شعار قسم ميدان

قصة المدارس الإسلامية.. من "النظامية" إلى "المستنصرية"

midan - المدرسة المستنصرية

"لم يعمّر في الدنيا مثلها، فعمّرت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها"
(المؤرخ ابن العبري في وصفه للمدرسة المستنصرية في بغداد)

رأينا أن المدارس -التي أُنشئت قبل سلسلة المدارس النظامية التي أشرف على بنائها وزير السلاجقة الشهير نظام المُلك الطوسي (ت 485هـ)، في القرن الرابع الهجري- كانت تُبنى لبعض الأئمة والعلماء الكبار الذين أوتوا نصيبًا من العلم عظيمًا كما رأينا مع البيهقي والإسفراييني وابن فورك البستي، ثم جاء نظام الملك الطوسي وسار على القاعدة ذاتها غير أنه توسّع في بناء هذه المدارس، وجعل الدولة شريكًا للمجتمع المدني في المساهمة الفاعلة في هذا الميدان، وكذلك سار بناة المدارس من بعدهم يختارون أفضل الأماكن لبناء هذه المؤسسات، وأرسخ الشيوخ ممن عُرفوا بالعلم الواسع والخلق الحسن العفيف.

 

تنافس في البناء

ومن اللافت أن العصور التي انتشرت فيها هذه المدراس كانت إبان عصور السلاطين العظماء المجدّدين لواقع الحضارة العربية والإسلامية في أزمنتهم، مثل الوزير نظام الملك وزير السلطان السلجوقي ملكشاه، والسلطان نور الدين محمود الذي عكف على تجديد كافة المدارس في المدن التي كانت تخضع لسلطنته في بلاد الشام، ففي حلب جدّد مدارسها، "وجلب أهل العلم والفقهاء إليها، فجدّد المدرسة المعروفة بالحلاويين، في سنة ثلاث وأربعين وخمسمئة، واستدعى برهان الدين أبا الحسن علي بن الحسن البلْخي الخفي وولاه تدريسها… وجدّد المدرسة العَصْرونية على مذهب الشافعي، وولّاها شرف الدين بن أبي عصرون، ومدرسة النفّري، وولاها القطب النيسابوري"[1].

 

وعندما دخل نور الدين دمشق وجد إحدى عشرة مؤسسة دينية، وما هو جدير بالملاحظة أن هذه المؤسسات الإحدى عشرة كلها كانت أوقافًا خاصة، كانت تصرفات دينية للمجتمع المدني ولم تكن سياسة عامة انتهجتها الدول السابقة، ومع نهاية عهده بلغ مجموع المدارس في دمشق اثنتين وعشرين مدرسة، على حين أن حلب -حيث بقي النفوذ الشيعي قويا- كانت بها ثمانية مدارس فقط.

المدرسة النظامية
المدارس انتشرت بالعالم الإسلامي رسميا منذ إنشاء النَّظَّامية عام 459هـ/ 1066م، ودرست العلوم الدينية إلى جانب العلوم المدنية

إن النظرة المتأنية لهذه الفترة تبين لنا النمو السريع والمطرد لانتشار المدارس بين سنة 1076م إلى سنة 1154م، وما بين دخول نور الدين محمود دمشق سنة 549هـ وحتى سقوط المدينة تحت يد الجحافل المغولية سنة 657هـ أي في العصرين الزنكي والأيوبي تم بناء مئة وعشرة من المؤسسات العلمية والدينية، جاءت (المدارس/الكليات) على رأس هذه الطفرة العمرانية والفكرية بما يقدر بـ92 مدرسة، بمتوسط إقامة مؤسسة واحدة أو أقل في كل عام![2]

 

وقد كان التعليم في هذه المدارس بالمجَّان. وكان المعلمون والطلاب يتناولون مرتباتهم ونفقاتهم في بعض الأحيان من الحكومة أو من أموال البر والصدقات، وكان شأن المعلم في هذه المدارس أعلى من شأن النصوص التي يعلمها ما عدا نصوص القرآن، فكان التلاميذ يدرسون الناس أكثر مما يدرسون الكتب، وكان الطلاب يجوبون أطراف البلاد الإسلامية ليقابلوا معلماً مشهوراً. وكان على كل طالب علم يريد أن تعلو مكانته في بلده أن يسافر إلى مكة، أو بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، ليستمع في واحدة منها أو أكثر من واحدة إلى كبار العلماء.

 

وكان من الأسباب التي يسرت انتشار الأدب العربي في بلاد الإسلام المختلفة وجعلته أدباً دولياً واحداً أن لغة التعليم والأدب في جميع البلاد الإسلامية -مهما اختلفت أجناس أهلها- هي اللغة العربية، التي بلغت من سعة الانتشار ما لم تبلغه اللغة اليونانية. فلم يكن الزائر إذا دخل مدينة في أي بلد من بلاد الإسلام يخالجه شك في أنه يستطيع الاستماع إلى محاضرة علمية في مسجد المدينة الأكبر في أية ساعة من ساعات النهار تقريباً[3].

 

ويبدو من خلال وثائق الأوقاف التي لا تزال بين أيدينا، وبعض المراسيم السلطانية التي حفظتها دور المحفوظات، وبطون المصادر، يبدو من خلالها مكانة العلماء السامقة ممن كان حظّهم إدارة هذه المدارس، لا سيما مدارس السلاطين وكبار الأمراء، إننا لنجد في هذه المراسيم اختيارًا لأعظم العلماء شأنًا، وأرفعهم علمًا، فعلى سبيل المثال كتب عماد الدين الأصفهاني (ت 597هـ/1201م) كاتبُ السلطان صلاح الدين الأيوبي منشورًا بأمر من السلطان يتم بمقتضاه تعيين العلامة علاء الدين الكاساني الحنفي (ناظرًا/مديرًا) على اثنتين من كبريات مدارس الفقهاء الحنفية في حلب والرقة على السواء.

المدارس الفقهية

وكان مما جاء في ديباجة هذا المرسوم: "والشَّيخ الإمام العالم علاء الدّين أبوبكر بن مسعود بن محمَّد الكاساني -أدام الله توفيقه- ذُو الفضل الوَاسِع، والعلم الجامِع، والبرهان القاطع، والدَّليل الصَّادق الصادع، وهو البحر الطامي عبابه، والغيث الهامي سحابه، والعالم الذي هو أوحد العَالَم في عصره، والحبر الذي حبر علم الفِقه بِذكر وضوحه، وإيضاح ذكره، وهُوَ مَالك قلم الفتيا، وسالك لقمم العليا، وموضح المذهَب إلى رفع الخلاف، والموضع فِي سَبِيل الإفادة بفضل الإسعاد والإسعاف، والمتحلّي من الفضَائل بأَحسَن الحلي وأشرف الأوصاف"[4]، ومن خلال هذه الصفات التي بيّنها مرسوم التعيين نعلم أن الاختيار في رئاسة تلك المدارس لم يكن عبثًا؛ وإنما كان بعد تمعّن وتفحّص للشخص المناسب لهذه المكانة المهمة.

 

وقد اشترط بناة هذه المدارس، والواقفون عليها شروطًا عدة في الذي يتولى تدريس العلوم في هذه المدارس، منها أن لا ينتصب لهذا المنصب العلمي الخطير إلا بعد أن يستكمل عدته، ويشهد له بذلك أفاضل أساتذته وكبار علماء عصره أو بلدته على الأقل، وأن يتفرّغ للتعليم ولا يشرك بعمله الشريف هذا عملاً آخر؛ إلا إذا كان ممّن يُنزّه نفسه عن أخذ أموال الأوقاف فيحتاج وقتئذ إلى القيام ببعض المهن الشريفة ليقوم بأود نفسه، وأن لا يمتنع عن تعليم أحد منهم علما أو بحثًا إذا أنِس منه الفهم، وأن يتدرج معه في تفهيمه، وأن يطرح على التلاميذ أسئلة كثيرة يفهم منها مقدار ما استوعبوه من دروسه، وما فهموه من مقرراته، فإن لم يجدهم قد استفادوا أعاد عليهم الكرَّة[5]، وغيرها من الشروط الأخرى التي كانت تتقدم بمرور الوقت، وهي النصائح التي يفهم منها أن الجيل اللاحق كان يستفيد من خطوات الأجيال السابقة، ويتلافى ما وقعوا فيه من أخطاء، ويتوسّع في طرائق التربية والتعليم القويم.

 

ويبدو حرص الخلفاء والسلاطين واضحًا على هذه المدراس، وبزياراتهم التفقدية لسير التعليم فيها على النمط المرجو منها، ففي العام 580هـ زار الخليفة العباسي الناصر لدين الله المدرسة النظامية في بغداد، وقد راعه ما حلّ بها من انحطاط وإهمال في بعض مبانيها، فأمر المسئول عن تجديد العمائر في بغداد بصرف الأموال اللازمة لتجديد هذه المدرسة /الجامعة وإعادتها كأفضل ما تكون، وأمر الوزير بأن يكون هو المسئول الأول عن عملية إعادة التجديد "فنفذَ إليها الصناع وجميع الآلات وجميع ما يحتَاج إليهِ من حُصر وغيره، ورتَّب فيها جماعة من غلمَان ديوان الْأبنيَة يحثّون على العمل فغرم عليها مبلغًا كبيرًا"[6].

 

درة مدارس بغداد: المستنصرية

أما أهم مدارس /جامعات العاصمة العباسية بغداد في طورها الأخير قُبيل السقوط على يد الجحافل المغولية ببضع وعشرين سنة فقط، فنجد المدرسة المستنصرية الكبرى التي أمر ببنائها ووضع نظامها الخليفة العباسي قبل الأخير المستنصر بن الظاهر (تولى الحكم 623- 640هـ/1226- 1242م)، وهي أول جامعة في العالم الإسلامي عُنيت بدراسة علوم القرآن، والسنة النبوية، والمذاهب الفقهية، وعلوم العربية، والرياضيات، وقسمة الضرائب والتركات، ومنافع الحيوان، وعلم الطب وحفظ قوام الصحة، وتقويم الأبدان في آن واحد، كما أنها أول جامعة إسلامية جمعت فيها الدراسات الفقهية على المذاهب الإسلامية الأربعة ولم يكن الأمر قبلها على هذه الصورة: الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكية في بناية واحدة هي مدرسة الفقه.

 

وقد جعل المستنصر لمدرسته (بُنيت في الفترة ما بين 625 إلى 631هـ/1228- 1234م) هذه ميزة أخرى على المدارس الإسلامية، وذلك أنه شرط أن يُضاف إلى مدرستي الفقه والطب كما يذكر المؤرخ -ومدير المكتبة المستنصرية الأول- ابن الساعي داران أخريان لعلمين مهمين من علوم الشريعة الإسلامية، هما دار القرآن والثانية دار السُّنة، الأمر الذي رآه المؤرخ العراقي ناجي معروف عملا لم يسبق إليه خليفة آخر غير المستنصر، الذي جمع في آن واحد المذاهب الفقهية الأربعة، وعلوم القرآن، والسنة النبوية، وعلم الطب، والعربية، والرياضيات والفرائض وجعلها في مكان واحد يتألف من مبان عديدة متجاورة أُطلق عليها اسم "المستنصرية"، بعضها باقٍ وبعضها درس وعفا عليه الزمن، ولم تكن المدارس قبل المستنصرية كذلك، فقد كانت مدارس الطب تُبنى مستقلة عن مدارس الفقه أو دور الحديث، أو دور القرآن، كالبيمارستان (المستشفى ومدرسة الطب) العضدي بالجانب الغربي من بغداد، ومدرسة الطب التي أنشأها أبو المظفر باتكين بالبصرة سنة 629هـ في خلافة المستنصر، ومدارس الطب في دمشق، ومثلها مدارس القرآن التي كانت مستقلة منذ لحظة إنشائها في مستهل القرن الخامس الهجري[7].

 

ولما افتُتحت المدرسة المستنصرية التي جاءت ذروة المدارس في تاريخ الإسلام، وتطورًا لافتًا لهذا النظام الذي كان يخطو خطواته الأولى قبل ذلك بقرنين ونصف قرن تقريبًا؛ شرع الناس في تقليده والائتمام به، وغدت المستنصرية النموذج لمؤسسي المدارس من الرجال والنساء من أكابرهم إلى أقلهم شأنا؛ حيث شرعوا يبنون مدارسهم على صفتها من حيث الدراسة على المذاهب الأربعة، وربما بنوها على غرارها أيضًا من حيث هندسة البناء، واحتوائها على أربعة أواوين للمدرسين الأربعة أو على دروس للطب والتفسير الحديث وغيرها[8].

 

هذه القمة المعمارية والتعليمية أشاد بها المؤرخون الذين كانوا في زمن البناء أو بالقرب منه، مثل ابن العبري (ت685هـ) الذي يقول: "لم يعمّر في الدنيا مثلها، فعمّرت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها. ووقفها على المذاهب الأربعة ورتّب فيها أربعة من المدرّسين في كل مذهب مدرّس وثلاثمئة فقيه. لكلّ مذهب خمسة وسبعون فقيها. ورتّب لهم من المشاهرات والخبز والطعام في كل يوم ما يكفي كل فقيه ويفضل عنه، وبنى لهم داخل المدرسة حمّاما خاصا للفقهاء وطبيبًا خاصّا يتردّد إليهم في بكرة كل يوم يفتقدهم ومخزنا فيه كل ما يحتاج اليه من أنواع ما يطبخ من الأطعمة ومخزنا آخر فيه أنواع الأشربة والأدوية"[9].

المدراس الوقفية

وفي كلام الرحالة ابن بطوطة الذي زار هذه المدرسة في سنة (727هـ/1326م) نلمس دورها المحوري آنذاك، ونرى ما كانت عليه في عصر سيطرة المغول، فقال: "بها المذاهب الأربعة، لكل مذهب إيوان، فيه المسجد وموضع التدريس، وجلوس المدرّس في قبة خشب صغير على كرسي عليه البسط، ويقعد المدرس وعليه السكينة والوقار، لابسًا ثياب السواد معتمًّا، وعلى يمينه ويساره مُعيدان يُعيدان كل ما يُمليه، وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة"[10].

 

وقد وقف المؤرخ العراقي كوركيس عواد على الحجرات التي بنيت داخل هذه المدرسة /الجامعة التي أُنشئت من طابقين، والتي غفل المؤرخون عن ذكرها، فأحصاها ووجدها لا تقل عن مئة حجرة وغرفة بين كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وهناك بيوت صغيرة بلغت 39 بيتًا في الطبقة السفلى، ومثلها من الغرف في الطبقة العليا[11]. وقد بنى الخليفة المستنصر العباسي بجوار هذه المدرسة العظيمة بستانًا، كان يأتي للتنزه فيه من قصره، "وينظر إلى المدرسة ويُشاهد أحوالها وأحوال الفقهاء ويُشرف عليهم ويتفقّد أحوالهم"[12].

 

وقد أُريد لهذه الجامعة البقاء والازدهار والاستمرارية في نهضة علمية شاملة في عصر كان المغول فيه على أبواب العراق، وبقايا الإمارات الصليبية في الساحل الشامي، لذا وقف الخليفة المستنصر على هذه المدرسة أوقافًا كثيرة، تكفل لها البقاء، وترف العيش لمن ينتسب إليها، فقد ذكر الذهبي أن "قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار"؛ مليون دينار ذهبي وهو مبلغ ضخم للغاية، وكان العائد السنوي الذي تغله هذه الأوقاف يبلغ نيفًا وسبعين ألف مثقال من الذهب. وإذا صحت هذه الوقوف أدركنا الغاية التي من أجلها بُنيت أعظم مدرسة في تاريخ الإسلام الوسيط.

 

وقد لبث التدريس في المستنصرية سائرًا سيرًا حسنًا بضع مئات من السنين، حفلت المدرسة خلالها بجمهرة من أكابر علماء عصرهم الذين عُينوا للتدريس في فروع العلم المختلفة فيها، وقد بلغوا أكثر من مئة وعشرين عالمًا خلال القرنين السابع والثامن الهجري، يقول كوركيس عواد: "لقد طالعنا تراجم هؤلاء في مختلف المظان التاريخية فبدا لنا من ذلك كله، أنه لم يكن يعين للتدريس في هذه المدرسة إلا من اتصف بمتانة الخلُق، وعُرف بوفرة التحصيل، وغزارة العلم، وسعة الاطلاع، فلا مراء أن تكون هذه المؤسسة، في ماضيها موئلاً للعلم، ومنارًا يسير بهديه طلاب المعرفة من مختلف الأنحاء"[13].

المصدر : الجزيرة