شعار قسم ميدان

تحرير صفد.. كيف حقق المماليك الانتصار على الصليبيين؟

midan - castle
رأينا سابقا انتصار الظاهر بيبرس في موقعة قيسارية واسترداد هو القوات المملوكية لهذه المدينة المهمة في جنوب حيفا، وعقب ذلك الانتصار كانت قواته قد تجمعت فيما بعد بالقرب من أسوار عكا في محاولة منه لاسترداها هي الأخرى، لكنه وجدها شديدة المنَعة والقوة، ويلاحظ بعض المؤرخين أن بيبرس تمكن من عقد محالفات مع أعداء الصليبيين، الذين قابلوا هذه الانتصارات بالترحاب، مثل ابن الإمبراطور فردريك الثاني الألماني ووريثه في صقلية، والإمبراطور البيزنطي ميخائيل باليولوجس، وجمهورية جنوا، وبركة خان زعيم مغول القفجاق، كلهم كانوا يرسلون رسائل التهنئة عقب كل نصر لبيبرس.(1)

 

بالرغم من فشل الهجوم على مدينة عكا، فإن بيبرس أمر بالهجوم على قلعة صفَد، وكانت مركزًا عسكريًا لفرقة الداوية الصليبية ثاني أقوى الفرق الصليبية بعد الإسبتارية في المشرق الأدنى الإسلامي، وكما فعل في قيسارية وأرسوف، أعاد بيبرس وجنوده الكرّة في صفد بالحصار القوي الخانق، واستخدام كافة المعدّات العسكرية، خاصة الثقيلة منها في ذلك العصر، مثل المنجنيقات والدبابات الخشبية والمدافع، كان الغرض منها نقب الأسوار والحصون المنيعة، فضلاً عن دورها في سحق المعنويات الصليبية، ومن ثم الهجوم الخاطف من خلالها.(2)

 

استرداد صفد
بعد حصار شديد، ورمي قوي من المنجنيقات، أرسل الداوية في طلب الأمان، فقبل بيبرس ذلك شريطة ألا يستصحبوا سلاحًا ولا عدة حرب، ولا يُؤذوا شيئًا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم
بعد حصار شديد، ورمي قوي من المنجنيقات، أرسل الداوية في طلب الأمان، فقبل بيبرس ذلك شريطة ألا يستصحبوا سلاحًا ولا عدة حرب، ولا يُؤذوا شيئًا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم
  
وصف المؤرخ المقريزي مشهدًا من مشاهد هذه المعركة يبدو مليئًا بالحركة والتفاصيل؛ ويظهر من خلاله انخراط السلطان بنفسه في أجواء المعركة، غير مكتف بالتوجيه والإدارة من بعيد، قائلاً:"سار السُّلطان بنفسه وخواصّه وجرّ الأخشاب مع البقر هو وخواصّه، فكان غيره من النَّاس إذا تعب استراح ثمَّ يعود إلى الجرّ وهو لا يسأمُ من الجرّ ولا يبطله إلى أن نُصبت المجانيق رُمي بها … وصار السُّلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي. وأتت العساكر من مصر والشَّام فنزلوا على منازلهم إلى أن كانت ليلة عيد الفطر فخرج الأمير بدر الدّين الأيدمُري للتهنئة بالعيد فوقع حجر على رأسه فرسم السُّلطان بألا يجتمع أحد لسلام العيد ولا يبرح أحد من مكانه خشية انتهاز العدو غرَّة العسكر ونودي يوم عيد الفطر في النَّاس: من شرب خمرًا أو جلبها شُنق"
 

في اليوم التالي من أيام الحصار أمر السلطان بالزحف على صفد، وبدأ الهجوم بإلقاء فرقة "الزراقين" وهي الفرقة الموكلة بإلقاء الزجاجات النارية الحارقة على العدو، ثم بدأت فرقة "الحجّارين" التي كانت موكلة بإلقاء الحجارة الثقيلة بالمنجنيقات وغيرها، ثم بدأ  التلاحم مع العدو، "فكان بين الفريقين قتالٌ عظيم استشهد فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قُتل جرّه رفيقه ووقف موضعه، وتكاثرت النُّقوب، ودخل النقّابون إليها ودخل السُّلطان معهم وبذل السُّلطان في هذا اليوم من المال والخلع كثيرا، ونصب خيمة فيها حُكماء (أطباء) وجرائحية".(3)

 

وفي أثناء هذه المعركة كانت سفراء أمير يافا وصور ومنطقة صهيون وبيروت وكلهم من الصليبيين تفدُ إلى السلطان بطلب الصلح والهدنة، بيد أنه لم يتصالح السلطان مع أحد منهم، بل لامهم بما جنته أيديهم في حق المسلمين، وبيّن أن الخروقات المتكررة من جانبهم مسوّغ قوي لنقض كافة الاتفاقيات القديمة.

 

وبعد حصار شديد، ورمي قوي من المنجنيقات استمر منذ 8 رمضان سنة 664هـ/1266 حتى منتصف شوال، أرسل الداوية في طلب الأمان، فقبل بيبرس ذلك شريطة "ألا يستصحبوا سلاحًا ولا لأمة (عدة/ترس) حرب، ولا شيئًا من الفضّيات، ولا يُؤذوا شيئًا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم".(4). لكنهم نقضوا العهد الذي أعطي لهم، فقد حملوا معهم أسلحتهم وأمتعتهم، كما وُجد مع بعضهم أسرى من المسلمين أطفال صغار قالوا إنهم نصارى، فأُخذ جميع ما معهم، وأمر بيبرس بقتلهم "على تل قريب صفد، في مكان كانوا يضربون فيه رقاب المسلمين"(5).

  

اعترف الاسبتارية وهي الفرقة العسكرية الصليبية المحترفة بشرعية وقوة المماليك مرغمين ومضطرين، المماليك الذين فرضوا شروطهم وصلحهم متى أرادوا، وفسخوه متى أرادوا
اعترف الاسبتارية وهي الفرقة العسكرية الصليبية المحترفة بشرعية وقوة المماليك مرغمين ومضطرين، المماليك الذين فرضوا شروطهم وصلحهم متى أرادوا، وفسخوه متى أرادوا
  

وقد اتهمت المصادر الصليبية بيبرس بالخيانة والغدر بسبب هذه الحادثة، والحق أنه "لا مجال هنا للكلام عن الخيانة والغدر مع أناس مثل الصليبيين كان الغدر هو شيمتهم طوال تاريخهم الطويل"(6)، كما يُعلق المؤرخ الدكتور أحمد مختار العبّادي.

 

على أية حال، أمر بيبرس بالحفاظ على هذه القلعة الاستراتيجية في شمال فلسطين دون هدم كما فعل مع غيرها، وهي قلعة كانت قريبة من باقي الإمارات الصليبية في الساحل الشامي، وكانت قريبة كذلك من طريق دمشق والمدن المهمة في فلسطين، لذا حرص بيبرس على إعادة ما خرب منها في السنة التالية، واشترك في ذلك التجديد بنفسه تحريضًا وقدوة لأمرائه وجنده، وحرص على كتابة بضع عبارات على أسوارها تتضمن سجل جهاده ضد الصليبيين، ولقب نفسه بألقاب "سلطان الإسلام والمسلمين … سيد التتار، فاتح القلاع والحصون والأمصار، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، صاحب القرآن أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين"(7).

 

وهي السُّنة التي استنّها هذا القائد العظيم، وقبل أن يترك بيبرس صفد "طلب لها الرجال (الحامية) من دمشق، وتقرّرت نفقة رجالها في الشهر ثمانين ألف درهم، واستخدم على جميع بلادها الأمراء، وعمل بها جامع في القلعة وجامع في الرَبض (خارج الأسوار)"(8).

 

لقد كان من آثار استرداد صفد توسيع الأراضي المملوكية في بلاد الصليبيين في الشام، ثم مجيء سفير الاسبتارية طالبًا الصلح للمرة الثانية، وفي هذه المرة قبِل بيبرس الصلح، وقد كانت قلاعهم قريبة من حمص، وقد فرض عليهم شروطه، وهي إسقاط الجزية السنوية التي كانوا يفرضونها على مدينة حماة وغيرها من مدن الشام الأخرى، هذه الجزية التي كانت عاملاً مهمًا من عوامل قوتهم وتجرؤهم على المدن الشامية عامًا بعد عام، بل فرض عليهم إمداده بما مقداره خمسين طنًا من القمح سنويًا، "فأجابوا إلى ذلك جميعه، وكُتبت الهدنةُ بذلك، وشُرط فيها أن الفسْخ للسلطان متى أراد، ويُعلمهم قبل بمدة"(9).

 

لقد اعترف الاسبتارية وهي الفرقة العسكرية الصليبية المحترفة منذ عشـرات السنين بشرعية وقوة المماليك مرغمين ومضطرين، هؤلاء المماليك الذين فرضوا شروطهم وصلحهم متى أرادوا، وفسخ هذا الصلح والمواجهة متى أرادوا أيضا!

 

وفود الصليبيين تطلب الصلح
undefined   
في العام التالي 665هـ حينما كان الظاهر يرمّم مدينة صفد وقلعتها، حاول أن يفاجئ عكا بهجوم خاطف، فسير فرقتين من الخيالة دون شعور أو إعلام؛ فقد لبست إحداها ملابس الفرسان الاسبتارية والأخرى ملابس الفرسان الداوية، غير أن هذه الحملة لم تلبث أن كُشف أمرها، وعلى الرغم من ذلك قامت هذه الفرق بقتل كل من طالته أيديها خارج أسوار المدينة من الصليبيين، وأنزلت الرعب والفزع في قلوب الإمارة الصليبية الأقوى والأشد تحصينًا.

 

لقد رأى بيبرس أن بعض الإمارات الصليبية ترغبُ في عقد الصلح فاتبع خطة ذكية ثنائية الأهداف؛ إذ تصالح مع بعضها فحيّد موقفهم، وترك البعض الآخر دون مصالحة ليكونوا أهدافًا مشروعة لهجماته القادمة دون مساعدة من المحيّدين، فعقد الصلحَ مع أميرة بيروت ومدينة صور التي اضطرت إلى دفع مبلغ كبير من المال وأطلقت الأسرى المسلمين، كما عقد بيبرس الهدنة مع الاسبتارية المتواجدين بحصن الأكراد والمُرقب، وقد أسهب القلقشندي في ذكر تفاصيل هذه المهادنة التي كان من شروطها:

 

1- أن تكون الهدنة لمدة عشـر سنين وعشـرة أيام وعشـر ساعات تبتدئ من يوم الاثنين الرابع من رمضان سنة 665هـ.

2- ألا تُنقض بموت أحد الطرفين.

3- ألا يأخذ بيت الاسبتار الجزية التي كانت مفروضة على بلاد الإسماعيلية وحماة وشيزروأفامية وأبي قُبيس.

4- أن يتولى أمر سكان هذه البلاد فيما يختص «بالحبس والإطلاق والجباية» نائب من قبل الظاهر، ونائب من قبل الاسبتار، فإن كانوا مسلمين حُكم فيهم بشريعة الإسلام، وإن كانوا مسيحيين عوملوا بمقتضى النصرانية(10).

 

وغيرها من الشروط الأخرى التي نرى من خلالها تراجع الصليبيين خطوة إلى الوراء بمشاركة الظاهر بيبرس لهم في حكم هذه الإمارات التي طالما حكموها منذ احتلالهم لها منفردين(11)، ولا شك أن هذا انتصار سياسي كان نتيجة طبيعية للنفوذ والقوة المملوكية التي وصلت إليها آنئذ.

 

في نفس العام أمر بيبرس بالهجوم على قلعة الشقيف (جنوب لبنان الآن)،وكانت بيد الصليبيين، ثم في العام التالي عزم بيبرس على استرداد يافا بعد هجوم قواته الخاطف لعكا، وكانت الهدنة المقررة بينه وبين صاحبها قد انتهت بوفاته، ولم يشأ الظاهر أن يجدد هذه الهدنة، لذا حينما جاءت سفراء أمير يافا الجديد "جاي إبلين" إلى السلطان في 4 جمادى الآخرة سنة 666هـ/19 فبراير (شباط) 1268م، أمر باعتقالهم، كما "أمر العسكر بلبس العدة ليلًا، وسار فصبَّح َيافا، فأحاط بها من كل جانب، فهرب من كان بها إلى القلعة فمُلكت المدينة، وطلب أهل القلعة الأمان فأمّنهم وعوّضهم عما نُهب لهم أربعين ألف درهم، فركبوا في المراكب إلى عكا، ومُلكت القلعة في الثاني والعشـرين منه (مارس 1268م)، وهُدمت والمدينة وكانتا من بناء ريدا فرنس (ملك فرنسا) لما نزل الساحل بعد كسـرته وخلاصه من الأسر سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأصدرت كُتب البشائر عن السلطان بفتحها(12).

 

استثمار النصر.. مزيد من النصر!
undefined
 
وكعادته عزم السلطان بيبرس في أوج هذا الانتصار والروح المعنوية العالية على فتح واسترداد المزيد من المدن والقلاع الصليبية في الساحل الشامي والمناطق المتاخمة؛ فقد سار شمالًا قاصدًا قلعة الشقيف أرنون للمرة الثانية وكانت من جملة أملاك الفرسان الداوية، وكانت تتميز بالتحصين، والمكان العالي القوي، قال ابن عبد الظاهر مؤرخ سيرة بيبرس: "هذا الشقيف من أحصن المعاقل وأحسنها، وكان مَضرة على بلاد الصّبيبة (بالجولان)، وكان الملك العادل الكبير (أخو صلاح الدين) قد جدّده، ومازال في يد الإسلام إلى أن سلّمه الصالح إسماعيل (بن العادل بن أيوب) للفرنج سنة ثمان وثلاثين وستمئة، هو وصفد وغير ذلك من البلاد الإسلامية، ولما تسلّموه عمّروه وعمّروا جانبه قلعة أخرى، فانقطعت به السّبل لتوسّطه في تلك الجهات"(13).

 

بدأ الظاهر بيبرس في حصار هذه القلعة في 18 رجب من نفس العام 666هـ، واستخدم في هدم أسوارها 26 منجنيقًا، وكان من عادة بيبرس في كل هذه الفتوحات إشراك العلماء والفقهاء والصالحين في عمليات الجهاد، رغبة في نيل بركة دعائهم، وتلاحمًا معهم في عمليات الاسترداد.

 

وقد كشف لنا ابن عبد الظاهر الشاهد على هذه المعارك، والمشارك بها، والقريب من السلطان بيبرس خُطته الخداعية بجانب الحصار العسكري الثقيل، فهذه الخطة اعتمدت على إيقاع الخلاف، وبث الفتنة والفُرقة بين الصليبيين في القلعة، إذ وقع في يد بيبرس رسالة قادمة من صليبيي عكا جوابًا على رسالة قد أرسلوها يكشفون فيها عن أماكن الخلل، فعلم بيبرس ما فيها من تفاصيل مهمة، وشخصيات بارزة، وأمر بكتابة رسالة باللغة ذاتها توقع بينهم العداوة، وتكشف أن بعضهم يتربص بالبعض الآخر، ورمى كلا الرسالتين لهم، "فأمسكوا جماعة، وتوهّموا من الوزير، ووقع الخلف بينهم، وهذا من سعادة السلطان، وحُسن رأيه. والرأي قبل شجاعة الشجعان"(14).

 

وبسبب الخلاف الصليبي داخل قلعة الشقيف، والحصار الخانق من السلطان بيبرس، أرسلوا سفراءهم إلى السلطان طالبين منه الاستسلام والتسليم، وهو ما تم في 15 إبريل 1268م، في حلقاتنا القادمة سنستكمل الحديث عن إستراتيجية السلطان بيبرس وسلاطين المماليك العظام من بعده في تحرير الشرق الإسلامي من الوجود الصليبي، هذا التحرير الذي تقاعس عن استكماله الأيوبيون بعد وفاة السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب، وتمكن مماليكهم الترك من تحقيقه فيما بعد!

المصدر : الجزيرة