شعار قسم ميدان

بيبرس والصليبيون.. استرداد قيسارية الشام

midan - Crusaders

توفي السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة (589هـ/1193م) ولم يكن قد استكمل مشروع التحرر من الوجود الصليبي بصورة كاملة، فقد بقي لهؤلاء الصليبيين نفوذ وسيطرة في بعض مدن الساحل الشامي، وبسبب الخلاف الأيوبي على النفوذ بين أولاد صلاح الدين وعمهم العادل أبو بكر بن أيوب، ثم خلاف أبناء العادل الأشرف موسى والمعظم عيسى والكامل محمد، ثم خلاف أبناء الأبناء، الذي ترتب عليه تسليم بيت المقدس مرة ثانية في اتفاقية مستهجنة بين السلطان الكامل محمد بن أيوب والإمبراطور الألماني فردريك سنة (626هـ/1229م).
 
تزامن هذا الضعف والتشرذم الأيوبي بصعود قوة المغول في مشرق العالم الإسلامي، حتى استهوى ذلك الضعف لويس التاسع ملك فرنسا فأعد حملة صليبية جديدة عُرفت في التاريخ باسم الحملة الصليبية السابعة، وكانت وجهتها هذه المرة إلى مصر، القوة العسكرية والسياسة الأبرز في العالم الإسلامي حينها، لكنه انهزم بل وأُسر على يد فرقة المماليك الذين جاء بهم السلطان الأيوبي الأخير الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد وذلك سنة (647هـ/1249م)، وجعلهم أقوى أفرع الجيش الأيوبي.

 

ومنذ تلك اللحظة سيطر المماليك على الجيش والدولة، وظلت الشام يحكمها الأيوبيون حتى استولى عليها المغول بعد سقوط بغداد بعام واحد سنة 657هـ/1259م؛ لذا شغل خطر المغول على العالم الإسلامي والدولة المملوكية الوليدة عن الخطر الرابض منذ قرنين في سواحل الشام أي الصليبيين. لقد أيقن الصليبيون أن المماليك خطر شديد على وجودهم وبقائهم منذ هزيمتهم في الحملة الصليبية السابعة في المنصورة سنة 647هـ، ومنذ تحييدهم في الصراع المملوكي الأيوبي (648 – 655هـ) على بلاد الشام، ومنذ انتصار عين جالوت ومعركة حمص الأولى على المغول؛ ولذلك لم يرَ الصليبيون بُدا من التحالف مع المغول لهزيمة المماليك، هذه القوة الإسلامية الصاعدة آنذاك، واتخذوا هذا التحالف إستراتيجية متقدمة لأي هجوم مملوكي متوقع، هذا بالرغم من هجوم المغول على شرق العالم المسيحي في الشمال، لكن قوانين السياسة والصراع هي التي تحكم العلاقات الدولية، فقد انتهج الصليبيون المثل القائل: عدو عدوّي صديقي!

  

 

في المقابل، ومن واقع التحالفات وقتها، حاول السلطان بيبرس إشغال مغول فارس والعراق بأنفسهم من خلال تحالفه مع مغول القفجاق أو القبيلة الذهبية في منطقة حوض نهر الفولجا جنوب روسيا شمال بحر قزوين، الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام في عهد ملكهم بركة خان (653- 665هـ/1255- 1267م)، وسرعان ما بدأوا في شن الهجمات على أقرانهم المغول في الجنوب بإيعاز من السلطان المملوكي بيبرس، ما هيّأ لبيبرس أن يتفرغ لمواجهة واستئصال الصليبيين طيلة سنوات حكمه.

 

على الجهة الشمالية استطاع بيبرس أن يتحالف كذلك مع الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية وظلّت هذه العلاقات ودية حتى بعد وفاة بيبرس سنة (676هـ/1277م)، مما قطع خطوط الإمداد البرية عن الصليبيين المتمركزين من أنطاكية في الشمال إلى يافا وعكا في الجنوب(1)، ولم يبق أمام الصليبيين سوى الإمداد البحري من أوروبا.

 

لقد كان لتحالف الصليبيين مع المغول، وتعاونهم معهم كأدلاء ومرشدين وهم في قلب العالم الإسلامي غصة قوية في حلق المماليك وبيبرس، لذا عزم لمدة عشر سنوات كاملة على الفتك بهم، والعمل على إخراجهم بصورة نهائية عقب سحقه المغول في معركة حمص الأولى سنة (659هـ/1260م).

 

استرداد قيسارية الشام
بدأت الحربُ بين الجانبين على شكل مناوشات سريعة أُريد من ورائها معرفة مكامن القوة الصليبية أولا، وبدأت تلك المناوشات في شهر رمضان سنة (660هـ/1262م) بهجوم المماليك بقيادة الأمير سُنقر الرومي ونائبي حمص وحماة الأيوبيينِ الخاضعين للسيادة المملوكية، وذلك على مدينة أنطاكية وهي أعظم الإمارات الصليبية في الساحل الشامي حينذاك، واستطاعوا أن يستردوا مدينة السويداء القريبة فضلا عن أسرهم لأكثر من مائتين وخمسين صليبيًا، ورجعوا إلى القاهرة ظافرين، الأمر الذي قابله بيبرس بالترحاب والمكافآت السخية، وعُد بمثابة فاتحة مبشرة لعملية الاسترداد(2).

  

رغم انتصار بيبرس واسترداده مدينة قيسارية الشام، استغل حماسة النصر وأرسل جيشًا آخر إلى مدن صليبية قريبة من قيسارية مثل عثليت وحيفا تمكن من تخريب حصون الصليبيين فيهما
رغم انتصار بيبرس واسترداده مدينة قيسارية الشام، استغل حماسة النصر وأرسل جيشًا آخر إلى مدن صليبية قريبة من قيسارية مثل عثليت وحيفا تمكن من تخريب حصون الصليبيين فيهما
  

وبالرغم من سرعة مد الصليبيين أيديهم لطلب الصلح بسبب مناوشاته الناجحة في أنطاكية وعكا فيما بعد؛ فإن بيبرس أصرّ على عدم الاستجابة لهذه النداءات، وكانت أولى المعارك الحقيقية بين الفريقين معركة قيسارية الشام وهي مدينة جنوبي حيفا، في جمادى الأولى سنة (663هـ/1265م)، ولم يعلم أحد بوجهته كعادته في معظم معاركه.

 

استمر الحصار على المدينة، حيث ردمَ خنادقها التي كانت خط الدفاع الأول عنها، ثم كثّف من رميها بالسهام والنشّاب والمنجنيقات والمدافع الحجرية لمدة ستة أيام كاملة، وبرغم حصانة سور المدينة وقوة قلعتها، فإن الصليبيين هربوا وتركوها تحت وطأة الهجوم والحصار الكاسح في منتصف جمادى الأولى سنة (663هـ/1265م)، وهذه أول مدينة حصينة من مدن الساحل يستردها المسلمون من الصليبيين في سلطنة الظاهر رُكن الدين بيبرس البندقداري.

 

وقد وصف المؤرخ وكاتب سيرة السلطان بيبرس الفقيه والكاتب رئيس ديوان الإنشاء (وزارة الخارجية) محي الدين بن عبد الظاهر حال بيبرس في ذاك الحصار، ومشاركته الفعّالة بقوله: "كان السلطان تارة يرمي بالنشّاب(أ)مِن علو كنيسة قُبالة القلعة، وتارة يركبُ ويخوض عُباب البحر ويُقاتل، وعُملت دبّابات(3) وزحّافات، وأطلق النشّاب للعساكر من قلعة عجلون … وخلع (أهدى) على الأمير عز الدين الأفرم أمير جندار(ب) لاجتهاده في المنجنيقات (ج)، وعلى المنجنيقية… واستمرّ السلطان على المصابرة والمثابرة، وأقام بالكنيسة لا يخرج إلى دهليزه(د) يرامي هو، وجماعة الأقجية(هـ) يمنعون الفرنج من الصعود إلى علوّ القلعة، وتارة يركب في بعض الدبّابات ذوات العَجَل، وتجري من تحته حتى يصل إلى الأسوار، ويرى النقوب بنفسه، وأخذ في بعض الأيام في يده ترسًا، وقاتل وما رجع إلا وفي ترسه عدّة سهام"(4).
  

اضطر بوهمند السادس أمير أنطاكية أن يرسل في سنة (664هـ/1266م) فرقة عسكرية للهجوم على حمص كنوع من تخفيف وطأة الهجوم الإسلامي المتوالي على الساحل الشامي، لكن يقظة بيبرس، وجهازه المخابراتي الفعّال، ترصّد لهذه التحركات الصليبية سريعًا (مواقع التواصل)
اضطر بوهمند السادس أمير أنطاكية أن يرسل في سنة (664هـ/1266م) فرقة عسكرية للهجوم على حمص كنوع من تخفيف وطأة الهجوم الإسلامي المتوالي على الساحل الشامي، لكن يقظة بيبرس، وجهازه المخابراتي الفعّال، ترصّد لهذه التحركات الصليبية سريعًا (مواقع التواصل)

   
وهذا الوصف الدقيق من ابن عبد الظاهر للسلطان بيبرس ونشاطه وانخراطه الملحوظ في المعركة بين الصعود ورمي العدو بالسهام، ثم ركوب الدبابات الخشبية الموكلة بنقب سور المدينة، والوقوف بنفسه ليرى آخر التطورات الميدانية- رغم تماسّه الشديد مع العدو وهو القائد الأعلى للمماليك – وعدم استكانته في مكان محدد أثناء المعركة، هذا النشاط لا يتمتّع به عادة إلا القادة الأكفاء الذين سطّروا لأنفسهم تاريخًا عسكريًا مجيدًا، وقد كان بيبرس جديرًا بهذه المكانة ولا شك!

 

ورغم انتصار بيبرس واسترداده مدينة قيسارية الشام، فإنه استغل حماسة النصر وأرسل جيشًا آخر إلى مدن صليبية قريبة من قيسارية مثل عثليت وحيفا تمكن من خلاله تخريب حصون الصليبيين في هاتين المدينتين، ثم اتجه الجيش المملوكي صوب أرسوف البحرية الواقعة جنوب قيسارية وشرع في الهجوم عليها، لكن هذه القلعة الحصينة كانت تتمركز بها فرقة الإسبتارية عالية التدريب والمهارة القتالية، وقد دافعوا عنها مدة أربعين يومًا كاملة، لكن في نهاية الأمر أرسل الإسبتارية طالبين الهدنة والصلح والتسليم بعدما حوصروا داخل القلعة وكانوا قاب قوسين من الهزيمة والأسر، وقد كان تسليمًا مذلًا إذ أمرهم الظاهر بيبرس بهدم قلاعهم بأيديهم(5)!

 

مكافأة النصر
عقب هذه المعركة المهمة أهدى السلطان أمراءه المماليك قطائع من الأرض التي استردوها مكافأة لهم على مجهودهم اللافت في الاسترداد والثبات، وسجّل هذه الإقطاعات في وثائق رسمية أوردها كل النويري والمقريزي في كتابيهما "نهاية الأرب في فنون الأدب" و "السلوك لمعرفة دول الملوك"، وذكر المؤرخ ابن أبي الفضائل أن الظاهر بيبرس أرسل هذه الوثائق بالإقطاعات إلى مصر ليوقّع عليها الوزير والخازندار وديوان الجيش، ثم أُعيدت ثانية ووزّعت على أصحابها، ولما تم ذلك حضر الأمراءُ إلى السلطان ليقدموا له الشكر على هذه المنح الجزيلة، ثم قدم قاضي القضاة على السلطان وهو في غزة، وكتب إقرارًا بتمليك هذه المنح للأمراء وقّع عليه السلطان بنفسه ثم أعطى كل أمير نسخته(6)، ولا شك أن هذا الإجراء كما أنه كان مكافأة على استرداد الأراضي الإسلامية من الصليبيين وتوزيعها على كبار الأمراء الذين شاركوا في هذا التحرير، فقد كان حافزًا لهم على استكمال هذه المسيرة التي لم تتوقف إلا بإنجازات كبرى سنقف معها في عدة تقارير لاحقة.

  

كان لتحالف الصليبيين مع المغول وهم في قلب العالم الإسلامي غصة قوية في حلق المماليك وبيبرس، لذا عزم لمدة عشر سنوات كاملة على الفتك بهم، والعمل على إخراجهم بصورة نهائية
كان لتحالف الصليبيين مع المغول وهم في قلب العالم الإسلامي غصة قوية في حلق المماليك وبيبرس، لذا عزم لمدة عشر سنوات كاملة على الفتك بهم، والعمل على إخراجهم بصورة نهائية
  

وبسبب هذا الهجوم المملوكي المنظّم الذي بدأ تكتيكيًا بمناوشات سريعة لاستكشاف مكامن ضعف العدو، ومع أقوى الإمارات الصليبية وهي أنطاكية، ثم الانتصارات المملوكية في الساحل الشامي، اضطر بوهمند السادس أمير أنطاكية أن يرسل في سنة (664هـ/1266م) فرقة عسكرية للهجوم على حمص كنوع من تخفيف وطأة الهجوم الإسلامي المتوالي على الساحل الشامي، لكن يقظة بيبرس، وجهازه المخابراتي الفعّال، ترصّد لهذه التحركات الصليبية سريعًا.

 

وأعطى السلطان أوامره بإرسال فرقة عسكرية بقيادة الأمير جمال الدين أيدُغدي العزيزي والأمير سيف الدين قلاوون الألفي (الذي سيصبح سلطانا بعد بيبرس) وكانا من كبار الأمراء خبرة بالشئون العسكرية، فتمكنوا من هزيمة هذا الغزو الصليبي المباغت، بل جاءتهم رسالة من السلطان تأمرهم بعدم التوقف والرد على هذه الغارة الصليبية على حمص، وذلك بالإغارة على طرابلُس الشام أكبر مدن الصليبيين المحتلة حينها، فتمكنت القوات المملوكية من الاستيلاء على بعض القلاع المهمة القريبة من طرابلس، وتبع بيبرس هذا الجيش، غير أنه مرّ بالقدس والخليل فبقي بها، ومن هناك أرسل عددًا من الفرق العسكرية للهجوم على صور وصيدا والقرن، ثم توجه بنفسه صوب عكّا وأقام على مقربة منها إلى أن قدمت هذه الفرق كلها من حمص وصيدا وصور وغيرها ظافرة منتصـرة محققة الأهداف العسكرية التي أُنيطت بها(7).

 

في مقالنا القادم سنستكمل الحديث عن بطولات الظاهر بيبرس العسكرية، وقواته المملوكية في استرداد المدن الشامية وطرد الصليبيين منها، هذه المهمة التي كانت قد بدأت مع السلطان عماد الدين زنكي قبل زمن بيبرس بقرن ونصف، مرورا بنور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي والذي توقف الأيوبيون من بعده عن مهمة استرداد المدن الشامية من الصليبيين نظرًا للتنازع فيما بينهم على السلطة والسيادة.

 

___________________________________

     
– الهوامش:

أ/ سهم خشبي ذو نصل حديدي مثلث.

ب/ الدبابات جمع دبابة؛ وهي برج متحرك له أربع طبقات يدخل تحته الجنود ويقتربون من السور لنقبه.

ج/ المنجنيق: آلة حربية تُستعمل لقذف الحجارة والسهام.

د/ خيمته في المعسكر.

هـ/ الأقجية مفردها أوقجي، وهي لفظة تركية تعني رامي السهام.

المصدر : الجزيرة