شعار قسم ميدان

البشير الإبراهيمي.. مهندس توأمة الجزائريين بفلسطين

ميادان - الإبراهيمي

"أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين"

(محمد البشير الإبراهيمي)

  

ملمح عن حياة البشير الإبراهيمي
العلامة محمد البشير الإبراهيمي واحد من أهم العلماء المسلمين الجزائريين في العصر الحديث، ولد ونشأ في مدينة سطيف القريبة من قسنطينة سنة 1889م، وقد تعهد به والده، فساعده على الخروج لاستكمال تعليمه في الشرق، في الجزيرة العربية والشام، وذلك في رحلة علمية سنة 1911م، حيث أقام في المدينة المنورة حتى سنة 1917م آخذا على يد علمائها، ومنها انتقل إلى دمشق التي نهل على يد شيوخها حتى سنة 1921م، ثم عاد إلى الجزائر، وقد نشطت حركة صديقه عبد الحميد بن باديس العلمية الإصلاحية.

 

هذه الحركة العلمية الإصلاحية الدينية التي انطلقت بوادرها مع بداية القرن العشرين، ثم تطورت بقيام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالتدريس في قسنطينة، غداة تخرجه من الجامعة الزيتونية بتونس سنة 1913، كان لها أعظم الأثر في المجتمع الجزائري، وقد نضجت هذه اليقظة مع عودة بعض العلماء من مهجرهم بالشرق العربي إلى الجزائر، أمثال أبي يعلى الزواوي، والطيب العقبي، والبشير الإبراهيمي، ثم تبلورت في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931، غداة احتفال فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر، اعتقادا منها أنها قضت على الشخصية الجزائرية نهائيا بقضائها على الإسلام والعروبة فيها.

  

كانت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر منذ إنشائها في ثلاثينيات القرن العشرين وحتى انجلاء الاحتلال الفرنسي في الستينيات ثورة ثقافية نشرت اليقظة، وأدت إلى تحولات مفاهيمية في المجتمع
كانت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر منذ إنشائها في ثلاثينيات القرن العشرين وحتى انجلاء الاحتلال الفرنسي في الستينيات ثورة ثقافية نشرت اليقظة، وأدت إلى تحولات مفاهيمية في المجتمع
  

انتُخب الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسًا للجمعية والإبراهيمي نائبًا عنه، غير أن الاحتلال الفرنسي سرعان ما ضاق ذرعا بنشاط هذه الجمعية المناهض لأهدافه، فقرر اعتقالهم، وقد توفي ابن باديس في قسنطينة سنة 1940م، وفي عام 1943م أفرج عن الإبراهيمي فخرج الرجل بنشاط زائد، وهمة بالغة حيث أسهم في إنشاء 73 مدرسة وكُتّاب في عام واحد كان الهدف من ورائها نشر اللغة العربية من خلال حفظ القرآن الكريم، وعلى إثر هذا النشاط تهافت الجزائريون على بناء المدارس فزادت على 400 مدرسة في تلك الفترة، الأمر الذي جرّ حنق الفرنسيين عليه من جديد، فقبضوا عليه سنة 1945م، لكن أفرج عنه لاحقا، حيث قام بجولات في أنحاء الجزائر لتجديد النشاط في إنشاء المدارس والأندية،  ثم استقر سنة 1952م في القاهرة، وقد اندلعت الثورة الجزائرية الكبرى سنة 1954م، فقام برحلات إلى الهند وغيرها لإمدادها بالمال، وعاد إلى الجزائر بعد انتصارها في الثورة، ورفض الانحياز لطرف ضد آخر من أطراف الثورة، ثم إنه في السادس عشر من (نيسان/أبريل) عام 1964م أصدر بيانه الشهير الذي انتقد فيه السلطة القائمة برئاسة أحمد بن بلة لابتعادها عن المبادئ الإسلامية، وتهديدها وحدة البلاد، فصدر القرار بوضعه تحت الإقامة الجبرية، وظل كذلك حتى وفاته في (مايو/أيار) عام 1965م، وكان من أعضاء المجامع العلمية العربية في القاهرة ودمشق وبغداد.

 

لقد كانت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر منذ إنشائها في ثلاثينيات القرن العشرين وحتى انجلاء الاحتلال الفرنسي في الستينيات ثورة ثقافية نشرت اليقظة، وأدت إلى تحولات مفاهيمية في المجتمع، على أنها لم تنكمش على نفسها وقضيتها الداخلية، وإنما نشرت روح الأخوة والتضامن مع المغرب العربي كله، كما كان لها اتصالها الوثيق مع المشرق العربي وهمومه، وهذا المقال للعلامة البشير الإبراهيمي من جملة مقالات أخرى تناول فيها التآمر العالمي على فلسطين قُبيل النكبة وبُعيدها في عامي 1947م، 1948م، وقد كان من الضروري العودة إلى هذه المقالات وإعادة نشرها لنعرف الأسباب الحقيقية التي ربطت الجزائريين بالقضية الفلسطينية مثل بداياتها وحتى اليوم، فهذا الارتباط كان مبعثه أحد أهم رموز الجزائر في عصرها الحديث محمد البشير الإبراهيمي.

 

تصوير الفجيعة
يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحًا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبراتٍ هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عُنق كل مسلم جزائري لك- يا فلسطين- حقٌ واجبُ الأداء، وذمام متأكِّد الرعاية، فإن فرّط في جنبك، أو أضاع بعضَ حقك، فما الذنب ذنبُه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبلته.

  

يا فلسطين! ملكك الإسلام بالسيف ولكنه ما ساسك ولا ساس بنيك بالحيفِ، فما بالُ هذه الطائفة الصهيونية اليوم تُنكر الحق، فتُزاحم العربيّ الوارث باستحقاق عن موارد الرزق فيك، ثم تَغْلو فتزعم أنه لا شرب له من ذلك المورد
يا فلسطين! ملكك الإسلام بالسيف ولكنه ما ساسك ولا ساس بنيك بالحيفِ، فما بالُ هذه الطائفة الصهيونية اليوم تُنكر الحق، فتُزاحم العربيّ الوارث باستحقاق عن موارد الرزق فيك، ثم تَغْلو فتزعم أنه لا شرب له من ذلك المورد
  

يا فلسطين! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإنّ هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأنّ فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودًا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطًا؛ وإليك إليك ترامت همم الفاتحين، وترامت الأيْنُق الذلل بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوَّة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد إلى منابت الوحى القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله. ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويمًا من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وِرْدًا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهرك من رجس الرومان، كما طهر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان.

 

داست حماك سنابك الخيول البابليَّة، وجاست خلال الديار، وسُبي بنوك (أسلاف الصهيونيين)، فلم ينتصر لك ولا لهم أحد، لولا أن منّ عليهم الفاتحون المستعبدون، وإنالمنّ لأنكى على الحر من الاسترقاق، ثم غزاك الرومان، وأذلُّوا بنيك واشتفَوْا منهم إثخانًا في القتل وانتقامًا- زعموا- من جريرة الصلب، وما ظلمت يا فلسطين، ولكنّ بَنيكِ جرّوا عليك الجرائر، وما كنتِ لتُفْلِتي من براثن الرومان لولا أن انتصف الله لك من عدوّك بالإسلام والعرب، فنصروك وطهّروك وبلُّوا الرحمَ الإبراهيميّة بِبُلالها، ووفَوْا لأبناء العمومة بحقّ القربَى والجوار، وأصبحت من ذلك الحين ملكًا ثابتًا للإسلام، وإرثًا مستحقًا من موسى لمحمد، ومن التوراة للقرآن، ومن إسحق لإسماعيل.

 

يا فلسطين! ملكك الإسلام بالسيف ولكنه ما ساسك ولا ساس بنيك بالحيفِ، فما بالُ هذه الطائفة الصهيونية اليوم تُنكر الحق، وتتجاهل الحقيقة، وتجحد الفضل، وتكفُر النعمة؛ فتُزاحم العربيّ الوارث باستحقاق عن موارد الرزق فيك، ثم تَغْلو فتزعم أنه لا شرب له من ذلك المورد.

 

ما بالُ هذه الطائفة تدَّعي ما ليس لها بحق، وتطوي عشرات القرون لتصلَ- بسفاهتها- وعدَ موسى بوعد "بلفور"، وإن بينهما لَمَدًّا وجزْرًا من الأحداث، وجذبًا ودفعًا من الفاتحين. ما بالُها تدّعي إرثًا لم يَدفعْ عنه أسلافها غارةَ بابل، ولا غزو الرومان، ولا عادية الصليبيين، وإنما يستحق التراث من دافع عنه وحامى دونه، وما دافع بابل إلا انحسارُ الموجة البابلية بعد أن بلغَتْ مداها، وما دافع الرومان إلا عمر والعرب وأبطال اليرموك وأجنادين، وما دافع الصليب وحامليه إلا صلاح الدين وفوارس (حِطِّين).

  

إن الصهيونية فيما بلونا من ظاهر أمرها وباطنه نظام يقوم على الحاخام والصيرفي والتاجر، ويتسلّح بالتوراة والبنك والمصنع (رويترز)
إن الصهيونية فيما بلونا من ظاهر أمرها وباطنه نظام يقوم على الحاخام والصيرفي والتاجر، ويتسلّح بالتوراة والبنك والمصنع (رويترز)

 

إن العرب على الخصوص، والمسلمين على العموم، حرّروا فلسطين مرّتين في التاريخ، ودفعوا عنها الغارات المجتاحة مرّات، وانتظم ملكهم إياها ثلاثة عشر قرنًا. وعاش فيها بنو إسرائيل تحت راية الإسلام وفي ظل حمايته آمنين على أرواحهم، وأبدانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وعلى دينهم، ومن المحال أن يحيف المسلم الذي يؤمن بموسى، على قوم موسى.

 

ما أشبه الصهيونيين بأوّلهم في الاحتياط للحياة، أولئك لم يقنعوا بوعد الله، فقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}، وهؤلاء لم يثقوا بوعد بلفور حتى ضمنت لهم بريطانيا أن يكونوا في ظِل حرابها، وتحت حماية مدافعها وقوانينها؛ وبكل ذلك استطاعوا أن يدخلوا مهاجرين ثم يصبحوا سادة مالكين، ودعْ عنك حديث الإرهاب فما هو إلّا سراب.

 

ولو أنَّ السيوف الإنجليزية أُغمدت، والذهب الصهيوني رجع إلى مكانه، وعرضت القضية على مجلس عدل وعقل لا يَستهويه بريق الذهب، ولا يرهبه بريق السيوف، لقال القانون: إن ثلاثة عشر قرنًا كافية للتملّك بحق الحيازة، وقال الدين: إن أحق الناس بمدافنالأنبياء هم الذين يؤمنون بجميع الأنبياء، وقال التاريخ: إن العرب لم ينزعوا فلسطين من اليهود، ولم يهدموا لهم فيها دولةً قائمة، ولا ثلُّوا لهم عرشًا مرفوعًا، وإنما انتزعوها من الرومان، فهم أحق بها من كل إنسان.

 

فلسطين العربية
إن الصهيونية فيما بلونا من ظاهر أمرها وباطنه نظام يقوم على الحاخام والصيرفي والتاجر، ويتسلّح بالتوراة والبنك والمصنع، وغايتها جمعُ طائفة قُدّر لها أن تعيش أوزاعًا بلا وازع، وقُدِّر لها أن تعيش بلا وطن- ولكن جميع الأوطان لها- فجاءت الصهيونية تحاول جمعها في وطن تُسمِّيه قولًا فلسطين، ثم تُفسِّره فعلًا بجزيرة العرب كلها، فهو في حقيقته استعمار من طراز جديد في أسلوبه ودواعيه وحُججه وغاياته، يجتمع مع الاستعمار المعروف في أشياء، وتفرّق بينهما فوارق، منها أن الصهيونية تعتمد قبل كل شيء على الذهب، تشتري به الضمائر والأرض والسلاح، وتشتري به السكوتَ والنطق، وتشتري به الحكومات والشعوب، تعتمد عليه وعلى الحيلة والمكر والتباكي والتصاغر في حينه، وعلى التنمّر والإرهاب في فرصته.

  

أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين، أو تضعها فى غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها، لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى
أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين، أو تضعها فى غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها، لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى
  

إن فلسطينَ أرضٌ عربيّة لأنها قطعة من جزيرة العرب، وموطن عريق لسلائل من العرب، استقرّ فيها العرب أكثرَ مما استقرّ اليهود، وتمكَّن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية، وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة، وسادتْ فيها العربية أكثر مما سادت العبرية، وما الانتداب الإنجليزي إلا باطل، ليس من مصلحة العرب ولا من مصلحة اليهود، وما الوطن القومي إلا خيال جسَّمتْه الأحلام الدينية، والمطامع المادية، وما منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولجنة التحقيق إلا تعلّات لا تُسكِت ولا تُسَكِّن، وما استمرار الهجرة إلا مدٌّ للحمأة وتأريث للنار، ومَن ضاقت به رحاب الدنيا لا تسعه فلسطين، ومن لفظته حواشي الأرض لا تستقرّ به فلسطين، أمَّا حديث التشريد والمشرّدين من اليهود فهو مشترك إلزام في القضية، وما أكثر المشرَّدين في الأمم الإسلامية، بل ما أكثر المشرَّدين من العرب، فإذا أخذْنا الرحمة بالمشرّدين قاعدةً كان أحق الناس بها مشرّدي العرب الذين لا يفصلهم عنها بحر ولا يقال في هجرتهم إليها إنها شرعية أو بدعية كما يقال في هجرة اليهود، وما ظُلِمت كلمة الشرع بأفحش من نسبة الحيل إليها عند بعض فقهائها، ومن نسبة الهجرة اليهودية إليها عند فقهاء الاستعمار.

 

الجزائر لن تنسَ فلسطين
أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين، أو تضعها فى غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها، لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى، ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى حلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته، هو الذي يُباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم، وهيهات هيهات لما يروم. إن بين دول الاستعمار علائقَ ماسّة، وإنهنّ يتباعدن ما دام خيال الشرق وبنيه والإسلام وأمَمه بعيدًا، فإذا لاح ذلك الخيال حنّت من الاستعمار الدماء، وتعاطفت الأرحام، وتُنُوسِيت الأحقاد، فهلّا فعلنا مثل ما فعلوا؟

 

أيها العرب! إن قضية فلسطين محنةٌ امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تُنال بأنها حق في نفسها، وليست تُنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيّات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة. إن الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابِلوا التصميم بتصميم أقوى منه وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه. وكونوا حائطًا لا صدع فيه … وصفًّا لا يُرقّع بالكُسالى

  
_____________________________________

 
* نشرت في العدد 5 من جريدة «البصائر» الجزائرية، بتاريخ 5 (سبتمبر/أيلول) سنة 1947.

المصدر : الجزيرة