شعار قسم ميدان

كيف واجه الظاهر بيبرس الخطر الأرمني؟

midan - war

قامت مملكة أرمينية الصغرى في جنوب شرقي الأناضول في المنطقة المعروفة بإقليم "قيليقية" أو "كليكيا" الذي تحده من الشرق جبال الأمانوس، ومن جهتي الشمال والغرب جبال طوروس، ومن جهة الجنوب البحر المتوسط وشمال بلاد الشام. إن وجود الأرمن في المنطقة العربية يعود إلى القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، نتيجة هجرة أعداد ضخمة منهم من أقصى شرق الأناضول إلى منطقة خليج الإسكندرونة في جنوب الأناضول (تركيا الآن).

 

الأرمن في المنطقة العربية
لقد أطلق المؤرخون المسلمون على هذا الإقليم عدة تسميات منها "الدرب" لوقوعه على الطريق الذي يصل بين مدينة طرطوس الواقعة على ساحل البحر المتوسط وبلاد الروم "البيزنطيين" (جنوب تركيا الآن على البحر المتوسط) عبر جبال طوروس؛ كما سُميت بـ"منطقة الثغور الشامية" لوقوعها على أطراف بلاد الشام من جهة الإمبراطورية البيزنطية المتماسّة معها من جهة أخرى، وكانت مقرًّا للقوات الإسلامية لصد الغارات والهجمات البيزنطية.
 
 
وسميت بـ "بلاد ابن لاون"، نسبة إلى ملكهم آنذاك ليفون؛ حيث أطلق المؤرخون العرب المسلمون لقب "ابن لاون" على ملوك الأرمن جميعًا؛ كذلك أطلقوا عليها تسمية "بلاد سيس"، نسبة إلى عاصمتهم سيس التي تعد من أكبر المدن الأرمينية حينها، وأيضًا "بلاد التكفور"، حيث أطلقت المصادر العربية لقب التكفور على كل من يعتلي عرش أرمينية الصغرى مثلما لقبوا الإمبراطور البيزنطي بـ"الأشكري" وملك الحبشة بـ"النَّجاشي". وعلى الرغم من تعدد التسميات، فإن المقصود منها جميعًا قيليقية (أرمينية الصغرى). وأشهر مدنها حينئذ طرسوس وإياس والمصيصة ومرسين ومرعش وعينتاب وسيس وأدرنه وأنطاليا وبورسان([1]).

  

لعب الأرمن دورًا خطيرا أثناء الغزو المغولي لبلاد الشام سنة 657هـ/1259م؛ كما كانوا محرضين وداعمين للصليبيين من قَبل ضد المسلمين
لعب الأرمن دورًا خطيرا أثناء الغزو المغولي لبلاد الشام سنة 657هـ/1259م؛ كما كانوا محرضين وداعمين للصليبيين من قَبل ضد المسلمين
  

خضع هذا الإقليم للدولة العربية الإسلامية منذ الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، وازدادت أهميتُه بعد الفتح لموقعه الإستراتيجي؛ إذ اهتم به الخلفاء والأمراء وأجروا فيه تحصينات، وأصبح مُستقرًا للقوات الإسلامية لحماية حدود الدولة من الهجمات البيزنطية. وبعد ثلاثة قرون، بدأت الأوضاع في هذا الإقليم تتغير تَغيُرًا ملحوظًا؛ إذ إن الإمبراطورية البيزنطية، أخذت تستغل فرصة ضعف الدولة الإسلامية في القرن الرابع والخامس الهجري/ العاشر والحادي عشـر الميلادي الذي تزامن مع عودة القوة الإمبراطورية البيزنطية، فاستعاد الإمبراطور نقفور الثاني (352- 359 هـ/ 963- 969 م) سيطرته على مدينة المصيصة وطرسوس وغيرهما من مدن قيليقية، وبذلك يكون هذا الإقليم قد خرج من أيدي المسلمين مُنذئذ([2]).

 

لكن بظهور السلاجقة وانتصارهم على البيزنطيين في معركة ملاذكرد الشهيرة 463 هـ/ 1071م، والتي أُسِر فيها الإمبراطور رومانوس ديوجين تغيّرت الأوضاع السياسية لهذه المنطقة. ونتيجة لهذه الظروف التي مرت بها المنطقة الشرقية من الأناضول والقوقاز الجنوبي وتحت الضغط البيزنطي والسلجوقي الذي عاناه الأرمن في أرمينيا الكبرى، هاجر عدد كبير منهم غربا إلى منطقة كبدوكيا وجبال طوروس في قيليقية لبُعدها عن مناطق الصراع. وبعد ازدياد خطر السلاجقة وسيطرتهم على تلك المناطق، انتشر الأرمن في آسيا الصغرى وخاصة في الجزء الجنوبي الشرقي من الأناضول. وعلى أثر ضعف الإمبراطورية البيزنطية في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشـر الميلادي، أخذ نفوذ الأمراء الأرمن الذين عينهم الأباطرة البيزنطيون حكّامًا محليين على الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية في الازدياد والتوسع مؤسّسين بذلك إمارات مستقلة أو شبه مستقلة عن سيادة الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت تلك المنطقة يُطلق عليها منذ ذلك الحين "أرمينية الصغرى" تمييزا لها عن "أرمينية الكبرى" في أقصى شرق الأناضول([3]).

 

بيبرس يواجه الأرمن
لعب هؤلاء الأرمن دورًا خطيرا أثناء الغزو المغولي لبلاد الشام سنة 657هـ/1259م؛ كما كانوا محرضين وداعمين للصليبيين من قَبل ضد المسلمين، وظلوا يمثلون تهديدا لبلاد الشام والأناضول لمدة قرنين حتى مجيء الدولة المملوكية، وقد بدأت أولى محاولاتهم في التحرش واختبار قوة المماليك في سلطنة الظاهر بيبرس سنة 662هـ/1264م حينما أرادوا الاستيلاء على مدينة عين تاب (غازي عينتاب) الإستراتيجية التابعة إداريًا لولاية حلب آنذاك، وعلى وجه السرعة وجّه الظاهر بسـرعة إرسال فرقة عسكرية كبيرة لردّ عادية الأرمن، وقد تكوّنت هذه الفرقة من حاميتي عساكر حمص وحماة، ولما تقابل الفريقان سرعان ما هُزم الأرمن، فاستنجد ملكهم هيثوم بالمغول، فأرسل إليه المغول نجدة مكونة من سبعمائة فارس كانوا قريبين منه في بلاد سلاجقة الروم في قلب الأناضول، وكانت تخضع للاحتلال المغولي، وقد تمكن بمساعدتهم من محاصرة حارم شمالي حلب، غير أنه عاد قسـرًا إلى بلاده بسبب الثلج والمطر([4]).

  undefined

   

ومثلما اتبع الظاهر بيبرس خطة واضحة معدة مسبقة أمام الصليبيين والمغول، فقد وضع الخطة ذاتها لإضعاف وهزيمة الأرمن، وكانت خطة عبقرية بحق؛ إذ استطاع أن يواجه القوى الثلاث ويتغلب عليها جميعا في معارك منفصلة، وأوقات متفاوتة، دونما استنزاف لقواته وعتاده.

 

إننا نراه عقب استرداد قلعة صفد الإستراتيجية سنة 664هـ/1266م من الصليبيين يأمر جيشه بالتوجه صوب سِيس عاصمة الأرمن، وهي مدينة حصينة كانت تقع بين أنطاكية جنوبًا وطرسوس شمالًا، فخرجوا من دمشق وعلى رأسهم الملك المنصور الأيوبي صاحب حماة، ودخلوا في مضائق أو مسالك قيليقية المعروفة بالدروب، وتمكنوا من الوصول إلى العاصمة، وهناك التقوا بالجيش الأرمني على جبل مرتفع، وبعد معركة طاحنة، انهزم الأرمن، وأسر أحد أولاد الملك هيثوم وهو الملك ليفون، وكان والده قد ملّكه وانقطع هو مترهبًا في الجبال، وقتل عدد من أولاد الملك هيثوم وإخوته وأمرائه. واستطاع المسلمون أن يدخلوا إلى العاصمة ويغنموا كل ما فيها، وفي ذلك يقول المؤرخ النويري: "طلعت العساكر [المملوكية] في رؤوس الجبال، فلما وقعت العين في العين أُسر الملك ليفون، وقُتل أخوه وعمه، وانهزم كندا سطبل عمه الآخر، وأُسر ولده، وهرب صاحب حموص (بلدة في أرمينية). وكان فيهم اثنا عشر ملكا تمزقوا كل ممزق، وقُتلت أبطالهم"([5]).

 

أرسل هيثوم عقب هذه الفاجعة وفدًا دبلوماسيًا رأَسَه أخوه فاسك شافعًا في تحرير ولده، ووافق السلطان بيبرس شريطة:

– أن يرسل هيثوم إلى المغول ليتوسّط في إطلاق سراح الأمير سنقر الأشقر، وكان من أصدقاء بيبرس المقربين المأسورين، وقد حبسه الملك الناصر الأيوبي في قلعة حلب قُبيل الغزو المغولي في الشام سنة 657هـ، فأُسر وظل عند المغول في بلاد فارس، وكان المغول على تحالف مع الأرمن ضد المماليك.

– أن يردّ هيثوم القلاع والحصون التي كانت تابعة إداريًا لولاية حلب الكبرى في زمن الدولة الأيوبية، وهي دربساك وبهسنا ومرزبان ورعبان وكلها شمال حلب([6]).

إن هذين الشرطين الذين وضعهما السلطان الظاهر بيبرس كانا يحققان غرضين أسياسيين:

الأول: إذلال الملك الأرمني أمام حلفائه من المغول، حينما يرونه متذللًا لهم في إطلاق سراح الأمير المملوكي، ومن ثم يصبح أقل شأنا لديهم.

الثاني: زيادة تأمين الحدود الشمالية من الدولة المملوكية باسترداد القلاع والحصون الإستراتيجية والمهمة والمدافعة عن الدولة.

 

ضربة بيبرس القاصمة
أبدى الملك الأرمني موافقته على شرط السعي في إطلاق سراح الأمير سنقر الأشقر، ورفض الشرط الثاني برد القلاع والحصون التي استولى عليها، بعدما تحصّل على سنقر الأشقر من المغول بالفعل، فأرسل له بيبرس في حزم قائلاً: "إذا كنتَ تقسو على ولدك وولي عهدك، فأنا أقسو على صديقٍ ما بيني وبينه نسب، ويكون الرُّجوع منك لا مني. ونحن خلف كتابنا فمهما شئتَ افعل بسنقر الأشقر"([7]).

  

كانت الضربة المملوكية لأرمينية في سنة 673هـ/1275م بمثابة الضربة القاضية والقاصمة لهم، فلم نرهم ثانية بقية عصر السلطان الظاهر بيبرس
كانت الضربة المملوكية لأرمينية في سنة 673هـ/1275م بمثابة الضربة القاضية والقاصمة لهم، فلم نرهم ثانية بقية عصر السلطان الظاهر بيبرس
  

خاف الملك الأرمني على ولده، وأذعن للشرطين، وبدأت عمليات التسليم والتسلم بين الجانبين، وعاد سنقر إلى أحضان صديقه بيبرس الذي استقبله أفضل استقبال، وجعله أميرًا من كبار أمرائه، وفرح به وكافة الأمراء لشجاعته ونباهته وسابق العشرة بينهم. لم يشأ بيبرس أن يُطيل أمد الهدنة بينه وبين الأرمن، فعقب إنزاله بالمغول هزيمة قاسية عند نهر الفرات، وشعوره بالأمان نحوهم عقب ذلك سنة 671هـ، أمر في العام 673هـ بأن يخرج الجيش المملوكي في حلب للهجوم المباغت على بلاد الأرمن، فامتثلوا الأوامر العسكرية، ووصلت غاراتهم حتى مدينة مرعش في عمق المملكة الأرمنية([8]).

 

كان هجوم العساكر الحلبية بمثابة إنذار لما هو قادم، حيث أرسل بيبرس الأميرين الكبيرين قلاوون الألفي الذي صار سلطانًا فيما بعد، والأمير بيليك الخازندار على رأس جيش قوي إلى أرمينية، فهاجموا عدة مدن أرمنية من أهمها المُصيصة، ثم جاء السلطان بيبرس بنفسه على إثرهم لإكمال عملية السحق والسيطرة كما فعل بأنطاكية من قبل، فوصل بيبرس إلى سيس عاصمة الأرمن بعد أن اقتحمتها القوات المملوكية في 21 رمضان سنة 673هـ/(مارس/آذار) 1275م([9])، وهنا نترك المؤرخ تقي الدين المقريزي يروي لنا بعض تلك الأحداث قائلا عقب دخول المماليك العاصمة الأرمنية :"انتهبها وهدم قصور التكفور (ملك الأرمن) ومناظره وبساتينه، وبعث إلى دربند الرّوم (طريق في جنوب الأناضول) فأحضر إليه من سبايا التتار عدَّة نساء وأولاد، وسيّر إلى طرسوس فأُحضـر إليه منها ثلاثمائة رأس من الخيل والبغال، وبعث إلى البحر عسكرًا، فأخذ مراكب وقتل من كان فيها.

  

وانبثّت الغارات في الجبال فقتلوا وأسروا وغنموا. وبعث السُّلطان إلى أياس (أكبر موانئ الأرمن وقتها) بالعساكر وكانت قد أُخليت فنهبوا وحرّقوا وقتلوا جماعة، وكان قد فرّ من أهلها نحو الألفين ما بين فرنج وأرمن في مراكب فغرقوا بأجمعهم في البحر، واجتمع من الغنائم ما لا يحصره قلم؛ لكثرته.. فرحل السُّلطان من سيس إلى المصيصة من الدربند فلمَّا قطَعَه جعلَ الغنائم بمرج أنطاكية حتَّى ملأته طولًا وعرضًا، ووقفَ بنفسه حتَّى فرّقها ولم يترك صاحب سيفٍ ولا قلم حتَّى أعطاه ولم يأخذ لنفسه منها شيئا"([10]).

 

كانت هذه الضربة المملوكية لأرمينية في سنة 673هـ/1275م بمثابة الضربة القاضية والقاصمة لهم، فلم نرهم ثانية بقية عصر السلطان الظاهر بيبرس، الذي نتلمس من إستراتيجيته العسكرية عزمه كل العزم على مناوأة وسحق كل من كان يمثل خطرا أمام الدولة المملوكية أيًا كان وزنه السياسي والعسكري، خاصة إذا كان من الذين أعانوا الصليبيين والمغول على قتل المسلمين وكشف مكامن ضعفهم كالأرمن بالتحديد، وفي تقاريرنا القادمة سنستكمل الحديث عن عصر السلطان بيبرس وبطولاته التي سجلتها مصادر تاريخ تلك الحقبة.

المصدر : الجزيرة