الأتراك مصر، وأنهم خائفون على البيت المقدس منهم، فأرسلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضونهم على الحركة، فأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح، واتعدوا للنزول على دمياط ظنا منهم أنهم يملكونها، ويتخذونها ظهرا يملكون به الديار المصرية"[10].
 

اتخذ صلاح الدين في الفترة الانتقالية بين الحكمين الفاطمي والأيوبي عدة استراتيجيات للقضاء على ذيول الفاطميين في مصر، أولها القضاء على القوى العسكرية الموالية لهم

لذا؛ لم يجد صلاح الدين أمام هذا التهديد الخطير إلا الإرسال في طلب العون من نور الدين في الشام، وألمح إلى أنه واقع في مأزق شديد، فهو يخشى التقاعس عن مواجهة الصليبيين فيملكون دمياط ويصبح وجودهم في مصر حقيقة وخطرا داهمًا، وهو في الوقت نفسه يخشى إن ترك القاهرة وسار لمواجهة الصليبين فيخلفه المصريون الموالون للفاطميين، وكان مما جاء في رسالته لنور الدين: "إني إن تأخرتُ عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سرتُ إليها خلفني المصريون في أهلها وأموالها بالشر، وخرجوا عن طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج من أمامي، فلا يبقى لنا باقية"[11]. ومن ثم أرسل له نور الدين عونًا عاجلاً، وقام هو بنفسه بغزو الأراضي الصليبية في بلاد الشام، فاضطر الصليبيون المحاصرون دمياط إلى الجلاء عنها بعد خمسين يوم من الحصار الخانق خشية على مصالحهم ومدنهم في الشام.
 

لقد اتخذ صلاح الدين في الفترة الانتقالية بين الحكمين الفاطمي والأيوبي عدة استراتيجيات للقضاء على ذيول الفاطميين في مصر، أولها كما مر بنا القضاء على القوى العسكرية الموالية لهم، وثانيها نشر المذهب السني عقيدة وفروعًا من خلال إنشاء المدارس والمكتبات السنية، وتجميد نشاط المؤسسات الثقافية الشيعية، وكان من جملة ما قام به إتلاف مصادر الفقه الإسماعيلي وتوزيع كتب مكتبة دار الحكمة إلى عدد من المدارس في مصر والشام، وهذه الدار أو المكتبة الفاطمية كان أول من بناها الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 395هـ وزودها بأعداد كبيرة من مكتبته الخاصّة وسمح لكافة طبقات الناس بالدخول إليها متى شاءوا، ورتب لها خداما وأمناء لخدمتها، وظلت على هذه الحال حتى زمن الخليفة الأخير العاضد فجاء صلاح الدين وباع كتبها وهذا ما نقله المقريزي عن المؤرخ الشيعي ابن أبي طي قائلاً بعدما ذكر استيلاء صلاح الدين على القصر الفاطمي "ومن جملة ما باعوه من خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا، ويُقالُ إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دارُ كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر".

ويستدرك المقريزي على ذلك مؤكدًا أن القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي "لما أنشأ المدرسة الفاضلية بالقاهرة، جعل فيها من كُتب القصر مائة ألف كتاب مجلَّد" وبيع قسم كبير منها على مدار عدة أعوام قام عليه أحد أهم بائعي الكتب حينها "ابن صَوْرَة دلّال الكتب"، ويعلق محقق "خطط المقريزي" الدكتور أيمن فؤاد سيد أن وصل إلينا من الكتب التي كانت في تلك الخزانة ثلاث مخطوطات، النسخة الوحيدة من كتاب "التعليقات والنوادر" لأبي عليّ الهجري، والنسخة الوحيدة أيضًا من كتاب "حذف من نسبَ قريش عن مؤرج بن عمرو السدوسي"، والمجلد العاشر من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني[12]. الأمر الذي يؤكد بدلالة قاطعة أن حرق صلاح الدين لهذه المكتبة فرية كاذبة، وشائعة مضلة اختلقت وانتشرت دون سند أو دليل مؤكد.
 

هل حاول صلاح الدين الانقلاب على نور الدين محمود؟

undefined

في تلك الأثناء استبطأ الخليفة العباسي المستنجد بالله إعلان الدعوة والتبعية العباسية في القاهرة، فقد أرسل "من بغداد إلى نور الدّين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر، فأحضر الأمير نجم الدّين أيُّوب وألزمه الخروج إلى ولده بمصر بذلك، وحملَّه رسالة منها: وهذا أمر يجب المبادرة إليه لتحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت لا سيما وإمام الوقت متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من أهم أمنيته"[13].
 

لكن التحديات التي واجهت صلاح الدين بمصر والقوى التي كانت لا تزال تحتفظ بولائها القديم من المماليك السودان والأرمن وغيرهم جعلته يؤخر الدعوة للخلافة العباسية؛ فقد أرسل لنور الدين محمود يوضّح أن "أحواله لم تستقر بعد، وأموره مضطربة، وأعداؤه كثيرون، وأن المصريين لهم جماعة كبيرة متفرِّقة في بلاد مصر من السودان وغيرهم، وأن هذا الأمر وإن لم يؤخذ على التدريج وإلاَّ فسدت أحواله"[14]. ويعترف بعض المؤرخين الغربيين بصحة هذا القول من صلاح الدين فإنه "يتفق تاريخ تحرّكاته مع قوله لبغداد أنه كان عليه أن يعمل ببطء وبدهاء في تكسير قاعدة السلطة الفاطمية"[15]
 

وظل على ذلك حتى استتبّ له الأمر في عام 567هـ، أي بعد وفاة الخليفة المستنجد العباسي بعام كامل، وتمت الدعوة للعباسيين بعد القضاء على الثورات والمؤامرات في خلافة المستضيء العباسي، وجاءت البشائر إلى الخليفة المستضيء بذلك ففرح فرحًا شديدًا، وأمر بإقامة الأفراح والبشائر في العاصمة بغداد لعدة أيام.
 

إن كثيرًا من المؤرخين العرب والغربين يعترفون على السواء بالعلاقة الوثيقة التي جمعت نور الدين بصلاح الدين، ويعترف المؤرخان الغربيان ملكوم كامرون وب. جاكسون بهذا حين يقرران أن "علاقته (أي صلاح الدين) في هذا المجال مع نور الدين مثار إعجاب إذ لم تشبها أية ثغرة على الإطلاق"[16].
 

توحيد الشام وقضية حلب
 انضمت حمص وحماة له بعد دمشق دون قتال أو غزو، فقد رأى قادتها صحة موقف صلاح الدين ووضوح أهدافه
 انضمت حمص وحماة له بعد دمشق دون قتال أو غزو، فقد رأى قادتها صحة موقف صلاح الدين ووضوح أهدافه
 

توفي السلطان نور الدين محمود في عام 569هـ/1174م مخلفا وراءه ولده الصغير الصالح إسماعيل في حلب، وقد اتفق صلاح الدين منذ فترة مبكرة مع سلطانه نور الدين محمود على أن توحيد مصر والشام هو الهدف الأقوى والأجدى للإطباق على الصليبيين في الساحل الشامي وفلسطين؛ لذا أسرع صلاح الدين نحو الشام لتأكيد هذا التوحيد، وليكون وصيًا على ولد سلطانه نور الدين، فقد رأى نفسه الأحق بهذه الوصاية، والأجدر على الاستمرار في تحقيق هدف الوحدة والجهاد على السواء، وقد زادت قناعة صلاح الدين حين رأى تهاون بعض الأمراء في الشام في تسليم بعض المناطق للصليبيين دون مسوغ أو مبرر أو جهاد، وسجنهم للأمير الكبير شمس الدين بن الداية وأخوته وهم من كبار الأمراء الموالين لمشروع نور الدين محمود في دمشق،  وزاد من حماسته إرسال عدد من الأمراء الآخرين له كي يُسرع لضم الشام إلى مصر، وهو ما تحقق بدخوله دمشق سنة 570هـ[17].
 

لكن صلاح الدين لا يمكنه أن يتوقف عند دمشق؛ لأنه على الرغم من كونها مفتاح جنوب بلاد الشام، فمن دون السيطرة على حلب تبقى مكشوفة أمام الهجمات من الشمال، لقد رآه الزنكيون في حلب والموصل مجرد مغتصب، بل وصفوه بأنه كلب ينبح على سيده وكانت من الإهانات التي لحقت به، وهو كونه من أصل كردي لا تركي، في عصر كان الأمراء الأتراك في الشام – وفي الموصل على وجه الخصوص – يعتبرون الأكراد أقل منهم بلا جدال، وقد أرسلوا له رسولاً يخبره بأنه جاء معتديًا خائنا لسيده.

لكن صلاح الدين أجاب بأنه جاء لتوحيد الشام والإشراف على تنشئة الصالح بن نور الدين حتى يصل إلى سن الرشد، وكان واضحًا أن صلاح الدين هزّته العداوة البادية وانعكس هذا في رسالتين كتبهما فيما بعد؛ الأولى إلى ابن نجا في مصر، وفيها أصر على أن حركته لم تكن "لكي نخطف مملكة لأنفسنا، وإنما لنرفع راية الجهاد". ثم كتب عن الرجال الذين انقلبوا أعداءً يحولون دون تحقيق غرضه فيما يتعلّق بالجهاد، والرسالة الثانية كتبها لأحد أهم شيوخه الروحيين قطب الدين النيسابوري كتب يشكو فيها من العقول الضعيفة التي تُعارضه[18].
 

صلاح الدين كان يريد من ضم حلب تقوية للجبهة الداخلية في كامل بلاد الشام ومصر أمام الوجود الصليبي، وحين رأى صعوبة ذلك لم تعز عليه قلعة إعزاز وأعادها تطييبًا لخاطر طفلة السلطان الشهيد نور الدين محمود

وقد انضمت حمص وحماة له بعد دمشق دون قتال أو غزو، فقد رأى قادتها صحة موقف صلاح الدين ووضوح أهدافه، وكان يأمل أن تكون حلب التي كانت معقل الزنكيين وبها الصالح بن نور الدين مثل بقية المدن الشامية، لكن الحلبيين أرسلوا إلى الباطنية الحشاشين في بلاد الشام أموالا وعطايا ليفتكوا بصلاح الدين الذي كان يُعسكر بالقرب من حلب، وبالفعل أرسلت فرقة من الحشاشين لقتل صلاح الدين، وكاد أن يُطعن بالفعل، لكن عددا من الأمراء القريبين منه تمكنوا من القضاء على هؤلاء القتلة وقتل في المقابل أحد الأمراء المقربين من صلاح الدين المسمى خمارتكين، بل إن الحلبيين اتصلوا بالصليبيين في طرابلس الذين خرجوا بالفعل يريدون حصار حمص، فقد كانت خط الإمداد الأقوى لصلاح الدين، كل هذا اضطر صلاح الدين إلى الرجوع عن حلب مؤقتا، وسرعان ما أرسل في طلب الإمدادات العسكرية من مصر، وعقد هدنة مؤقتة مع الصليبيين اعتبرها المؤرخون منهم ضد مصالحهم، لأنها ساعدت على تقوية نفوذ ومكانة صلاح الدين في الشام، وفي نهاية المطاف لم يكن ثمة بد من المواجهة العسكرية مع الحلبيين، لكن ذلك لم يفد شيئًا.
 

 وفي سنة 571هـ/1176م استطاع صلاح الدين السيطرة على إعزاز بالقرب من حلب، لكن لم يتمكن من التقدم للمعارضة الحلبية القوية، في حين أخرج الصالح إسماعيل أختا صغيرة له إلى صلاح الدين، يقول ابن الأثير: "فأكرمها صلاح الدين، وحمل لها شيئا كثيرًا، وقال لها: ما تريدين؟ قالت: أريدُ قلعة إعزاز، وكانوا قد علموها ذلك، فسلّمها إليهم"، الأمر الذي يؤكد للمرة الثانية وعلى لسان أحد أشد المؤرخين انحيازا للزنكيين أن صلاح الدين كان يريد من ضم حلب تقوية للجبهة الداخلية في كامل بلاد الشام ومصر أمام الوجود الصليبي، وحين رأى صعوبة ذلك لم تعز عليه قلعة إعزاز وأعادها تطييبًا لخاطر طفلة السلطان الشهيد نور الدين محمود.
 

 وقد ظل على ذلك الحال من الصلح حتى وفاة الصالح إسماعيل شابًا في العشرين من عمره إثر مرض داهمه سنة 577هـ/1181م، وقد سلمت حلب إلى ابن عمه أمير الموصل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، لكن أخاه عماد الدين زنكي بن مودود رفض هذا الأمر، وتم الاتفاق بين الطرفين في نهاية المطاف على تسليم حلب إلى عماد الدين، لكنه لم يحفظ المدينة، وسرعان ما سلّمها لصلاح الدين في صفر سنة 579هـ/1183م ويرى ابن الأثير أنه "باعها بأوكس الأثمان، أعطى حصنا مثل حلب، وأخذ عوضها قرى ومزارع"[19]، ودخل صلاح الدين المدينة، ولم يُرو عنه أنه تعرّض لأهلها الذين طالما أيدوا الزنكيين وعارضوه بأي سوء أو تضييق.
 

موقف المؤرخ ابن الأثير من صلاح الدين

undefined

من الأمور التي يتكئ عليها البعض في النيل من صلاح الدين شهادة المؤرخ الموصلي عز الدين بن الأثير المعروف بميوله وممالأته للدولة الزنكية، وعلى رأسها عماد الدين زنكي وولده الملك العادل نور الدين محمود حتى إنه كتب في تمجيدها والتأريخ لها "التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية" وهو من المصادر شديدة الأهمية في هذا المضمار؛ لذا عده بعض المؤرخين الغربيين مثل السير هاملتون جب "محامي الشيطان ضد صلاح الدين في المصادر العربية التي تناولت سيرة صلاح الدين"[20]!
 

وإن البعض يأخذ على صلاح الدين الأيوبي قول ابن الأثير بأنه لم يُرد أن يخطب/يدعو للخليفة العباسي المستضيء في القاهرة في ظل وجود الخليفة الفاطمي العاضد؛ لأنه خشي أن يدخل نور الدين مصر وينتزعها منه، وهذا الاتهام للحق يدحضه ابن الأثير نفسه الذي يعود فيعترف أن صلاح الدين كان محقًا في تخوفه من غضبة المصريين الذين ظلوا لقرنين كاملين مدينين بالطاعة للخلافة الفاطمية، لكن ريثما توفي العاضد "أمر (كما يقول ابن الأثير) صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء، ففعلوا ذلك فلم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففُعل"[21].
 

أما اعتراف ابن الأثير بمآثر صلاح الدين فأكثر من أن تُحصى، منها اعترافه برفع الظلم عن العباد والبلاد، ففي حوادث سنة 665هـ يهدم صلاح الدين سجنًا بناه الفاطميون من قبل وأسموه دار المعونة، قال: "فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وأزال ما كان فيها من الظلم، وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضا"[22].
 

وفي أخلاقه وحلمه يعترف ابن الأثير قائلاً: "كان، رحمه الله، كريما، حليما، حسن الأخلاق، متواضعا، صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه"[23]. وهي المآثر التي ضمّنها في حوادث سنة 589هـ/1193م في تاريخه "الكامل" ففيها لمن أراد التوسع غنية وبيان شاف لموقف ابن الأثير الإيجابي في أغلبه من صلاح الدين.
 

شهادات شرقية وغربية
يرى شاكر مصطفى أن
يرى شاكر مصطفى أن "وحدة الشخصية لدى صلاح الدين تقتضي أن نفهم أبعاد الإيديولوجية التي كانت تقود حياته
 

كان ولا يزال صلاح الدين بن أيوب من أكثر الشخصيات في التاريخ الإسلامية تناولاً من الجانبين الإسلامي والغربي على السواء، وحتى يومنا هذا تتكشف الدراسات التاريخية والأدبية التي تناولت شخصيته الحقيقية فضلا عن الأساطير التي تناولته في الأدب الغربي القديم والمعاصر، وجلها لا تنفك عن وصفه بالنبل والصدق وحسن الأخلاق؛ فالمؤرخ والمستشرق الفرنسي ألبير شاندور يقول في كتابه الذي جعل عنوانه "صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام" عن معاملته للأسرى وضرب نموذجًا على ذلك: "لم تكن معاملة صلاح الدين لسائر الأسرى أقل أريحية من هذه المعاملة؛  فقد كان بينهم قائد القوات الفرنسية وخازنها، فآوهما في خيمة مجاورة لخيمته، وعاملهما كضيفين قبل أن يرسلهما إلى دمشق، وطلب إليه أحد صغار أولاده أن يسمح له بقطع رؤوس بعض أسرى الفرنجة، معتقدًا بذلك أنه يثبت جدارته بدينه، فأجابه صلاح الدين: معاذ الله أن أسمح بفظاعة لا جدوى وراءها، لا أريد أن يتعوّد أولادي أن يتخذوا من إراقة الدم الإنساني لعبة لهم[24].
 

وقد رأى المؤرخ البريطاني السير هاملتون جب، بنفاذ بصيرته التاريخية، أن ثمة خمسة مصادر عربية عاصرت صلاح الدين الأيوبي وكتبت عنه باستفاضة ودقة، منها تاريخ ابن أبي طيء، يقول: "وبصفة كون مؤلّفه شيعيًا من حلب، فالمرء يتوقّع أن يجده معاديا لصلاح الدين، مثلما كان على عداء واضح لسلفه نور الدين، لكن الأقوال المقتبسة من أعماله في كتب غيره من المؤرّخين تُظهره على ميل إطرائي بالأحرى نحو صلاح الدين"[25].
 

لم يخلّف صلاح الدين حين وفاته في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً وجرم واحد صوري … ولم يخلف داراً ولا عقاراً

ويرى المؤرخ السوري شاكر مصطفى أن "صلاح الدين كأنه شعلة نار في جسد هدمته الأمراض، فلا توازن بين صورته المادية وبين الحِمل الثقيل الذي يملأ هذا الجسد بالطموحات الكبرى، وقضاؤه السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته على ظهر حصانه يكفي دليلاً على أن وعاءه الجسدي كان أصغر بكثير من وعائه الروحي"[26].
 

وفي محاولة لفهم هذه الشخصية المؤثرة يرى شاكر مصطفى أن "وحدة الشخصية لدى صلاح الدين تقتضي أن نفهم أبعاد الإيديولوجية التي كانت تقود حياته، وأخلاقه التي ألمحنا بملامحها من قبل هي الصورة الظاهرية له، أما شخصيته الحقيقية والمتممة لهذه الملامح، فتنكشف بكلمة واحدة: في الإيمان. هنا يكمن قطب شخصيته. صورته في التحليل الأخير كانت صورة صوفي يرى أن القرب من الله لا يكون في التأمّل ولا في مجاهدة النفس، ولا في الفلسفة الميتافيزيقية التي لا يفهمها، ولا في السماع والرقص الصوفي، ولا في الاعتزال عن الدنيا، كان يرى – كما تدل أعماله – أن الإيمان يقتضي العمل، وأن العمل يعني الجهاد في إرضاء الله. إنها إيديولوجية مبسّطة، شديدة الوضوح، ولكنه جعل منها – مع تكالب الأمراض عليه – هدف الحياة الوحيد"[27].
 

وكان من أعجب وأغرب ما روي عن زهد السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب الذي جمع سلطان مصر والشام والحجاز واليمن، أنه بعد وفاته في العام 589هـ " لم يخلّف في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً وجرم واحد صوري … ولم يخلف داراً ولا عقاراً"[28]!
 

وبعد كل هذه الحقائق التاريخية، والشهادات الشرقية والغربية يصف البعض أسطورة من أساطير التاريخ العربي الإسلامي بأنه شخص "حقير" في تدنٍ أخلاقي، وانبتات عن المنهجية العلمية الموضوعية التي اعترف من خلالها الغربيون قبل العرب والمسلمين بمدى عظمة صلاح الدين ونبله النادر لأصدقائه ومخالفيه على مر الزمان!

المصدر : الجزيرة